زوربا
05-17-2006, 05:33 PM
مركز يافا للدراسات والأبحاث - القاهرة
البرنامج البحثى الاعلامى للتدويل الإسلامى للأماكن المقدسة
كتابات - إعداد / عبد الحميد غانم
مقدمة :
الوهابية كفكرة ودعوة قامت على أساس من التشدد والتزمت الدينى والسياسى فصبغت نفسها بصبغة الإسلام ورفعت شعارات الالتزام والمبدئية وإن كانت فى الحقيقة هى غير أو عكس ذلك .
وعلى هذا الأساس قامت وتأسست دولة السعوديين والتى لم تقم فى مرحلتها الأولى – برضا الأهالى أو عن طريق الحرية والديمقراطية والإقناع إنما بالقهر والظلم وعلى أجساد البشر ، حيث تأسست الدولة السعودية الأولى بعد تحالف محمد بن سعود مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب عام 1158 هـ - 1744م فى الدرعية ، وهو تحالف بين مشروعين .. دينى وسياسى ، ومن الدرعية انطلق آل سعود فى بناء دولتهم – والتى لعبت الوهابية دوراً مهماً وأساسياً فى تكوينها وفكرها ومنهجها وتشكيل شخصيتها الدينية والسياسية – يفتكون بغيرهم فى المدن والمناطق الأخرى بحجة أنهم كفرة ومشركون حتى أُخضعوا بالقهر وبحد السيف – كما يقول بعض المفكرين والعلماء السعوديين – وكونوا دولتهم التى امتدت من اليمن جنوباً إلى عمان والبحرين وقطر والأحساء شرقاً إلى حدود العراق والشام شمالاً إلى الحجاز غرباً.
والوهابيون – كما هو معروف – يكفرون كل المسلمين ولا يعتبرون بلاد المسلمين داراً للإسلام عدا دارهم هم (نجد) ويشمل ذلك البقاع المقدسة ؛ مكة والمدينة المنورة والقدس الشريف حيث يرونها بلاد كفر وشرك وزندقة لا تجوز الإقامة فيها إلا إذا كانت تحت ولايتهم إضافة إلى أنهم – وكما هو معروف أيضاً – لا يرون غيرهم مسلماً لكن البقاع التى تصير تحت سيطرتهم بعد غزوها وتكون لهم السيادة عليها تصبح جزءاً من بلاد الإسلام أما قاطنوا تلك الديار فيبقوا كفاراً – تحت السيطرة والوصاية السعودية / الوهابية – كما هو الحال اليوم بالنسبة لمناطق المملكة فى الغرب والشرق والجنوب وهذا التشدد والغلو الوهابى بطبيعة الحال تنعكس آثاره على الأماكن المقدسة وحجاج بيت الله الحرام .
وفى هذه الدراسة نحاول رصد مثالب الوهابية وتشددها تجاه قضايا الأماكن المقدسة وكيف أنها صارت بيئة خصبة تفرز العنف والتطرف والإرهاب وتحاول الدراسة وضع حلول وأفكار جديدة تواكب التطور والعصر الذى نعيشه فليس قدراً علينا أن نتمسك بأفكار وفتاوى الماضى جامدة كما هى دون تطوير وتجديد ، وتحاول الدراسة أيضاً قلب مفاهيم سائدة وسد ثغرة يجب سدها ألا وهى السلوك السلبى للدعوة الوهابية .
وعلى هذا الأساس قسمنا هذه الدراسة الى خمسة أقسام الأول : يتحدث عن نشأة الوهابية ودورها فى تكوين دولة السعوديين فى مراحلها الثلاث ، والثانى : يتحدث عن دور الوهابية كغطاء سياسى ، أما الثالث : فيتحدث عن الأفكار الوهابية المتشددة كبيئة خصبة تعزز الإرهاب كما هى الحال بالنسبة لأسامة بن لادن وسلفيين آخرين اتخذوا العنف سبيلاً لتحقيق أهدافهم وأما القسم الرابع : فيدور حول كيف تصعب الوهابية بأفكارها وفتاواها المتشددة من عملية الحج والعمرة والقسم الخامس والأخير : فيدور حول وضع حلول وأفكار جديدة مناسبة لما سبق .
وبطبيعة الحال هذه المثالب التى سنذكرها فى هذه الدراسة أدت إلى أن تكون المقدسات فى مكة والمدينة سعودية فقط ووهابية فقط وهذه المثالب التى أذكرها أيضاً فى هذه الدراسة لها صلة بالقضية الكبرى للدفاع عن المقدسات وحمايتها من المخاطر الأمريكية الصهيونية التى باتت واضحة وموثقة وهو ما يجعلنا ومن خلال هذه الدراسة نطالب بحتمية التدويل الفقهى والإشرافى على الأماكن المقدسة فى مكة والمدينة للتيسير والتسهيل على الحجاج أولاً ولمواجهة المخاطر التى تحيق بهذه المقدسات ثانياً وعلينا التعامل بعقلانية وتعقل مع هذه الأمور وإلا ستظل هذه المخاطر الصهيونية الأمريكية قائمة .
أولاً : نشأة الوهابية :
كما أسلفنا فى المقدمة وكما هو معروف – الوهابيون يكفرون كل المسلمين ولا يعتبرون فى بلاد المسلمين داراً للإسلام عدا دارهم هم (نجد) ويشمل ذلك البقاع المقدسة فى مكة والمدينة المنورة والقدس الشريف حيث يرونها بلا كفر وشرك وزندقة لا تجوز الإقامة فيها إلا إذا كانت تحت ولايتهم ووصايتهم إضافة إلى أنهم – وكما هو معروف أيضاً – لا يرون غيرهم مسلماً لكن البقاع التى تصير تحت سيطرتهم بعد غزوها وتكون لهم السيادة عليها تصبح جزءاً من بلاد الإسلام ، أما قاطنو تلك الديار فيبقون كفاراً – تحت السيطرة والوصاية الوهابية / السعودية – كما هى الحال اليوم – كما يقول بعض العلماء السعوديين – بالنسبة لمناطق المملكة فى الغرب والشرق والجنوب .
ولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب فى العيينة (نجد) وتأثر ابن عبد الوهاب بأستاذه ابن تيمية وسار على منهجه وفكره ووجد بن عبد الوهاب فى آل سعود أرضاً خصبة لفرض دعوته أو مذهبه الذى أنكره معاصروه من العلماء والفقهاء كما أنكروا على ابن تيمية أخذه بالتجسيم ورفض الشفاعة والتقرب إلى الله عن طريق الأئمة والأولياء بل أنه أنكر كل ما ذكره القرآن الكريم فى هذا المجال وحرف الأحاديث النبوية لتتناسب وهوى دعوته الوهابية (1) .
كان الشيخ بن عبد الوهاب يريد أن يظهر دعوته أثناء عهد والده شيخ (العيينة) إلا أن والده كان يعارض توجهات وأفكار ابنه وواجهه بحزم فى هذا الأمر – كما يقول خليفة فهد فى كتابه " جحيم الحكم السعودى ونيران الوهابية " – لما وجد عنده من تطرف فى تكفير المسلمين .
ويذكر الدكتور العثيمين فى كتابه عن محمد بن عبد الوهاب ودعوته أن المؤرخين الموالين لآل سعود وللدعوة الوهابية لا يريدون الخوض فى تفاصيل هذا الموضوع ، وطرح بصراحة أن الأب كان معارضاً لدعوة ابنه ولم يقتصر الأمر عند الشيخ " عبد الوهاب " الذى كان معارضاً لدعوة ابنه محمد وأفكاره وإنما أيضاً أخو صاحب الدعوة ، وهو الشيخ سليمان بن عبد الوهاب أيضاً .. هذا الشيخ ألف كتاباً يفند أفكار أخيه ، باسم (الصواعق الإلهية فى الرد على الوهابية) ، وظل يقارع الحجة بالحجة ، وعند دخول الجنود السعوديون للمناطق النجدية، حاول التصدى لهم وإثارة الأهالى فى حريملاء فثاروا عام 1165 هـ فهاجمتهم قوات الأمن السعودية فصدوها ، ثم ما لبثوا أن هاجموا الدرعية عام 1166هـ وفى عام 1168 هـ دخلها عبد العزيز بن محمد بن سعود وعلى أثرها اقتيد الشيخ سليمان ابن عبد الوهاب ليقضى بقية حياته فى الإقامة الجبرية – أو السجن – على يد أخيه محمد بن عبد الوهاب (2) .
بدايات الظهور :
وصلنا إلى ملامح الانطلاقة الأولى للدعوة الوهابية فى النصف الأول من القرن الثامن عشر الميلادى وتحديداً مع بداية نشاط الشيخ محمد بن عبد الوهاب فى منطقة نجد .
يقول إبراهيم الهطلانى فى كتابه (كتابات عاصفة فى الفكر والسياسة) : كانت منطقة نجد على المستوى السياسى مقسمة الى عدة مناطق نفوذ عائلى وقبلى فعلى سبيل المثال كانت الرياض تخضع لحكم دهام بن دواس والعيينة تحت حكم آل معمر وفى الشمال " آل على " أما القصيم (بريدة) فيحكمها جحيلان بن حمد وفى الاحساء بنو خالد وقبائل بنو يام وزعيمهم المكرمى فى نجران والحجاز تحت حكم الأشراف بينما لم يتعد نفوذ آل سعود حدود الدرعية كما كانت الحياة اليومية لأهل نجد تختلف الى حد بعيد عن أوامر ونواهى الدين الإسلامى وتتداخل عباداتهم وعقائدهم مع بعض التصورات والتصرفات الموروثة والمنقولة إليهم من خارج حدود أراضيهم ؛ هذا الوضع الدينى والاجتماعى أثار فى نفس الشيخ محمد بن عبد الوهاب روح الغيرة والمبادرة نحو الإصلاح – إصلاح الوضع الدينى الذى وصفه الشيخ بن غنام – وكان من المقربين للشيخ – بقوله : إن أكثر المسلمين قد ارتكسوا فى الشرك وارتدوا على الجاهلية وانطفأ فى نفوسهم نور الهدى فقد كانوا فى نجد يقصدون قبر الصحابى الجليل زيد بن الخطاب رضى الله عنه فى (الجبيلة) يدعونه لتفريج الكرب وكشف النُواب وقضاء الحاجات .
بدأ بن عبد الوهاب دعوته فى (حريملاء) فتبعه البعض وعاداه آخرون من أهل البلدة وحاولوا الاعتداء عليه ، وعندما أحس الشيخ بالتهديد المباشر على حياته وعلى دعوته انتقل إلى العيينة وعرض دعوته على أميرها عثمان بن حمد بن معمر الذى قبل كلام الشيخ بل كان يشاركه فى إزالة المخالفات الدينية المنتشرة بين أهل العيينة (3) .
ولكن خليفة فهد يقول إن أمير العيينة عثمان بن معمر تردد كثيراً فى تأييد دعوة بن عبد الوهاب حيث كان أهالى نجد وغيرها من المناطق لا يتقبلون الدعوة الوهابية ثم لما أعلن بن معمر التأييد للشيخ قام الناس والعلماء وحكام النواحى ضده وطالبوه بأن " أخرج بن عبد الوهاب وإلا فإن ملكك زائل " .
وهناك رواية أخرى ذكرها إبراهيم الهطلانى تقول : استقر الشيخ فى العيينة وتزوج فيها الجوهرة بنت عبد الله بن معمر مع مواصلته دعوته – وهذا حتى وصل خبر الشيخ بن عبد الوهاب إلى سليمان بن محمد بن غرير آل حميد زعيم بنى خالد فى الاحساء وكان الخبر يحمل فى طياته نذر الخطر والتحذير من هذه الدعوة الوهابية الجديدة .
وعلى أثر ذلك أرسل (بن حميد) إلى بن معمر طالباً منه قتله الشيخ بن عبد الوهاب أو طرده" فإن لم تفعل ذلك قطعنا خراجك الذى عندنا فى الاحساء " .
وفى فترة بقاء ابن عبد الوهاب القصيرة فى العيينة ، هدم القبب وأعلن تكفيره للناس ، وطلب من مؤيديه أن يجددوا حجتهم ويقضوا صلواتهم لأنهم كانوا مشركين .
وزعمت الكتب الموالية أن امرأة جاءت إلى محمد بن عبد الوهاب وطلبت منه أن يرجمها لأنها ارتكبت جريمة الزنا .. بينما ابن عثيمين يقول إنه من الصعب تصديق أنها جاءت إليه طائعة وتذكر الكتب المخالفة أن شروط إقامة حد الرجم لم تكن كاملة وقائمة على تصورات غير صحيحة (4) .
وهنا هب سكان العيينة لإخراج الشيخ بن عبد الوهاب من مدينتهم التى تعتبر حاضرة نجد بعد رسالة حاكم الإحساء لابن معمر التى هدده فيها بالاستيلاء على أملاكه ومنعه من الوصول إلى الشاطىء الشرقى ، وهنا يتحدث صاحب كتاب " لمع الشهاب " وحسين خزعل عن إخراج محمد بن عبد الوهاب من العيينة فيقولان : اتفق رأى الجميع على إخراجه من بيته قهراً ، حتى بنو أعمامه عزموا على ذلك ، فنادى مناد يوم الجمعة أن بعد صلاة الجمعة اجتمعوا على إخراج محمد بن عبد الوهاب من بلدتكم فإن أبى فاقتلوه ، فلما سمع اخوه على بن عبد الوهاب وكان هو غير عالم ، جاء إلى أخيه محمد وقال له : يا أخى أنصحك أن تطلع هذا اليوم من اليمامة وتمضى إلى حيث شئت ، فإن أرض الله واسعة ، فاستحسن رأى أخيه " على " وقال : كيف المسير هذا فى وسط النهار ، وأنا لا أخرج من بين عشيرتى وقومى وبلادى إلا بجميع أهلى وعيالى ومالى ؟ وأخشى أن يعترضنى أحد من سفهائهم ، والغيرة تمنع القبول بذلك . اذهب إلى على بن ربيعة وعبد الله بن حسين (على بن ربيعة هو من كبار بنى تميم من قبيلة بنى سعد ، وعبد الله بن حسين هو ابن عم محمد بن عبد الوهاب وهما من قادة المعارضين) وخذلنا ذمة وأمانا منهم فإن أعطوك ذلك خرجنا هذه الساعة ، وإن عرفت منهم ما ينكر الحال فإن دفع المصائب واجب ، وخرج الشيخ وأسرته ومن تبعه فى ذلك اليوم قبيل غروب الشمس.
من هنا يتضح أن لا دور لعثمان بن معمر فى إخراج محمد بن عبد الوهاب ، رغم أنه كان يفضل خروجه ، لكنه لم يضغط عليه ليخرج بسبب أنه تعهد بحمايته ورغم ذلك قتلوه فيما بعد!
محمد بن عبد الوهاب فى الدرعية :
خرج ابن عبد الوهاب بعد طرده من العيينة قاصداً الدرعية ، فوصلها وقت العصر فقصد إلى بيت محمد بن سويلم العرينى ، فلما دخل عليه ضاقت عليه داره ، وخاف على نفسه من محمد بن سعود فوعظه الشيخ بن عبد الوهاب وأسكن جأشه ، وقال سيجعل الله لنا ولك خرجاً ومخرجاً (5) .
لم تكن الدرعية بالبلد الذى بإمكانه أن يكون منطلقاً للوهابية فقد كانت صغيرة قليلة السكان بعيدة عن أحوال نجد السياسية ، ولم تكن أيضاً ذات ثقل سياسى مؤثر .. فلم يكن ما فيها ما يغرى ابن عبد الوهاب للقدوم ، يقول صاحب كتاب " لمع الشهاب " : (فهيأ ابن عبد الوهاب نفسه وعياله ومن تبعه للخروج ، فخرجوا ذلك اليوم قبيل غروب الشمس ، فأتوا الوادى ، وهو قرية محمد بن سعود وكان جملة ماضيه من السكن سبعين بيتاً ، وهو الموضع الذى يسمى الآن الدرعية) وسبعون بيتاً توحى بقلة السكان وربما قلة الموارد وبالضرورة الضعف العسكرى والوزن السياسى ، واتفق أغلب الكتاب والمؤرخين على أن الدرعية فى الوقت الذى هاجر فيه إليها ابن عبد الوهاب وأهله لم يكن لها وزن سياسي ولا اقتصادى ولا كان عدد سكانها كبير كالعيينة ، ولا كان لحكامها ميزة خاصة .
ويقول خليفة فهد فى كتابه (جحيم الحكم السعودى ونيران الوهابية) : " بإمكاننا الجزم بأن معارض الوهابية قد توقعوا يوم ذهب ابن عبد الوهاب للدرعية أن تكون مقبرة له ولأفكاره ، وحسبوا أنهم آمنوا على أنفسهم وأعراضهم ومصالحهم حين انزوى فى تلك القرية التى لا ذكر لها فإنهم لم يكونوا ليهتموا بها وبه ، وتصوروا أنه مهما كان نشاطه وتحركه ودعوته (الوهابية) فإنها لن تتجاوز إطار القرية وسكانها كما أنها لن تؤثر على أوضاعهم الخاصة لذا تغافلوا عنها وأعتقدوا بأن كل شىء انتهى .
لكن السؤال الذى يطرح هنا لماذا كان لجوء ابن عبد الوهاب للدرعية ؟ هل يعود ذلك لموقف إيجابى أبداه حاكمها محمد بن سعود وأنه حاكم يتمتع بصفات محترمة وجيدة جعلت ابن عبد الوهاب يتوسم فيه الخير لدعوته ؟
هناك رأيان فى هذا الأمر الأول : وهو إجماع بين الباحثين على أنه : (لم يكن لآل سعود شأن يذكر قبل أن يتبنوا الدعوة الوهابية) (6) وأنه لولا الدعوة الوهابية (لما كان لآل سعود من ذكر فى التاريخ أكثر من دهام بن دواس) (7) حاكم الرياض بل أقل !
أما الرأى الآخر فيقول : إن حاكم الدرعية (محمد بن سعود) رجل كريم شهم ، ذو نفس طيبة، لذا طارت شهرته فى الآفاق ، ووصلت إلى مسامع محمد بن عبد الوهاب فقرر أن يسافر الى الدرعية (لأن أميرها محمد بن سعود رجل عاقل) وهو ما نقله لنا خليفة فهد عن د. بكرى شيخ أمين وينقل لنا خليفة فهد أيضاً عن صاحب كتاب (داعية التوحيد) الذى أفرط فى المدح لمحمد ابن سعود فيقول (ووقعت عين ابن عبد الوهاب وبصيرته على محمد هذا لا لما عليه من المقدرة والسعة فى الرزق والزروع والنخيل والأنعام (لا يستطيع أحد أن يثبت ذلك ، فالدرعية بلد فقير منهك اقتصادية) بل لما كان عليه من السخاء وحب الخير وقد عرف من سخائه أنه كان يسد عن الغارم دينه ويعطى صداق الزوجات ومهور الأزواج من بيت المال ، كما كان يفعل عمر بن عبد العزيز) !!
وهذه المحاسن فى ابن سعود رآها الشيخ ابن عبد الوهاب أنه أصلح الأمراء لقبول مذهبه – كما يقول عبد العزيز سيد الأهل – فى تجريد التوحيد من شوائبه ، كما رآه أهلاً للذود عنه والاقتدار على إذاعته ونصرته (8) .
أما العلامة " ابن بشر " وهو أفضل من كتب تاريخ الجزيرة العربية بشهادة العدو والصديق فلنعد قراءة ما قاله : (وأما الشيخ فإنه سار إلى الدرعية ، فوصل إلى أعلاها وقت العصر، فقصد إلى بيت محمد بن سويلم العرينى ، فلما دخل عليه ضاقت – لاحظ كلمة ضاقت – عليه داره وخاف – لاحظ أيضاً كلمة خاف – على نفسه من محمد بن سعود فوعظه وأسكن جأشه وقال سيجعل الله لنا ولك فرجاً ومخرجاً – فعلم به خصائص من أهل الدرعية فزاروه خفية ، فقر لهم التوحيد واستقر فى قلوبهم ، فأرادوا أن يخبروا محمد بن سعود ويشيروا عليه بنصرته فهابوه) .
إذن لقد كان الناس يخشون محمد بن سعود ويخافونه (وكان شديداً غليظاً عليهم لدرجة أن أحدهم يخشى استقبال محمد بن عبد الوهاب ويخاف على نفسه .. بل إن ابن عبد الوهاب ذاته كان فى أزمة (سيجعل الله لنا ولك فرجاً ومخرجاً) فأين : (وقعت عين ابن عبد الوهاب وبصيرته على محمد هذا ؟) وأين (هذه المحاسن – التى رآها الشيخ – فى الأمير ابن سعود) حتى يعتبره (أصلح الأمراء) ؟! (9) .
على أى حال كما يقول الباحثيون فإن ابن عبد الوهاب لم يقصد الدرعية لأجل سواد عيون ابن سعود أو حباً فيه أو فى الدرعية وأهلها ولكن لأنه كما يقول حسين خلف الشيخ خزعل (ما كان أمر محمد بن عبد الوهاب والدعوة التى يدعو إليها مجهولاً فى الدرعية بل كانت الدرعية تعرفه معرفة جيدة وكان له الكثير فيها من الأنصار والأتباع والمريدين الذين كانوا يترددون عليه فى العيينة ويحضرون حلقات دروسه ويأخذون عنه ، منهم ثنيان ومشارى وفرحان ، اخوان الأمير محمد بن سعود ، والشيخ أحمد بن سويلم العرينى وقاضى الدرعية عبد الله بن عيسى ، وكثيرون وغيرهم وكانت له اتصالات بعبد العزيز بن محمد ابن سعود (10) .
وهناك من يقول أنه لم يكن له أتباع ومريدون فى الدرعية وأن ابن سعود رفض استقباله وملاقاته فى بادىء الآمر .
اللقاء الأول :
من الواضح لمن تتبع تاريخ الجزيرة العربية فى فترة ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وانتقاله إلى الدرعية ، أن الأمير محمد بن سعود رفض فى بادىء الأمر ملاقاته واستقباله وكما يقول خليفه فهد صاحب كتاب (جحيم الحكم السعودى ونيران الوهابية) إن الكثير من الكتاب السعوديين عللوا ذلك بأمور مختلفة وكل منهم قدم تبريرات أغلبها لا تصمد أمام الحقيقة والواقع ، ولو فتشنا عن أسباب الرفض الأولى لاستقبال ابن عبد الوهاب رغم توسط أشقاء الأمير ، لرأينا أن السبب يعود إلى خوفه على ملكه إلى أن أقنعته زوجته بأن وجود زعيم المذهب الوهابى معه يعتبر (غنيمة من الله) ساقها إليه وأنها ستساهم إلى حد كبير فى تدعيم ملكه ، وليس العكس ، وهذا ما سنراه بوضوح فى تأثير العامل المادى والسياسى على الاتفاق الذى تم فيما بعد بين الاثنين .. حيث يقول عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم مؤلف كتاب (الدولة السعودية الأولى) : إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب انتقل فى اليوم التالى – من قدومه الدرعية – إلى دار تلميذه الشيخ أحمد بن سويلم الذى عمر بيته بأنصار الشيخ ومريديه ، وكان من بينهم ثنيان ومشارى شقيقا الأمير محمد بن سعود اللذان حاولا إقناع أخيهما – الأمير بمقابلة الشيخ فتردد بادىء الأمر فلجأ الإخوان الى زوجته موضى بنت أبى وطيان من آل كثير وكانت ذات فطنة وذكاء فأخبراها بما يدعو إليه الشيخ ، وبأهداف دعوته، فارتاحت نفسها لما سمعت من أخبار محمد ابن عبد الوهاب ثم اختارت الوقت المناسب للتحدث الى زوجها فى هذا الأمر وقالت له : إن هذا الرجل ساقه الله إليك وهو غنيمة فاغتنم ما خصك الله به فاقتنع الأمير بقولها ودعا أخاه مشارى وطلب منه أن يدعو الشيخ لمقابلته ، ولكن مشارى استعطف أخاه الأمير فى أن يسير بنفسه لمقابلة الشيخ وقال : سر إليه برجلك وأظهر تعظيمه وتوقيره ليسلم من أذى الناس .
والمصادر السعودية فى مجملها تثبت ما ذكر سابقاً من أن الأمير رفض فى بادىء الأمر الدعوة الوهابية وصاحبها إلى أن اقتنع بأن الشيخ (غنيمة) لا تضر ملكه بل تعززه ، فوافق على لقائه ، ولعل العبارة التى قالتها زوجة الأمير محمد بن سعود له : إن هذا الرجل ساقه الله إليك غنيمة فاغتنم ما خصك الله به كانت محور أو جوهر السياسة التى اتخذها الأمير محمد بن سعود – حيال الدعوة السلفية – فقد اعتبرها دعوة دين ودنيا وهذا القول فيه بعض الصحة فقد كان منظار ابن سعود تجاه الدعوة الوهابية وصولياً ، فهى دعوة ظاهرها الدين إلا أن محمد بن سعود اتخذها مطية للدنيا وتوسيع رقعة الحكم وهذا هو رأى أغلب الباحثين والمؤرخين .
وعن هذا اللقاء بين الشيخ والأمير يقول الباحثون : سار محمد بن سعود إلى بيت الشيخ أحمد بن سويلم ومعه ابنه عبد العزيز وإخوته الثلاثة : ثنيان ومشارى وفرحان ، وما إن وصل رحب بمحمد ابن عبد الوهاب وقال : (أبشر ببلاد خير من بلادك ، ابشر بالعز والمنعة) فرد عليه : (وأنا أبشرك بالعز والتمكين ، وهذه كلمة لا إله إلا الله ، من تمسك بها وعمل بها ونصرها ملك بها البلاد والعباد وهى كلمة التوحيد وأول ما دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم) .
بعدها جلس الشيخ يحدث الأمير محمد بن سعود عن دعوة الرسول وسيرته – هو وأصحابه- الجهادية الأولى وما قام به من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، وأن الله عز وجل أعزهم بالجهاد فى سبيله ثم ربط الشيخ ابن عبد الوهاب حديثه بدعوته وأفكاره ، وكيف أنها جاءت لما أسماه بمحاربة البدع التى تفشت فى نجد ، وأنه يريد أن يتبع طريق الرسول (ص) فى محاربة الكفار .. ثم أوضح خطة للسيطرة على نجد فسر الأمير محمد ابن سعود سروراً كبيراً .
يقول ابن بشير : (ثم أخبره الشيخ بما كان عليه رسول الله (ص) وما دعا إليه أصحابه رضى الله عنهم من بعده وما أمروا به وما نهوا عنه) وأن كل بدعة بعدهم ضلالة ، وما أعزهم الله به بالجهاد فى سبيل الله وأغناهم به ، وجعلهم إخواناً ثم أخبره بما عليه أهل نجد اليوم من مخالفتهم بالشرك بالله تعالى والبدع والاختلاف والجور والظلم .
لقد كان ابن عبد الوهاب يشرح مذهبه وأفكاره للأمير محمد ابن سعود ويدعوه لقبول أفكاره ويحثه على الالتزام بها ونصرتها ، ولما استكمل الشيخ حديثخ أجابه الأمير محمد ابن سعود مؤيداً .
البرنامج البحثى الاعلامى للتدويل الإسلامى للأماكن المقدسة
كتابات - إعداد / عبد الحميد غانم
مقدمة :
الوهابية كفكرة ودعوة قامت على أساس من التشدد والتزمت الدينى والسياسى فصبغت نفسها بصبغة الإسلام ورفعت شعارات الالتزام والمبدئية وإن كانت فى الحقيقة هى غير أو عكس ذلك .
وعلى هذا الأساس قامت وتأسست دولة السعوديين والتى لم تقم فى مرحلتها الأولى – برضا الأهالى أو عن طريق الحرية والديمقراطية والإقناع إنما بالقهر والظلم وعلى أجساد البشر ، حيث تأسست الدولة السعودية الأولى بعد تحالف محمد بن سعود مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب عام 1158 هـ - 1744م فى الدرعية ، وهو تحالف بين مشروعين .. دينى وسياسى ، ومن الدرعية انطلق آل سعود فى بناء دولتهم – والتى لعبت الوهابية دوراً مهماً وأساسياً فى تكوينها وفكرها ومنهجها وتشكيل شخصيتها الدينية والسياسية – يفتكون بغيرهم فى المدن والمناطق الأخرى بحجة أنهم كفرة ومشركون حتى أُخضعوا بالقهر وبحد السيف – كما يقول بعض المفكرين والعلماء السعوديين – وكونوا دولتهم التى امتدت من اليمن جنوباً إلى عمان والبحرين وقطر والأحساء شرقاً إلى حدود العراق والشام شمالاً إلى الحجاز غرباً.
والوهابيون – كما هو معروف – يكفرون كل المسلمين ولا يعتبرون بلاد المسلمين داراً للإسلام عدا دارهم هم (نجد) ويشمل ذلك البقاع المقدسة ؛ مكة والمدينة المنورة والقدس الشريف حيث يرونها بلاد كفر وشرك وزندقة لا تجوز الإقامة فيها إلا إذا كانت تحت ولايتهم إضافة إلى أنهم – وكما هو معروف أيضاً – لا يرون غيرهم مسلماً لكن البقاع التى تصير تحت سيطرتهم بعد غزوها وتكون لهم السيادة عليها تصبح جزءاً من بلاد الإسلام أما قاطنوا تلك الديار فيبقوا كفاراً – تحت السيطرة والوصاية السعودية / الوهابية – كما هو الحال اليوم بالنسبة لمناطق المملكة فى الغرب والشرق والجنوب وهذا التشدد والغلو الوهابى بطبيعة الحال تنعكس آثاره على الأماكن المقدسة وحجاج بيت الله الحرام .
وفى هذه الدراسة نحاول رصد مثالب الوهابية وتشددها تجاه قضايا الأماكن المقدسة وكيف أنها صارت بيئة خصبة تفرز العنف والتطرف والإرهاب وتحاول الدراسة وضع حلول وأفكار جديدة تواكب التطور والعصر الذى نعيشه فليس قدراً علينا أن نتمسك بأفكار وفتاوى الماضى جامدة كما هى دون تطوير وتجديد ، وتحاول الدراسة أيضاً قلب مفاهيم سائدة وسد ثغرة يجب سدها ألا وهى السلوك السلبى للدعوة الوهابية .
وعلى هذا الأساس قسمنا هذه الدراسة الى خمسة أقسام الأول : يتحدث عن نشأة الوهابية ودورها فى تكوين دولة السعوديين فى مراحلها الثلاث ، والثانى : يتحدث عن دور الوهابية كغطاء سياسى ، أما الثالث : فيتحدث عن الأفكار الوهابية المتشددة كبيئة خصبة تعزز الإرهاب كما هى الحال بالنسبة لأسامة بن لادن وسلفيين آخرين اتخذوا العنف سبيلاً لتحقيق أهدافهم وأما القسم الرابع : فيدور حول كيف تصعب الوهابية بأفكارها وفتاواها المتشددة من عملية الحج والعمرة والقسم الخامس والأخير : فيدور حول وضع حلول وأفكار جديدة مناسبة لما سبق .
وبطبيعة الحال هذه المثالب التى سنذكرها فى هذه الدراسة أدت إلى أن تكون المقدسات فى مكة والمدينة سعودية فقط ووهابية فقط وهذه المثالب التى أذكرها أيضاً فى هذه الدراسة لها صلة بالقضية الكبرى للدفاع عن المقدسات وحمايتها من المخاطر الأمريكية الصهيونية التى باتت واضحة وموثقة وهو ما يجعلنا ومن خلال هذه الدراسة نطالب بحتمية التدويل الفقهى والإشرافى على الأماكن المقدسة فى مكة والمدينة للتيسير والتسهيل على الحجاج أولاً ولمواجهة المخاطر التى تحيق بهذه المقدسات ثانياً وعلينا التعامل بعقلانية وتعقل مع هذه الأمور وإلا ستظل هذه المخاطر الصهيونية الأمريكية قائمة .
أولاً : نشأة الوهابية :
كما أسلفنا فى المقدمة وكما هو معروف – الوهابيون يكفرون كل المسلمين ولا يعتبرون فى بلاد المسلمين داراً للإسلام عدا دارهم هم (نجد) ويشمل ذلك البقاع المقدسة فى مكة والمدينة المنورة والقدس الشريف حيث يرونها بلا كفر وشرك وزندقة لا تجوز الإقامة فيها إلا إذا كانت تحت ولايتهم ووصايتهم إضافة إلى أنهم – وكما هو معروف أيضاً – لا يرون غيرهم مسلماً لكن البقاع التى تصير تحت سيطرتهم بعد غزوها وتكون لهم السيادة عليها تصبح جزءاً من بلاد الإسلام ، أما قاطنو تلك الديار فيبقون كفاراً – تحت السيطرة والوصاية الوهابية / السعودية – كما هى الحال اليوم – كما يقول بعض العلماء السعوديين – بالنسبة لمناطق المملكة فى الغرب والشرق والجنوب .
ولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب فى العيينة (نجد) وتأثر ابن عبد الوهاب بأستاذه ابن تيمية وسار على منهجه وفكره ووجد بن عبد الوهاب فى آل سعود أرضاً خصبة لفرض دعوته أو مذهبه الذى أنكره معاصروه من العلماء والفقهاء كما أنكروا على ابن تيمية أخذه بالتجسيم ورفض الشفاعة والتقرب إلى الله عن طريق الأئمة والأولياء بل أنه أنكر كل ما ذكره القرآن الكريم فى هذا المجال وحرف الأحاديث النبوية لتتناسب وهوى دعوته الوهابية (1) .
كان الشيخ بن عبد الوهاب يريد أن يظهر دعوته أثناء عهد والده شيخ (العيينة) إلا أن والده كان يعارض توجهات وأفكار ابنه وواجهه بحزم فى هذا الأمر – كما يقول خليفة فهد فى كتابه " جحيم الحكم السعودى ونيران الوهابية " – لما وجد عنده من تطرف فى تكفير المسلمين .
ويذكر الدكتور العثيمين فى كتابه عن محمد بن عبد الوهاب ودعوته أن المؤرخين الموالين لآل سعود وللدعوة الوهابية لا يريدون الخوض فى تفاصيل هذا الموضوع ، وطرح بصراحة أن الأب كان معارضاً لدعوة ابنه ولم يقتصر الأمر عند الشيخ " عبد الوهاب " الذى كان معارضاً لدعوة ابنه محمد وأفكاره وإنما أيضاً أخو صاحب الدعوة ، وهو الشيخ سليمان بن عبد الوهاب أيضاً .. هذا الشيخ ألف كتاباً يفند أفكار أخيه ، باسم (الصواعق الإلهية فى الرد على الوهابية) ، وظل يقارع الحجة بالحجة ، وعند دخول الجنود السعوديون للمناطق النجدية، حاول التصدى لهم وإثارة الأهالى فى حريملاء فثاروا عام 1165 هـ فهاجمتهم قوات الأمن السعودية فصدوها ، ثم ما لبثوا أن هاجموا الدرعية عام 1166هـ وفى عام 1168 هـ دخلها عبد العزيز بن محمد بن سعود وعلى أثرها اقتيد الشيخ سليمان ابن عبد الوهاب ليقضى بقية حياته فى الإقامة الجبرية – أو السجن – على يد أخيه محمد بن عبد الوهاب (2) .
بدايات الظهور :
وصلنا إلى ملامح الانطلاقة الأولى للدعوة الوهابية فى النصف الأول من القرن الثامن عشر الميلادى وتحديداً مع بداية نشاط الشيخ محمد بن عبد الوهاب فى منطقة نجد .
يقول إبراهيم الهطلانى فى كتابه (كتابات عاصفة فى الفكر والسياسة) : كانت منطقة نجد على المستوى السياسى مقسمة الى عدة مناطق نفوذ عائلى وقبلى فعلى سبيل المثال كانت الرياض تخضع لحكم دهام بن دواس والعيينة تحت حكم آل معمر وفى الشمال " آل على " أما القصيم (بريدة) فيحكمها جحيلان بن حمد وفى الاحساء بنو خالد وقبائل بنو يام وزعيمهم المكرمى فى نجران والحجاز تحت حكم الأشراف بينما لم يتعد نفوذ آل سعود حدود الدرعية كما كانت الحياة اليومية لأهل نجد تختلف الى حد بعيد عن أوامر ونواهى الدين الإسلامى وتتداخل عباداتهم وعقائدهم مع بعض التصورات والتصرفات الموروثة والمنقولة إليهم من خارج حدود أراضيهم ؛ هذا الوضع الدينى والاجتماعى أثار فى نفس الشيخ محمد بن عبد الوهاب روح الغيرة والمبادرة نحو الإصلاح – إصلاح الوضع الدينى الذى وصفه الشيخ بن غنام – وكان من المقربين للشيخ – بقوله : إن أكثر المسلمين قد ارتكسوا فى الشرك وارتدوا على الجاهلية وانطفأ فى نفوسهم نور الهدى فقد كانوا فى نجد يقصدون قبر الصحابى الجليل زيد بن الخطاب رضى الله عنه فى (الجبيلة) يدعونه لتفريج الكرب وكشف النُواب وقضاء الحاجات .
بدأ بن عبد الوهاب دعوته فى (حريملاء) فتبعه البعض وعاداه آخرون من أهل البلدة وحاولوا الاعتداء عليه ، وعندما أحس الشيخ بالتهديد المباشر على حياته وعلى دعوته انتقل إلى العيينة وعرض دعوته على أميرها عثمان بن حمد بن معمر الذى قبل كلام الشيخ بل كان يشاركه فى إزالة المخالفات الدينية المنتشرة بين أهل العيينة (3) .
ولكن خليفة فهد يقول إن أمير العيينة عثمان بن معمر تردد كثيراً فى تأييد دعوة بن عبد الوهاب حيث كان أهالى نجد وغيرها من المناطق لا يتقبلون الدعوة الوهابية ثم لما أعلن بن معمر التأييد للشيخ قام الناس والعلماء وحكام النواحى ضده وطالبوه بأن " أخرج بن عبد الوهاب وإلا فإن ملكك زائل " .
وهناك رواية أخرى ذكرها إبراهيم الهطلانى تقول : استقر الشيخ فى العيينة وتزوج فيها الجوهرة بنت عبد الله بن معمر مع مواصلته دعوته – وهذا حتى وصل خبر الشيخ بن عبد الوهاب إلى سليمان بن محمد بن غرير آل حميد زعيم بنى خالد فى الاحساء وكان الخبر يحمل فى طياته نذر الخطر والتحذير من هذه الدعوة الوهابية الجديدة .
وعلى أثر ذلك أرسل (بن حميد) إلى بن معمر طالباً منه قتله الشيخ بن عبد الوهاب أو طرده" فإن لم تفعل ذلك قطعنا خراجك الذى عندنا فى الاحساء " .
وفى فترة بقاء ابن عبد الوهاب القصيرة فى العيينة ، هدم القبب وأعلن تكفيره للناس ، وطلب من مؤيديه أن يجددوا حجتهم ويقضوا صلواتهم لأنهم كانوا مشركين .
وزعمت الكتب الموالية أن امرأة جاءت إلى محمد بن عبد الوهاب وطلبت منه أن يرجمها لأنها ارتكبت جريمة الزنا .. بينما ابن عثيمين يقول إنه من الصعب تصديق أنها جاءت إليه طائعة وتذكر الكتب المخالفة أن شروط إقامة حد الرجم لم تكن كاملة وقائمة على تصورات غير صحيحة (4) .
وهنا هب سكان العيينة لإخراج الشيخ بن عبد الوهاب من مدينتهم التى تعتبر حاضرة نجد بعد رسالة حاكم الإحساء لابن معمر التى هدده فيها بالاستيلاء على أملاكه ومنعه من الوصول إلى الشاطىء الشرقى ، وهنا يتحدث صاحب كتاب " لمع الشهاب " وحسين خزعل عن إخراج محمد بن عبد الوهاب من العيينة فيقولان : اتفق رأى الجميع على إخراجه من بيته قهراً ، حتى بنو أعمامه عزموا على ذلك ، فنادى مناد يوم الجمعة أن بعد صلاة الجمعة اجتمعوا على إخراج محمد بن عبد الوهاب من بلدتكم فإن أبى فاقتلوه ، فلما سمع اخوه على بن عبد الوهاب وكان هو غير عالم ، جاء إلى أخيه محمد وقال له : يا أخى أنصحك أن تطلع هذا اليوم من اليمامة وتمضى إلى حيث شئت ، فإن أرض الله واسعة ، فاستحسن رأى أخيه " على " وقال : كيف المسير هذا فى وسط النهار ، وأنا لا أخرج من بين عشيرتى وقومى وبلادى إلا بجميع أهلى وعيالى ومالى ؟ وأخشى أن يعترضنى أحد من سفهائهم ، والغيرة تمنع القبول بذلك . اذهب إلى على بن ربيعة وعبد الله بن حسين (على بن ربيعة هو من كبار بنى تميم من قبيلة بنى سعد ، وعبد الله بن حسين هو ابن عم محمد بن عبد الوهاب وهما من قادة المعارضين) وخذلنا ذمة وأمانا منهم فإن أعطوك ذلك خرجنا هذه الساعة ، وإن عرفت منهم ما ينكر الحال فإن دفع المصائب واجب ، وخرج الشيخ وأسرته ومن تبعه فى ذلك اليوم قبيل غروب الشمس.
من هنا يتضح أن لا دور لعثمان بن معمر فى إخراج محمد بن عبد الوهاب ، رغم أنه كان يفضل خروجه ، لكنه لم يضغط عليه ليخرج بسبب أنه تعهد بحمايته ورغم ذلك قتلوه فيما بعد!
محمد بن عبد الوهاب فى الدرعية :
خرج ابن عبد الوهاب بعد طرده من العيينة قاصداً الدرعية ، فوصلها وقت العصر فقصد إلى بيت محمد بن سويلم العرينى ، فلما دخل عليه ضاقت عليه داره ، وخاف على نفسه من محمد بن سعود فوعظه الشيخ بن عبد الوهاب وأسكن جأشه ، وقال سيجعل الله لنا ولك خرجاً ومخرجاً (5) .
لم تكن الدرعية بالبلد الذى بإمكانه أن يكون منطلقاً للوهابية فقد كانت صغيرة قليلة السكان بعيدة عن أحوال نجد السياسية ، ولم تكن أيضاً ذات ثقل سياسى مؤثر .. فلم يكن ما فيها ما يغرى ابن عبد الوهاب للقدوم ، يقول صاحب كتاب " لمع الشهاب " : (فهيأ ابن عبد الوهاب نفسه وعياله ومن تبعه للخروج ، فخرجوا ذلك اليوم قبيل غروب الشمس ، فأتوا الوادى ، وهو قرية محمد بن سعود وكان جملة ماضيه من السكن سبعين بيتاً ، وهو الموضع الذى يسمى الآن الدرعية) وسبعون بيتاً توحى بقلة السكان وربما قلة الموارد وبالضرورة الضعف العسكرى والوزن السياسى ، واتفق أغلب الكتاب والمؤرخين على أن الدرعية فى الوقت الذى هاجر فيه إليها ابن عبد الوهاب وأهله لم يكن لها وزن سياسي ولا اقتصادى ولا كان عدد سكانها كبير كالعيينة ، ولا كان لحكامها ميزة خاصة .
ويقول خليفة فهد فى كتابه (جحيم الحكم السعودى ونيران الوهابية) : " بإمكاننا الجزم بأن معارض الوهابية قد توقعوا يوم ذهب ابن عبد الوهاب للدرعية أن تكون مقبرة له ولأفكاره ، وحسبوا أنهم آمنوا على أنفسهم وأعراضهم ومصالحهم حين انزوى فى تلك القرية التى لا ذكر لها فإنهم لم يكونوا ليهتموا بها وبه ، وتصوروا أنه مهما كان نشاطه وتحركه ودعوته (الوهابية) فإنها لن تتجاوز إطار القرية وسكانها كما أنها لن تؤثر على أوضاعهم الخاصة لذا تغافلوا عنها وأعتقدوا بأن كل شىء انتهى .
لكن السؤال الذى يطرح هنا لماذا كان لجوء ابن عبد الوهاب للدرعية ؟ هل يعود ذلك لموقف إيجابى أبداه حاكمها محمد بن سعود وأنه حاكم يتمتع بصفات محترمة وجيدة جعلت ابن عبد الوهاب يتوسم فيه الخير لدعوته ؟
هناك رأيان فى هذا الأمر الأول : وهو إجماع بين الباحثين على أنه : (لم يكن لآل سعود شأن يذكر قبل أن يتبنوا الدعوة الوهابية) (6) وأنه لولا الدعوة الوهابية (لما كان لآل سعود من ذكر فى التاريخ أكثر من دهام بن دواس) (7) حاكم الرياض بل أقل !
أما الرأى الآخر فيقول : إن حاكم الدرعية (محمد بن سعود) رجل كريم شهم ، ذو نفس طيبة، لذا طارت شهرته فى الآفاق ، ووصلت إلى مسامع محمد بن عبد الوهاب فقرر أن يسافر الى الدرعية (لأن أميرها محمد بن سعود رجل عاقل) وهو ما نقله لنا خليفة فهد عن د. بكرى شيخ أمين وينقل لنا خليفة فهد أيضاً عن صاحب كتاب (داعية التوحيد) الذى أفرط فى المدح لمحمد ابن سعود فيقول (ووقعت عين ابن عبد الوهاب وبصيرته على محمد هذا لا لما عليه من المقدرة والسعة فى الرزق والزروع والنخيل والأنعام (لا يستطيع أحد أن يثبت ذلك ، فالدرعية بلد فقير منهك اقتصادية) بل لما كان عليه من السخاء وحب الخير وقد عرف من سخائه أنه كان يسد عن الغارم دينه ويعطى صداق الزوجات ومهور الأزواج من بيت المال ، كما كان يفعل عمر بن عبد العزيز) !!
وهذه المحاسن فى ابن سعود رآها الشيخ ابن عبد الوهاب أنه أصلح الأمراء لقبول مذهبه – كما يقول عبد العزيز سيد الأهل – فى تجريد التوحيد من شوائبه ، كما رآه أهلاً للذود عنه والاقتدار على إذاعته ونصرته (8) .
أما العلامة " ابن بشر " وهو أفضل من كتب تاريخ الجزيرة العربية بشهادة العدو والصديق فلنعد قراءة ما قاله : (وأما الشيخ فإنه سار إلى الدرعية ، فوصل إلى أعلاها وقت العصر، فقصد إلى بيت محمد بن سويلم العرينى ، فلما دخل عليه ضاقت – لاحظ كلمة ضاقت – عليه داره وخاف – لاحظ أيضاً كلمة خاف – على نفسه من محمد بن سعود فوعظه وأسكن جأشه وقال سيجعل الله لنا ولك فرجاً ومخرجاً – فعلم به خصائص من أهل الدرعية فزاروه خفية ، فقر لهم التوحيد واستقر فى قلوبهم ، فأرادوا أن يخبروا محمد بن سعود ويشيروا عليه بنصرته فهابوه) .
إذن لقد كان الناس يخشون محمد بن سعود ويخافونه (وكان شديداً غليظاً عليهم لدرجة أن أحدهم يخشى استقبال محمد بن عبد الوهاب ويخاف على نفسه .. بل إن ابن عبد الوهاب ذاته كان فى أزمة (سيجعل الله لنا ولك فرجاً ومخرجاً) فأين : (وقعت عين ابن عبد الوهاب وبصيرته على محمد هذا ؟) وأين (هذه المحاسن – التى رآها الشيخ – فى الأمير ابن سعود) حتى يعتبره (أصلح الأمراء) ؟! (9) .
على أى حال كما يقول الباحثيون فإن ابن عبد الوهاب لم يقصد الدرعية لأجل سواد عيون ابن سعود أو حباً فيه أو فى الدرعية وأهلها ولكن لأنه كما يقول حسين خلف الشيخ خزعل (ما كان أمر محمد بن عبد الوهاب والدعوة التى يدعو إليها مجهولاً فى الدرعية بل كانت الدرعية تعرفه معرفة جيدة وكان له الكثير فيها من الأنصار والأتباع والمريدين الذين كانوا يترددون عليه فى العيينة ويحضرون حلقات دروسه ويأخذون عنه ، منهم ثنيان ومشارى وفرحان ، اخوان الأمير محمد بن سعود ، والشيخ أحمد بن سويلم العرينى وقاضى الدرعية عبد الله بن عيسى ، وكثيرون وغيرهم وكانت له اتصالات بعبد العزيز بن محمد ابن سعود (10) .
وهناك من يقول أنه لم يكن له أتباع ومريدون فى الدرعية وأن ابن سعود رفض استقباله وملاقاته فى بادىء الآمر .
اللقاء الأول :
من الواضح لمن تتبع تاريخ الجزيرة العربية فى فترة ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وانتقاله إلى الدرعية ، أن الأمير محمد بن سعود رفض فى بادىء الأمر ملاقاته واستقباله وكما يقول خليفه فهد صاحب كتاب (جحيم الحكم السعودى ونيران الوهابية) إن الكثير من الكتاب السعوديين عللوا ذلك بأمور مختلفة وكل منهم قدم تبريرات أغلبها لا تصمد أمام الحقيقة والواقع ، ولو فتشنا عن أسباب الرفض الأولى لاستقبال ابن عبد الوهاب رغم توسط أشقاء الأمير ، لرأينا أن السبب يعود إلى خوفه على ملكه إلى أن أقنعته زوجته بأن وجود زعيم المذهب الوهابى معه يعتبر (غنيمة من الله) ساقها إليه وأنها ستساهم إلى حد كبير فى تدعيم ملكه ، وليس العكس ، وهذا ما سنراه بوضوح فى تأثير العامل المادى والسياسى على الاتفاق الذى تم فيما بعد بين الاثنين .. حيث يقول عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم مؤلف كتاب (الدولة السعودية الأولى) : إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب انتقل فى اليوم التالى – من قدومه الدرعية – إلى دار تلميذه الشيخ أحمد بن سويلم الذى عمر بيته بأنصار الشيخ ومريديه ، وكان من بينهم ثنيان ومشارى شقيقا الأمير محمد بن سعود اللذان حاولا إقناع أخيهما – الأمير بمقابلة الشيخ فتردد بادىء الأمر فلجأ الإخوان الى زوجته موضى بنت أبى وطيان من آل كثير وكانت ذات فطنة وذكاء فأخبراها بما يدعو إليه الشيخ ، وبأهداف دعوته، فارتاحت نفسها لما سمعت من أخبار محمد ابن عبد الوهاب ثم اختارت الوقت المناسب للتحدث الى زوجها فى هذا الأمر وقالت له : إن هذا الرجل ساقه الله إليك وهو غنيمة فاغتنم ما خصك الله به فاقتنع الأمير بقولها ودعا أخاه مشارى وطلب منه أن يدعو الشيخ لمقابلته ، ولكن مشارى استعطف أخاه الأمير فى أن يسير بنفسه لمقابلة الشيخ وقال : سر إليه برجلك وأظهر تعظيمه وتوقيره ليسلم من أذى الناس .
والمصادر السعودية فى مجملها تثبت ما ذكر سابقاً من أن الأمير رفض فى بادىء الأمر الدعوة الوهابية وصاحبها إلى أن اقتنع بأن الشيخ (غنيمة) لا تضر ملكه بل تعززه ، فوافق على لقائه ، ولعل العبارة التى قالتها زوجة الأمير محمد بن سعود له : إن هذا الرجل ساقه الله إليك غنيمة فاغتنم ما خصك الله به كانت محور أو جوهر السياسة التى اتخذها الأمير محمد بن سعود – حيال الدعوة السلفية – فقد اعتبرها دعوة دين ودنيا وهذا القول فيه بعض الصحة فقد كان منظار ابن سعود تجاه الدعوة الوهابية وصولياً ، فهى دعوة ظاهرها الدين إلا أن محمد بن سعود اتخذها مطية للدنيا وتوسيع رقعة الحكم وهذا هو رأى أغلب الباحثين والمؤرخين .
وعن هذا اللقاء بين الشيخ والأمير يقول الباحثون : سار محمد بن سعود إلى بيت الشيخ أحمد بن سويلم ومعه ابنه عبد العزيز وإخوته الثلاثة : ثنيان ومشارى وفرحان ، وما إن وصل رحب بمحمد ابن عبد الوهاب وقال : (أبشر ببلاد خير من بلادك ، ابشر بالعز والمنعة) فرد عليه : (وأنا أبشرك بالعز والتمكين ، وهذه كلمة لا إله إلا الله ، من تمسك بها وعمل بها ونصرها ملك بها البلاد والعباد وهى كلمة التوحيد وأول ما دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم) .
بعدها جلس الشيخ يحدث الأمير محمد بن سعود عن دعوة الرسول وسيرته – هو وأصحابه- الجهادية الأولى وما قام به من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، وأن الله عز وجل أعزهم بالجهاد فى سبيله ثم ربط الشيخ ابن عبد الوهاب حديثه بدعوته وأفكاره ، وكيف أنها جاءت لما أسماه بمحاربة البدع التى تفشت فى نجد ، وأنه يريد أن يتبع طريق الرسول (ص) فى محاربة الكفار .. ثم أوضح خطة للسيطرة على نجد فسر الأمير محمد ابن سعود سروراً كبيراً .
يقول ابن بشير : (ثم أخبره الشيخ بما كان عليه رسول الله (ص) وما دعا إليه أصحابه رضى الله عنهم من بعده وما أمروا به وما نهوا عنه) وأن كل بدعة بعدهم ضلالة ، وما أعزهم الله به بالجهاد فى سبيل الله وأغناهم به ، وجعلهم إخواناً ثم أخبره بما عليه أهل نجد اليوم من مخالفتهم بالشرك بالله تعالى والبدع والاختلاف والجور والظلم .
لقد كان ابن عبد الوهاب يشرح مذهبه وأفكاره للأمير محمد ابن سعود ويدعوه لقبول أفكاره ويحثه على الالتزام بها ونصرتها ، ولما استكمل الشيخ حديثخ أجابه الأمير محمد ابن سعود مؤيداً .