المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عبدالله بن سبأ والغلو في التشيـّع



مرتاح
05-14-2006, 12:33 AM
الدكتور عبد الهادي محمد تقي الحكيم

جريدة النهار (لبنان)


إن قصة عبدالله بن سبأ، ودوره الكبير في الاحداث، وفاعليته المؤثرة في الوقائع، وتحريضه وتثويره وعسكرته للمسلمين في عصره، ودعوى تأسيسه لعقائد الشيعة او لمذهبهم، هي احدى القصص والحكايا والخرافات المثيرة المعجبة التي رواها فانفرد بروايتها راو متهم هو سيف بن عمر وحده، وتناقلها عنه قسم من المؤرخين، خلفا عن سلف، ولاحقاً عن سابق من دون دراسة متأنية للرواية أو تمحيص علمي للمتن والسند.

تذهب القصة الى ان عبدالله بن سبأ، وهو يهودي من اهل صنعاء، اسلم اواخر خلافة عثمان بن عفان، ثم غلا في الإمام علي غلوا كبيرا، وسعى لافساد المسلمين في حواضر العالم الاسلامي في مكة المكرمة والمدينة المنورة اولا، وحين فشل في مسعاه فيهما، سافر الى البصرة، فاخرجه واليا منها خوفا على ولايته من افسادها عليه، فاتجه ابن سبأ صوب مصر حيث استقر به المقام هناك، واخذ يبث دعاته واتباعه من البصرة الى الكوفة ومن الشام الى مصر، يدعوهم الى الخروج على طاعة الخليفة زاعما ان للنبي محمد رجعة، كما كانت لعيسى رجعة، بل تجاوز الحد كثيراً حين ادعى الربوبية للامام علي كما ادعى هو او اتباعه من بعده ان عليا لم يقتل، وانما هو حي لم يمت، وانه في السحاب، وسيعود، وما الى ذلك في اقاويل الغلو، فاستطاع ان يفسد مصر على واليها المعروف بالدهاء عمرو بن العاص حتى عزله الخليفة عن ولاية مصر، ليتولاها بعده عبدالله بن ابي سرح، كما استطاع ان يؤلب الناس في مصر على الخليفة كي يتوقفوا عن دفع الخراج لبيت مال المسلمين، من خلال ترك الزراعة فينجح في مسعاه، ثم تزيد الرواية من دوره ذاك فتضيف انه استطاع ان يضل من الصحابة والتابعين والصلحاء العديد من امثال: أبي ذر الغفاري وعمار بن ياسر، ومحمد بن أبي حذيفة، وعبد الرحمن بن عديس، ومحمد بن أبي بكر، وصعصعة بن صوحان العبدي، ومالك الاشتر وغيرهم من الاتقياء، كما استطاع اتباعه ان يجيِّشوا الجيوش من الكوفة والبصرة ومصر زاحفة نحو المدينة المنورة عاصمة الخلافة الاسلامية لمحاصرة الخليفة عثمان في داره. وتزعم الروايات ايضا: "ان المسلمين بعد ان بايعوا عليا وخرج طلحة والزبير الى البصرة لحرب الجمل رأى السبئيون ان رؤساء الجيشين اخذوا يتفاهمون، وانهم ان تم ذلك سيؤخذون بدم عثمان، فاجتمعوا ليلا وقرروا أن يندسوا بين الجيشين، ويثيروا الحرب بكرة من دون علم غيرهم، وانهم استطاعوا ان ينفذوا هذا القرار الخطير في غسق الليل قبل ان ينتبه الجيشان المتقابلان، فناوش المندسون من السبئيين في جيش علي من كان بآزائهم في جيش طلحة والزبير، ففزع الجيشان وفزع رؤساؤهما وظن كل بخصمه شرا.

وزعموا كذلك ان حرب البصرة المشهورة بحرب الجمل وقعت هكذا من دون ان يكون لرؤساء الجيشين فيها رأي أو علم.


موقف ائمة الشيعة الإمامية من ابن سبأ

ومن الحق ان يقال هنا ان علماء الشيعة الامامية ومحدثيهم ومحققيهم قد اطالوا الكلام في ذم عبدالله بن سبأ وتجريحه والطعن فيه ولعنه، ولو كان كما قيل من انه مؤسس مذهبهم لما حصل ذلك، ولا يسع المجال لاستعراض كل ما قالوه في قدحه والتبرؤ منه ومن آرائه وبدعه، غير اني سأشير الى اقوال بعض أئمة الشيعة الامامية فيه، وانقل نصوصا موجزة لآخرين من علمائهم، مبتدأ اولا بما روي عن الائمة انفسهم فيه. فمن ذلك ما روي عن الامام علي من انه دعا عبدالله بن سبأ واستنطقه ثم استتابه، فأبى، فاحرقه بالنار على قول، او نفاه عن الكوفة على قول آخر، وقد روى ذلك جمع من المؤرخين، وتناقلته كتب التاريخ والسير والرجال حتى شاع واشتهر. ومنه ما روي كذلك عن الامام الباقر ابي عبدالله محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب فيه، يقول ابان بن عثمان: "سمعت ابا عبدالله عليه السلام يقول: لعن الله عبدالله بن سبأ انه ادعى الربوبية في امير المؤمنين، وكان والله امير المؤمنين عبدا طائعا، الويل لمن كذب علينا، وان قوما يقولون فينا ما لا نقوله في انفسنا نبرأ الى الله منهم، نبرأ الى الله منهم".

وروى ابان بن عثمان عن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب انه قال: "لعن الله من كذب علينا، اني ذكرت عبدالله بن سبأ فقامت كل شعرة في جسدي، لقد ادعى امرا عظيما، ما له لعنه الله، كان علي والله عبدا صالحاً، أخو رسول الله، ما نال الكرامة الا بطاعته لله ولرسوله، وما نال رسول الله الكرامة من الله الا بطاعته".

وروى محمد بن خالد الطيالسي عن الامام جعفر بن محمد الصادق انه قال ":... ان رسول الله وآله اصدق الناس لهجة وأصدق البرية كلها، وكان مسيلمة يكذب عليه، وكان أمير المؤمنين عليه السلام أصدق من برأ الله بعد رسول الله".


موقف أئمة الشيعة الإمامية من الغلاة

واحب ان اشير هنا الى ان موقف الائمة وعلماء وفقهاء الشيعة الامامية من ابن سبأ هو جزء من موقفهم من الغلاة ككل. فقد وقف ائمة الشيعة الامامية واصحاب الجرح وتعديل فيها موقفا شديدا من الغلاة الذين قالوا في اهل البيت ما لا يقولونه هم في انفسهم، فاظهروا البراءة منهم، وحذروا الناس من اتباع هؤلاء الغلاة لأنه اتباع للزيغ والضلال، وامروا بالابتعاد عنهم، والتبري منهم، وكان الشيعة يتلقون تلك الاوامر الشريفة بالقبول والامتثال ويدونونها في كتبهم حتى تجمع لديهم من روايات الجرح والتعديل فيهم ما ملأ صفحات الكتب المؤلفة في علم الرجال، وقد حوت هذه الكتب طائفة كبيرة من اقوال الائمة واقوال علماء الشيعة الاعلام في البراءة من الغلو والغلاة ورجالات الغالية بالخصوص. (أنظر: الشيعة في التاريخ للشيخ محمد حسين الزين: 175).

فمن ذلك ما رواه عبد الرحمن بن كثير عن الامام ابي عبدالله محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب انه قال يوما لاصحابه: "ان قوما كذبوا عليّ مالهم اذاقهم الله حر الحديد، فوالله ما نحن الا عبيد خلقنا الله واصطفانا ما نقدر على ضر ولا نفع الا بقدرته... لعن الله ما قاله فينا ما لا نقوله في انفسنا، ولعن الله من ازالنا عن العبودية لله الذي خلقنا واليه مأبنا ومعادنا وبيده نواصينا" (منهج المقال في الرجال: 350 وما بعدها).

وقال الامام الصادق جعفر بن محمد "انا اهل بيت صادقون لا نخلو من كذاب يكذب علينا عند الناس، يريد ان يسقط صدقنا بكذبه علينا، ثم ذكر المغيرة، ويزيد الحايك، والسري، وأبا الخطاب، ومعمر، وبشار الاشعري، وحمزة اليزيدي وصايد النهدي وغيرهم، فقال لعنهم الله اجمع وكفانا مؤنة كل كذاب".

وروي ان الامام الباقر محمد بن علي بن الحسين ذكر الغلاة فقال: "لا تقاعدوهم ولا تواكلوهم ولا تشاربوهم ولا تصافحوهم ولا توارثوهم".

وعن مصارف انه دخل على الامام الصادق جعفر بن محمد واخبره بما قال فيه ابو الخطاب - وهو من الغلاة في اهل البيت - يقول مصارف: "فخرّ ساجدا ودق جؤجؤه بالارض، وبكى، ثم رفع رأسه ودموعه تسيل على خديه، فندمت على اخباري اياه، وقلت: جعلت فداك ما عليك انت من ذا؟ فقال يا مصارف: ان عيسى لو سكت عما قالت النصارى فيه لكان حقا على الله ان يصم سمعه ويعمي بصره، ولو سكتّ عما قال فيّ ابو الخطاب لكان حقا على الله أن يصم سمعي ويعمي بصري، وقال ايضا: إن قوما يزعمون اني لهم إمام، والله ما انا لهم بإمام، مالهم لعنهم الله. اقول كذا، ويقولون يعني كذا، إنما انا إمام من أطاعني".

وقد دخل على الامام الباقر محمد بن علي بن الحسين يوما بشار الشعيري، وهو من الغلاة، فقال الامام محمد بن علي له "اخرج عني لعنك الله، والله لا يظلمني واياك سقف واحد ابدا، فلما خرج قال الامام الباقر: ويله ما صغّر الله تصغير هذا الفاجر احد، انه شيطان ابن شيطان، خرج ليغوي اصحابي وشيعتي، فاحذروه، وليبلّغ الشاهد الغائب: اني عبدالله وابن امته ضمتني الاصلاب والارحام، وإني لميت ومبعوث ثم مسؤول، والله لأسألن عما قاله فيّ هذا الكذاب وادّعاه".


عقيدة الشيعة الامامية هي التوحيد الخالص

اما الشيعة الامامية المنتشرون الآن في انحاء العالم الاسلامي فهم يبرؤون من تلك المقالات الغالية. وليس دينهم الا التوحيد المحض الخالص وتنزيه الخالق عن كل مشابهة للمخلوق او ملابسة له في صفة من صفات النقص والامكان والتغير والحدوث وما ينافي وجوب الوجود والقدم والازلية الى غير ذلك من التنزيه والتقديس المشحونة به مؤلفاتهم في علم الكلام من مختصرة (كالتجريد) او مطوّلة (كالاسفار) وغيرها مما يتجاوز الألوف، واكثرها مطبوع ومنشور، وجلها يشتمل على اقامة البراهين الدامغة على بطلان التناسخ والاتحاد والحلول والتجسيم. ولو راجع المنصف الذي يمشي وراء الحقائق وفوق العصبية والاغراض شيئا من هذه الكتب لعرف قيمة هذه الاقوال والاتهامات الباطلة.

والقصارى انه ان اراد نسبة تلك الفرق البالية الغالبة الى الشيعة فان ذلك ظلم فاحش، وخطأ واضح، وبعد عن الحقيقة، وتجاوز على الواقع.

وان اراد نسبة الطائفة الامامية المعروفة اليوم بهذا الاسم والتي يربو تعدادها على مائة وخمسين مليونا من المسلمين بل اكثر الى هؤلاء الغلاة فإني اطالبه باثبات ذلك من مصنفات احد علمائهم من حاضر او غابر. (أنظر: أصل الشيعة وأصولها للمرجع الديني الشيعي الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء: 177 وما بعدها).

يقول الباحث الاكاديمي المعروف محمد كرد علي "اما ما ذهب اليه بعض الكتاب من علم بتحقيق مذهبهم، ومن علم منزلة هذا الرجل عند الشيعة وبراءتهم منه ومن اقواله واعماله وكلام علمائهم في الطعن فيه بلا خلاف بينهم في ذلك، علم مبلغ هذا القول من الصواب".

ذلك ان الشيعي اليوم اذا نظر الى ما يكتبه بعض الكتاب عنه وعن عقيدته ومنشئها وجدها من نمط النوادر والطرف والحكايات لبعدها عما يعتقده ويؤمن به.