فاطمي
05-03-2006, 08:42 AM
http://www.alraialaam.com/03-05-2006/ie5/rai3.jpg
القاهرة - من ميادة الدمرداش
في أبريل ولد، وفيه رحل أيضا، سبعون عاما قضى نصفها تقريبا في الشعر الذي وهب له روحه وقلمه.
في التاسع والعشرين من شهر أبريل مرت ذكرى وفاة الشاعر اليوناني - السكندري قسطنطين كفافيس، صاحب قصائد «المدينة»، «إيثاكا» و«في انتظار البرابرة», «الرأي العام» التقت في ذكراه مجموعة من الشعراء والأدباء المصريين الذين أدلوا بشهادتهم عن شعره وحياته.
الشاعر الحاصل على جائزة «كفافيس» للشعر لعام 1994، محمد سليمان، أكد أن «كفافيس» مع كل من: عبدالمعطي حجازي وصلاح عبدالصبور و «ت, س, إليوت» والمعري وجاهين,, هم أهم أساتذة أثروا في بداياته الشعرية، مشيرا إلى أن «قصائده بخاصة اتسمت بالبساطة والعمق في آن».
وذكر أن لهذا الشاعر اليوناني قصائد عدة رئيسية يقرأها باستمرار وهي: «المدينة» و«في انتظار البرابرة» و «إيثاكا»، مبينا أن ما يلفته فيها هو «مزج الواقع السكندري بالأساطير الإغريقية القديمة، دون إهمال للتجربة الشخصية للشاعر».
وأوضح أن «كفافيس مارس الحياة مع أبسط الناس، وكانت له قدرة خاصة على سبر أعماق الحياة والبشر»، ولعل هذا ما جذبه إلى هذا الشاعر، حسب ما يقول، لأنه من «المسكونين بهواجس إنسانية غاية في الرقة والألم».
وأشار سليمان إلى أن له قصيدة تناولت شخصية وشاعرية كفافيس عنوانها «تمارين على الموت»، وفيها يعترف لهذا الشاعر الكبير بفضله في إذكاء موهبة الشعر داخله، مشيرا إلى أن كفافيس من قلائل الشعراء الذين يؤثرون في كل الأجيال الأدبية.
أما الدكتور فخري لبيب فيهدم التصور الشائع حول احتفاء رواية «رباعيات الإسكندرية» في أجزائها الأربعة للكاتب البريطاني لورانس داريل الذي عاش فترة طويلة في الإسكندرية، بكفافيس شاعرا، مؤكدا أن «تعرض داريل لكفافيس كان عابرا في الرواية ولم يكن شخصية محورية بل شخصية «ظِل» يأتي ذكرها على لسان بعض الأبطال في العمل».
وأوضح لبيب -وهو الذي عمل على ترجمة «الرباعية» من الإنكليزية إلى العربية «أن الرواية في إجمالها لم تنصف النماذج والأبطال المصريين داخلها، وربما أن التعرض الإيجابي لكفافيس أتى من عنصرية داريل الذي جعل في رباعياته كل ما هو إيجابي حكرا على الأجانب المقيمين في الإسكندرية دون مصرييها».
وأشار إلى أن إسكندرية «داريل» ليست ما نعرفها نحن كمصريين، وإنما هي رصد للواقع الأجنبي «الكوزموبليتاني» داخل المدينة، وعليه فإن كفافيس في الرباعيات كان أداة وليس هدفا في ذاته.
وأكد الشاعر شعبان يوسف أن «أثر كفافيس على الشعر والشعراء المصريين واضح وقوي للغاية، وممتد لجميع اتجاهاتهم وأجيالهم الأدبية»، وقال: «حتى إن عملاقين كصلاح عبدالصبور وأمل دنقل، بالرغم من اختلاف منهجيهما- تأثرا بهذا الشاعر اليوناني».
وشدد على أن هذه «البصمة غير مقصورة على ناحية الأسلوب أو الموضوع الشعري فقط، بل الاثنان معا، إذ إن الشعر المصري تأثر بكفافيس وخصوصا في ميله للتفاصيل والتكثيف اللغوي، وأيضا عروجه على شعر الحاجيات الذي تظهر فيه مفردات الحياة اليومية جلية للغاية».
وأوضح يوسف أن «عددا من الروائيين المصريين تأثروا بكفافيس، ولعل أبرزهم إدوارد الخراط وإبراهيم عبدالمجيد اللذان اكتسبا منه حسه السكندري وميله البحر متوسطي».
مشيرا إلى أن «الترجمات المصرية لشعر كفافيس حتى الآن بلغ عددها 15 ترجمة، أنجزها عديدون، منهم: بشير السباعي، نعيم عطية، عبدالغفار مكاوي، وصلاح عبدالصبور».
ولفت يوسف إلى أن «كفافيس منح لمصر بعدا آخر إضافة إلى أبعادها التاريخية ووجوهها الحضارية المعروفة، هذا البعد هو البعد المتوسطي الذي ربما تفتقده مصر في زحام أوصافها العربية - الإسلامية والأفريقية - الفرعونية».
وأوضح «رغم من تمتع كفافيس بالمولد والوفاة السكندرية، إلا أنه شاعر يوناني صميم، لكنه يكتسب بعدا عالميا فوق قومي».
وعن مكانته في ساحة الشعر العالمي واليوناني، أكد يوسف أن «كفافيس يوازي بأهميته كلاًّ من بابلو نيرودا ورافائيل البرتي، لأن شعره كفاحي يهتم بالقضايا الإنسانية الكبرى»، موضحا أن شعر كفافيس، ابتعد السريالية واقترب من الواقع بهدف تطوير الروح العامة للحياة والناس.
وأكد أن «كفافيس جاور بموهبته أيضا اليوناني «ريتسوس» الذي وقف له ندا وكذلك يحتفي بهما اليونانيون كرمزين أدبيين لا فارق بين أهميتهما».
منطلقا من شعور بالعدمية واللاجدوى، صنع قسطنطين كفافيس المولود في الإسكندرية عام 1863، عالما شعريا فريدا، نزع خلاله لتحليل مفردات العالم واستبدالها فنيا وواقعيا بأخرى جديدة أكثر اتساقا -في نظره- مع طبيعة الواقع المـُعاش، معتمدا في ذلك على صب التفاصيل الحياتية واليومية البسيطة في قالب ملحمي أسطوري,, هو وليد النشأة اليونانية للشاعر.
سبعون عاما عاشها وكرَّس فيها كفافيس حياته لسبر أغوار النفس الإنسانية وللشعر معا، حتى صار الاثنان رديفين ووجهين لعملة واحدة، ولولا روحه المعذبة المتطلعة لفهم نفسها، ما أصبح شاعرا، في وقت كان الشعر فيه أداته الوحيدة لترجمة وتنفيس عذابات وكآبة وملل لا حدود لها.
عذاباته تلك أوجدها التمرد والطموح لبلوغ عوالم أخرى أكثر رحابة وجرأة وعمقا، ولم تكن أبدا نتيجة قهر أو عجز إزاء الحياة الاعتيادية، وهو سليل العائلة اليونانية الأعرق والأثرى والأشهر بين جاليتها في مصر، والابن المدلل لأسرته، المـُلبى المطالب على الفور.
وُلد «كفافيس» لأب يوناني - تركي، كانت تجارته تمثل أضخم استثمار في مصر بين عامي 1851 و 1870، و وكان الطفل قسطنطين يقطن في قصر في أرقى أحياء الإسكندرية، ويتمتع وحده بخادمين ومدرس خاص فرنسي الأصل, وعلاوة على ذلك بحب أم نادر منحته إياه باعتباره ابنها الأصغر، والمعروف أن تلك الوالدة أثَّرت في الحياة العامة والشعرية لشاعرنا مدى الحياة، حتى أنها ساهمت في تكوين ميوله الجنسية «الشاذة» فيما بعد بسبب ملازمته الدائمة لها وعدم اختلاطه بمجتمع الذكور، وتدليلها الزائد له.
ظل كفافيس حبيس البيت يحيا حياة الترف حتى السادسة عشرة من عمره، وقد أتاحت معيشة الدعة لروحه أن تهيم، فأشبع نهمه للقراءة والاطلاع، وتشكل داخله ميل طاغ للوحدة والعزلة، وصدمه خروجه الأول للمدرسة التجارية في ذلك الحين، حيث وجد صعوبة في التأقلم مع الرفاق والحياة الجديدة.
سنوات قليلة بعدها ويضطر الشاعر عقب الاعتداء الإنكليزي على الإسكندرية عام 1882، للانتقال مع الأسرة إلى لندن ومنها للآستانة في تركيا، حيث مسقط رأس العائلة، قبل أن يعود مجددا إلى الإسكندرية ويستقر فيها إلى حين مماته في نهاية أبريل عام 1933، بعد صراع مع مرض سرطان الحلق، الذي تركه في أواخر أيامه أبكم.
إلى عام 1922، ظل قسطنطين كفافيس شاعرا مغمورا - لم يُطبع له ديوان إلا بعد وفاته - يكتب وتوزع قصائده على ندمائه المقربين غير عابئ بالجماهيرية والشهرة، ولولا قدوم الكاتب البريطاني آي, إم , فورستر إلى الإسكندرية أثناء الحرب العالمية الأولى وتأليفه كتابه «الإسكندرية تاريخ ودليل» والذي عرج فيه على كفافيس، باعتباره شاعرا متميزا وترجم له قصيدته «الإله يخذل أنطونيو»، واصفا إياه بـ «السيد اليوناني ذي القبعة القشية الواقف عند زاوية منحرفة قليلا عن الكون»، ما عرف الأدب العالمي شعر كفافيس.
أيضا لعبت «رباعيات الإسكندرية» لمؤلفها البريطاني لورانس داريل دورا كبيرا في دفع اسم الشاعر نحو عامة القراء بعد أن صوره داريل كـ «حارس غريب» وشاعر عجوز استحضر من خلاله روح الإسكندرية بكل رونقها وتعبها وزيفها وتحفزها.
بدأ كفافيس يكتب الشعر بعد عودته من الآستانة ولم ينشر ديواناً قط في حياته، وإنما كان يكتب قصاصات من الورق ويوزعها على قليلين، ولعبت الذكريات في إبداعه دورا سحريا، ربما لعدم رضاه بحياته الراهنة، وباعتبار الماضي وسيلة لتحليل الحاضر,, ولعل أكبر مثال على ذلك قصيدته «في انتظار البرابرة» والتي كتبها عام 1911 والتي تتخذ من الأساطير الإغريقية إطارا لها، بالرغم من أنها تتحدث في لبها عن استسلام وهوان معاصريه للاحتلال الإنكليزي.
وهو شاعر وجداني معارض للاتجاه الغنائي، لغته بسيطة غير فخمة، تناسى عن قصد وبإصرار، المشاكل المعاصرة، مفضلا عليها التغلغل في حقب تاريخية بعيدة تحمل صلة ضمنية بالواقع، دائما ما يتفاخر بهويته كيوناني داخل شعره ويتحسر على المجد الغابر للحضارة الإغريقية.
غير أنه في منحاه هذا حاول أن يتجنب، بقدر الإمكان، المحاولات الشعرية النمطية في الأدب اليوناني، وخلق أسلوبا خاصا به، فنجده تجاهل منهج هوميروس والرومانسيين الأوروبيين، وحتى شعراء اليونان المعاصرين، إلا في قصائد مبكرة له حملت طابعا أسطوريا كقصائد «خيول أخيل» و«ألعوبة القدر» و«نهائيات».
لم يستقر على شكل لغوي محدد، وإنما كان ينتقل بين الفصحى والعامية اليونانية، بما يخدم هدفه الشعري، فهو القائل: «بالطبع علينا أن نكتب بالعامية، ولكن على صانع الكلمات أن يجمع بين ما هو جميل وما هو حى», وبالرغم مما اتسم به كفافيس من مهاجمته للكنيسة في شعره غالبا، إلا أن قصيدته الأخيرة والوحيدة المكتوبة في عام وفاته 1933 «في ضواحي أنطاكية»، حيَّرت متلقي فنه بشأن موقفه الديني، ففي تلك القصيدة تصالح الشاعر مع الكنيسة.
القاهرة - من ميادة الدمرداش
في أبريل ولد، وفيه رحل أيضا، سبعون عاما قضى نصفها تقريبا في الشعر الذي وهب له روحه وقلمه.
في التاسع والعشرين من شهر أبريل مرت ذكرى وفاة الشاعر اليوناني - السكندري قسطنطين كفافيس، صاحب قصائد «المدينة»، «إيثاكا» و«في انتظار البرابرة», «الرأي العام» التقت في ذكراه مجموعة من الشعراء والأدباء المصريين الذين أدلوا بشهادتهم عن شعره وحياته.
الشاعر الحاصل على جائزة «كفافيس» للشعر لعام 1994، محمد سليمان، أكد أن «كفافيس» مع كل من: عبدالمعطي حجازي وصلاح عبدالصبور و «ت, س, إليوت» والمعري وجاهين,, هم أهم أساتذة أثروا في بداياته الشعرية، مشيرا إلى أن «قصائده بخاصة اتسمت بالبساطة والعمق في آن».
وذكر أن لهذا الشاعر اليوناني قصائد عدة رئيسية يقرأها باستمرار وهي: «المدينة» و«في انتظار البرابرة» و «إيثاكا»، مبينا أن ما يلفته فيها هو «مزج الواقع السكندري بالأساطير الإغريقية القديمة، دون إهمال للتجربة الشخصية للشاعر».
وأوضح أن «كفافيس مارس الحياة مع أبسط الناس، وكانت له قدرة خاصة على سبر أعماق الحياة والبشر»، ولعل هذا ما جذبه إلى هذا الشاعر، حسب ما يقول، لأنه من «المسكونين بهواجس إنسانية غاية في الرقة والألم».
وأشار سليمان إلى أن له قصيدة تناولت شخصية وشاعرية كفافيس عنوانها «تمارين على الموت»، وفيها يعترف لهذا الشاعر الكبير بفضله في إذكاء موهبة الشعر داخله، مشيرا إلى أن كفافيس من قلائل الشعراء الذين يؤثرون في كل الأجيال الأدبية.
أما الدكتور فخري لبيب فيهدم التصور الشائع حول احتفاء رواية «رباعيات الإسكندرية» في أجزائها الأربعة للكاتب البريطاني لورانس داريل الذي عاش فترة طويلة في الإسكندرية، بكفافيس شاعرا، مؤكدا أن «تعرض داريل لكفافيس كان عابرا في الرواية ولم يكن شخصية محورية بل شخصية «ظِل» يأتي ذكرها على لسان بعض الأبطال في العمل».
وأوضح لبيب -وهو الذي عمل على ترجمة «الرباعية» من الإنكليزية إلى العربية «أن الرواية في إجمالها لم تنصف النماذج والأبطال المصريين داخلها، وربما أن التعرض الإيجابي لكفافيس أتى من عنصرية داريل الذي جعل في رباعياته كل ما هو إيجابي حكرا على الأجانب المقيمين في الإسكندرية دون مصرييها».
وأشار إلى أن إسكندرية «داريل» ليست ما نعرفها نحن كمصريين، وإنما هي رصد للواقع الأجنبي «الكوزموبليتاني» داخل المدينة، وعليه فإن كفافيس في الرباعيات كان أداة وليس هدفا في ذاته.
وأكد الشاعر شعبان يوسف أن «أثر كفافيس على الشعر والشعراء المصريين واضح وقوي للغاية، وممتد لجميع اتجاهاتهم وأجيالهم الأدبية»، وقال: «حتى إن عملاقين كصلاح عبدالصبور وأمل دنقل، بالرغم من اختلاف منهجيهما- تأثرا بهذا الشاعر اليوناني».
وشدد على أن هذه «البصمة غير مقصورة على ناحية الأسلوب أو الموضوع الشعري فقط، بل الاثنان معا، إذ إن الشعر المصري تأثر بكفافيس وخصوصا في ميله للتفاصيل والتكثيف اللغوي، وأيضا عروجه على شعر الحاجيات الذي تظهر فيه مفردات الحياة اليومية جلية للغاية».
وأوضح يوسف أن «عددا من الروائيين المصريين تأثروا بكفافيس، ولعل أبرزهم إدوارد الخراط وإبراهيم عبدالمجيد اللذان اكتسبا منه حسه السكندري وميله البحر متوسطي».
مشيرا إلى أن «الترجمات المصرية لشعر كفافيس حتى الآن بلغ عددها 15 ترجمة، أنجزها عديدون، منهم: بشير السباعي، نعيم عطية، عبدالغفار مكاوي، وصلاح عبدالصبور».
ولفت يوسف إلى أن «كفافيس منح لمصر بعدا آخر إضافة إلى أبعادها التاريخية ووجوهها الحضارية المعروفة، هذا البعد هو البعد المتوسطي الذي ربما تفتقده مصر في زحام أوصافها العربية - الإسلامية والأفريقية - الفرعونية».
وأوضح «رغم من تمتع كفافيس بالمولد والوفاة السكندرية، إلا أنه شاعر يوناني صميم، لكنه يكتسب بعدا عالميا فوق قومي».
وعن مكانته في ساحة الشعر العالمي واليوناني، أكد يوسف أن «كفافيس يوازي بأهميته كلاًّ من بابلو نيرودا ورافائيل البرتي، لأن شعره كفاحي يهتم بالقضايا الإنسانية الكبرى»، موضحا أن شعر كفافيس، ابتعد السريالية واقترب من الواقع بهدف تطوير الروح العامة للحياة والناس.
وأكد أن «كفافيس جاور بموهبته أيضا اليوناني «ريتسوس» الذي وقف له ندا وكذلك يحتفي بهما اليونانيون كرمزين أدبيين لا فارق بين أهميتهما».
منطلقا من شعور بالعدمية واللاجدوى، صنع قسطنطين كفافيس المولود في الإسكندرية عام 1863، عالما شعريا فريدا، نزع خلاله لتحليل مفردات العالم واستبدالها فنيا وواقعيا بأخرى جديدة أكثر اتساقا -في نظره- مع طبيعة الواقع المـُعاش، معتمدا في ذلك على صب التفاصيل الحياتية واليومية البسيطة في قالب ملحمي أسطوري,, هو وليد النشأة اليونانية للشاعر.
سبعون عاما عاشها وكرَّس فيها كفافيس حياته لسبر أغوار النفس الإنسانية وللشعر معا، حتى صار الاثنان رديفين ووجهين لعملة واحدة، ولولا روحه المعذبة المتطلعة لفهم نفسها، ما أصبح شاعرا، في وقت كان الشعر فيه أداته الوحيدة لترجمة وتنفيس عذابات وكآبة وملل لا حدود لها.
عذاباته تلك أوجدها التمرد والطموح لبلوغ عوالم أخرى أكثر رحابة وجرأة وعمقا، ولم تكن أبدا نتيجة قهر أو عجز إزاء الحياة الاعتيادية، وهو سليل العائلة اليونانية الأعرق والأثرى والأشهر بين جاليتها في مصر، والابن المدلل لأسرته، المـُلبى المطالب على الفور.
وُلد «كفافيس» لأب يوناني - تركي، كانت تجارته تمثل أضخم استثمار في مصر بين عامي 1851 و 1870، و وكان الطفل قسطنطين يقطن في قصر في أرقى أحياء الإسكندرية، ويتمتع وحده بخادمين ومدرس خاص فرنسي الأصل, وعلاوة على ذلك بحب أم نادر منحته إياه باعتباره ابنها الأصغر، والمعروف أن تلك الوالدة أثَّرت في الحياة العامة والشعرية لشاعرنا مدى الحياة، حتى أنها ساهمت في تكوين ميوله الجنسية «الشاذة» فيما بعد بسبب ملازمته الدائمة لها وعدم اختلاطه بمجتمع الذكور، وتدليلها الزائد له.
ظل كفافيس حبيس البيت يحيا حياة الترف حتى السادسة عشرة من عمره، وقد أتاحت معيشة الدعة لروحه أن تهيم، فأشبع نهمه للقراءة والاطلاع، وتشكل داخله ميل طاغ للوحدة والعزلة، وصدمه خروجه الأول للمدرسة التجارية في ذلك الحين، حيث وجد صعوبة في التأقلم مع الرفاق والحياة الجديدة.
سنوات قليلة بعدها ويضطر الشاعر عقب الاعتداء الإنكليزي على الإسكندرية عام 1882، للانتقال مع الأسرة إلى لندن ومنها للآستانة في تركيا، حيث مسقط رأس العائلة، قبل أن يعود مجددا إلى الإسكندرية ويستقر فيها إلى حين مماته في نهاية أبريل عام 1933، بعد صراع مع مرض سرطان الحلق، الذي تركه في أواخر أيامه أبكم.
إلى عام 1922، ظل قسطنطين كفافيس شاعرا مغمورا - لم يُطبع له ديوان إلا بعد وفاته - يكتب وتوزع قصائده على ندمائه المقربين غير عابئ بالجماهيرية والشهرة، ولولا قدوم الكاتب البريطاني آي, إم , فورستر إلى الإسكندرية أثناء الحرب العالمية الأولى وتأليفه كتابه «الإسكندرية تاريخ ودليل» والذي عرج فيه على كفافيس، باعتباره شاعرا متميزا وترجم له قصيدته «الإله يخذل أنطونيو»، واصفا إياه بـ «السيد اليوناني ذي القبعة القشية الواقف عند زاوية منحرفة قليلا عن الكون»، ما عرف الأدب العالمي شعر كفافيس.
أيضا لعبت «رباعيات الإسكندرية» لمؤلفها البريطاني لورانس داريل دورا كبيرا في دفع اسم الشاعر نحو عامة القراء بعد أن صوره داريل كـ «حارس غريب» وشاعر عجوز استحضر من خلاله روح الإسكندرية بكل رونقها وتعبها وزيفها وتحفزها.
بدأ كفافيس يكتب الشعر بعد عودته من الآستانة ولم ينشر ديواناً قط في حياته، وإنما كان يكتب قصاصات من الورق ويوزعها على قليلين، ولعبت الذكريات في إبداعه دورا سحريا، ربما لعدم رضاه بحياته الراهنة، وباعتبار الماضي وسيلة لتحليل الحاضر,, ولعل أكبر مثال على ذلك قصيدته «في انتظار البرابرة» والتي كتبها عام 1911 والتي تتخذ من الأساطير الإغريقية إطارا لها، بالرغم من أنها تتحدث في لبها عن استسلام وهوان معاصريه للاحتلال الإنكليزي.
وهو شاعر وجداني معارض للاتجاه الغنائي، لغته بسيطة غير فخمة، تناسى عن قصد وبإصرار، المشاكل المعاصرة، مفضلا عليها التغلغل في حقب تاريخية بعيدة تحمل صلة ضمنية بالواقع، دائما ما يتفاخر بهويته كيوناني داخل شعره ويتحسر على المجد الغابر للحضارة الإغريقية.
غير أنه في منحاه هذا حاول أن يتجنب، بقدر الإمكان، المحاولات الشعرية النمطية في الأدب اليوناني، وخلق أسلوبا خاصا به، فنجده تجاهل منهج هوميروس والرومانسيين الأوروبيين، وحتى شعراء اليونان المعاصرين، إلا في قصائد مبكرة له حملت طابعا أسطوريا كقصائد «خيول أخيل» و«ألعوبة القدر» و«نهائيات».
لم يستقر على شكل لغوي محدد، وإنما كان ينتقل بين الفصحى والعامية اليونانية، بما يخدم هدفه الشعري، فهو القائل: «بالطبع علينا أن نكتب بالعامية، ولكن على صانع الكلمات أن يجمع بين ما هو جميل وما هو حى», وبالرغم مما اتسم به كفافيس من مهاجمته للكنيسة في شعره غالبا، إلا أن قصيدته الأخيرة والوحيدة المكتوبة في عام وفاته 1933 «في ضواحي أنطاكية»، حيَّرت متلقي فنه بشأن موقفه الديني، ففي تلك القصيدة تصالح الشاعر مع الكنيسة.