زهير
05-02-2006, 10:20 AM
الوضع الصحي العام في العراق من الأسفل إلى القاع
02/05/2006
تحقيق: د. جمال حسين
كحال المؤسسات الخدمية جميعها في العراق، ورثت السلطة العراقية الراهنة من النظام المندثر واقعا صحيا متخلفا إلى أقصى حد بدأ فيه الانحدار أوقات الحرب العراقية - الإيرانية التي عذبت كثيرا هذه المؤسسة المهذبة بعسكرتها الشاملة ووضعها لخدمة ما كانوا يطلقون عليه ب 'المجهود الحربي' ومن ثم أتت عليها سنوات الحصار لتحيلها ركاما من أشلاء ما تبقى لهيكل طبي عريق تمتد جذوره لقرون العصر الذهبي للطب العراقي الذي امتزجت فيه المعاصرة بإكمال خيرة الموهوبين في البلاد في المعاهد البريطانية والأميركية والفرنسية الطبية وعودتهم منذ بداية الدولة الملكية في العراق ليؤسسوا صرحا لم يجاره أحد في الإقليم وتقاليد وحرفية عالية في وقت كانت فيه المؤسسة الطبية العراقية على مر عقود القرن المنصرم تعاني من المشكلة المزمنة المنحصرة في التمويل والاعتناء بالمريض وخدمة السرير كما يسمونها، لكن عبقرية الأطباء ومساعديهم كانت تتولى التغطية على النواقص الأخرى التي كانت الحكومات المتعاقبة تتنافس في التقصير والتقشف على القطاع الصحي الحكومي، بغض النظر عن ازدهار العيادات والمستشفيات الخاصة التي برع في تشييدها أطباء من الصعب جدا تعويضهم.
بدون الخوض في فضائل الزمن الجميل الذي أهدى للعراقيين نوابغ عصرهم في كل الاختصاصات الطبية على الإطلاق، فإن تسييس هذه المهنة وعسكرتها وتهدم المجتمع برمته في الحكم الفردي مهد للهجرة الأولى من هؤلاء لتليهم الهجرة الثانية التي سببها قحط الحصار الذي جعل العراقيين يعالجون أمراضهم بالنوم حتى الموت.
غير أن الهجرة الثالثة كانت أشد إيلاما ومرارة، فلم يحسن المجتمع المتوتر رد الجميل إلى الأطباء ولم يرفق بهم في وقت دخلت فيه السلطة العراقية الجديدة محاولة محو الصورة السابقة وبراثن الحصار الذي هز كيان المؤسسة الطبية العراقية، فكان الاهتمام مكعبا في هذا القطاع، سواء من الحكومات الثلاث التي شكلت أو المنظمات الدولية وتلك الدول التي ساهمت في دحر النظام السابق.
وعاشت المنظومة الصحية العراقية أيامها الحلوة مع رفع الحصار والاهتمام الداخلي الخارجي ووصول مساعدات لا بأس بها من مانحين ومحسنين وأولئك الذين لهم حساباتهم الاستراتيجية في العراق.
ازدادت مرتبات الأطباء بشكل يضمن لهم حياة شريفة في البلاد وظهرت مختلف أنواع الأدوية ولاسيما المصيرية، ولم يستطع أحد ممن قادوا العراق في السنوات الثلاث الأخيرة الشعور بالذنب لأنه تقشف بالأموال للنهوض بالواقع الصحي البائس الذي ورثوه عن النظام السابق.
وتمكنت السلطات الراهنة من إخراج الطبيب العراقي من فقره ودفعته لواجهة المجتمع حيث خصصت له أعلى المرتبات من بين العاملين في الدولة العراقية وإن كانت على المستوى العالمي ضئيلة، لكنها قياسا بمستوى المعيشة العام مناسبة.
وخفت الشكاوى الخاصة بعدم توفر الأدوية والأدوات العامة والعقاقير والأمصال والملقحات وما يتعلق بالتخدير واستطاعت الدولة ترميم ما تم نهبه أو إحراقه وبدا وكأن المستشفيات تبدأ فترة جديدة من النهوض.
الضربة الغادرة
انتعاش الدخل الفردي وارتفاعه جعلا الناس يعدلون أسنانهم ويتذكرون أمراضهم التي صبروا عليهم وأخذوا يتدفقون على العيادات الخاصة للأطباء الذين كانوا يعملون فيها بعد انتهاء حصصهم في مستشفيات القطاع العام وكانت الأمور تسير بالشكل الصحيح.
ولكن سرعان ما تضاءل حلم العودة لأمجاد المؤسسة الطبية العراقية ما أن بدأت جهات مختلفة باقتناص الأطباء والتنكيل بهم وخطفهم وطلب فدية لإطلاق سراحهم، ناهيك عن البشع فيما حصل: بدأت 'فرق الموت' نشاطها باغتيال الأطباء اللامعين واحدا تلو الآخر.
ثمة من اندهش وآخر تصور الأمر إشاعات والثالث أعطى لنفسه مهلة للتفكير ورابع قتل تبعه الخامس والعاشر وصاروا مئات، وفي هذا الوقت بدأت الهجرة الثالثة المخيبة للآمال، فلم يعد للأطباء المتخصصين الكبار مكان في بلاد لا يستطيع أحد حمايتهم فيها، واستطاع من صفى أعماله الفرار بالسرعة الممكنة للعمل في أي مكان في العالم ولكن ليس في العراق، وأثرت هذه الهجرة كثيرا على المستوى العام للطب في العراق، لأن أجيال التسعينات من الأطباء كانوا نتاج للواقع الخائب أيضا، بفساده ولامبالاته بانهيار المؤسسة التعليمية التي كانت تشرف على تخريجهم، لتمتلئ المستشفيات العراقية هذه المرة بأشباه الأطباء.
من قمة الهرم نزولا
الذي يتمشى بلا عمل وبدون تركيز يمكنه ملاحظة شيء مهم في مبنى وزارة الصحة العراقية وهو أنها غير نظيفة ولا توجد في المؤسسة الصحية العليا في البلاد ما يسمونه: ثقافة صحية!
تشبه من الداخل أي مؤسسة أخرى للبلدية أو الزراعة أو أي فرع آخر، لا تعطيك انطباعا بأن سكان الوزارة متخصصون في الصحة وأن من يزورهم يداري حياة البشر، هي صورة متواضعة لمن يريد أن ينهي اليوم بأي طريقة وفي النتيجة هي ثقافة، تبدأ من الوزير حتى المنظف.
ومع ذلك أكملوا في الوزارة دراسة طلبها مجلس الوزراء ل 'تطوير الواقع الصحي في العراق'، فالدراسات أسهل شيء، بناء على طباع بلد حكم من بيروقراطيين ومحبي الورق والتقارير.
وتضمنت تأسيس أربعة مراكز لتوزيع الأدوية للجم حالة تسربها إلى الأسواق والاستيراد العشوائي لمن هب ودب في هذه العملية الخطيرة للغاية على حياة الناس.
هؤلاء أنشأوا السوق المحلية للأدوية وأغلبهم بلا ترخيص، لكن الدراسة الاستراتيجية التي ستعتمد عليها قوانين الدولة، أجازت لمديري المستشفيات شراء الأدوية الضرورية من السوق المحلية، الأمر الذي أنهى صلاحية المراكز الأربعة المذكورة أولا، وثانيا، أضاف للسوق المحلية المغشوشة ازدهارا لا يليق بها، ثالثا، شجع فساد المديرين المحليين الذين سيتفقون مع المستوردين بناء على نسبة من تحت الطاولة تدفع لهم أو أن المديرين أنفسهم سيؤسسون باسم أقاربهم شركات خاصة تستورد لمستشفياتهم الأدوية بلا رقابة.
لأن رقابة وزارة الصحة خطيرة هنا، فهي التي تحدد أن الدواء تم استيراده من مصدره الأصلي وليس من الشركات التي تقلد أو تسرق أو تعمل بدائل سيئة للكثير من الأدوية.
وقصة 'الدواء البديل' هي الأكثر شيوعا في العراق، فلا يوجد دواء أصلي على العموم وكل الشعب يلتهم أدوية مقلدة من معامل دول الجوار الخاصة وفي أحسن الأحوال هندية وباكستانية.
مدينة الطب
من حيث المساحة فقط تعتبر خامس مجمع طبي في العالم، شيدت في الستينات على أطلال مستشفى كانوا يسمونه 'المجيدية' (حتما على اسم سلطان عثماني اسمه عبد المجيد) استبدلوا اسمه بعد عام 1958 ليكون 'الجمهوري' ليصبح اسمه الآن 'مستشفى بغداد التعليمي'.
الملكيون الأبرار هم الذين وضعوا وصمموا مشروع مدينة الطب بفضل وزير الصحة الملكي الدكتور محمد حسن سلمان وشركة كبرى ومتخصصة في نيويورك التي أنهت التصميم النهائي للمجمع الذي سيضم بعد سنوات من شروع الجمهوريين مطلع الستينات في تنفيذ المشروع الصحي الأكبر في تاريخ البلاد، العديد من المستشفيات والمعاهد الطبية المتخصصة بأمراض الأطفال والنسائية والتوليد والباطنية والجراحة العامة والقلب والأورام السرطانية والأشعة والصيدلة والأسنان وعددا كبيرا آخر من الردهات والاختصاصات المختلفة.
الأبنية ضخمة، وتحتاج إلى كهرباء بلا انقطاع، فما الذي يفعله المريض الذي أجلوا عمل قلبه وأسندوه لجهاز يباشر في ضخ الدم لجسده فيما لو انقطع التيار الكهربائي ؟ وما الذي يفعله الممرضون لو كانوا يريدون نقل مريض من طابق إلى آخر لو توقفت المصاعد التي شاخت بعد تجاوزها الأربعين عاما ؟ وألا يحتاج الأطباء هناك إلى حماية أمنية من اللصوص وقطاع الطرق والمعتدين والأقارب الذين يحملون الطبيب دائما مزاج عزرائيل ؟ 'الطريف أن المسؤولين عن الأمن لا يفتشون أيا من الداخلين ولكنهم يمعنون في تفتيش الصحافيين فقط ولا يسمحون بدخولهم المبنى إلا بموافقة عليا وحين تأتي فمشروطة: الدخول بلا كاميرات!'.
ويمكن عد النهضة التي يشهدها الواقع الصحي العراقي الآن معنوية أكثر من كونها عملية، فالأجهزة الحديثة دخلت بالفعل إلى مدينة الشفاء الكبرى في العراق وباقي المستشفيات الأصغر منها، لكنها غير كافية ولم تلب الاحتياجات الهائلة التي وصلت في بعض الاختصاصات إلى الصفر أوقات النظام السابق، كما قالوا لنا، وعرفنا منهم أيضا، أن بعض العمليات الصارمة لا يقومون بها بسبب عدم وجود هذه الأجهزة.
ويبدو أن الاستقرار والزمن سيحلان مشكلة نقص الأجهزة، طالما يوجد إجماع في البرلمان والحكومة وكل المجتمع على ضرورة دعم المؤسسة الصحية.
ولابد من الإشارة إلى أن الأجهزة الحديثة وتوافرها ليس المشكلة، لو علمنا أن الكادر الطبي أساسا غير مدرب عليها لأنه عمل خلال سنوات طويلة بما توافر لديه، لذلك فإن الدعم والمال غير كافيين، المسألة بحاجة إلى وقت.
لا أحد يستطيع تأخير المرض أو تأجيله، وحين لا يتوافر جهاز السونار مثلا في هذه المستشفى، يرسلون المريض حيث يوجد، وحين يصل إلى هناك يجد المئات بانتظار الدور الذي قد يأتي بعد فوات الأوان! فإذا كانت أجهزة التشخيص قليلة، فكيف الحال بأجهزة إدامة الحياة التي تستخدم في العناية المركزة ؟
أطباء وأشباههم
ذاعت ظاهرة تزوير الشهادات وانتشرت في العراق منذ مطلع التسعينات، لكنها صارت موضة الآن، فالذين قدموا على العراق كلهم مفصولون سياسيون وكلهم كانوا مسجونين والغريب أنهم جميعا أطباء!
لا نعرف السر الذي يجعل المرء يزور شهادة الطب، فهذه المهنة لا يمكن تزويرها على الإطلاق، فلديه المئات من الاختصاصات العامة التي يمكنه الادعاء بها ولكن الطب، مسألته صعبة للغاية!
لذلك شكا لنا الأطباء المحليون من قضيتين في هذا المجال: عدم تعيين زملاء لهم في المستشفيات واعتماد مبدأ 'الأجر اليومي' لهم لأنهم خارج الملاك ويتم التعامل معهم كأنهم عمال سخرة وثانيا، ولوج ما سنطلق عليهم 'أطباء الأحزاب' الذين تم تعيينهم مفضلينهم على المحليين لأنهم 'مضطهدون سياسيا'، وكل هؤلاء خريجي المعاهد الإيرانية التي لم يسمع بها أحد، فالطبيب المحترف لا يخفى عليه لو كان الذي يقف جانبه 'غشيم بالشغلة'، ومع أنه كذلك ولا يعرف أي شيء بالطب ولا حتى التضميد، ولأنه حزبي ومناضل فقد تبوأ بعد فترة قصيرة رئاسة الأقسام والمستشفيات، ونرى ان هذا حل مناسب لأشباه الأطباء، تولي المسؤولية الإدارية لكي يبتعد على الأقل من المرضى لأنه آخر شخص يحتاجونه.
مستشفى الإرهاب
لعل مستشفى اليرموك صار الأكثر شهرة في العالم، فوسائل الإعلام تذكر اسمه يوميا تقريبا، ليس لأن ال 400 طبيب فيه نصفهم حملوا نوبل للطب، بل لأنه المستشفى الذي يستقبل ضحايا العمليات الإرهابية وحتى المسؤولون الكبار الذين أصيبوا جراءها.
وهو مستشفى نموذجي لباقي المواقع الصحية في العراق، ويملأ الصورة الصحية برمتها بمسراتها وأوجاعها، وآمالها وآلامها.
يعاني كباقي مستشفيات العراق من القدم والإهمال وتسرب الأدوية وفساد 'البقشيش' وقلة الصيانة ونقص الأجهزة والأدوات حيث يستقبل يوميا ألفي مراجع مختلفين في الهموم والأمراض والطباع، ويداوم فيه نصف هذا العدد من الأطباء والعاملين والإداريين وغيرهم بواقع طبيب لكل 75 مريضا وهذه نسبة متدنية بالمقاسات العلمية والعالمية التي حددت كحد أقصى عشرين مريضا لكل طبيب.
وبالمستطاع أن يصل العراق إلى هذه النسبة لو أن كل أطبائه يعملون فيه وليس في بقاع الأرض المختلفة.
يتبع الحلقة الثانية..
02/05/2006
تحقيق: د. جمال حسين
كحال المؤسسات الخدمية جميعها في العراق، ورثت السلطة العراقية الراهنة من النظام المندثر واقعا صحيا متخلفا إلى أقصى حد بدأ فيه الانحدار أوقات الحرب العراقية - الإيرانية التي عذبت كثيرا هذه المؤسسة المهذبة بعسكرتها الشاملة ووضعها لخدمة ما كانوا يطلقون عليه ب 'المجهود الحربي' ومن ثم أتت عليها سنوات الحصار لتحيلها ركاما من أشلاء ما تبقى لهيكل طبي عريق تمتد جذوره لقرون العصر الذهبي للطب العراقي الذي امتزجت فيه المعاصرة بإكمال خيرة الموهوبين في البلاد في المعاهد البريطانية والأميركية والفرنسية الطبية وعودتهم منذ بداية الدولة الملكية في العراق ليؤسسوا صرحا لم يجاره أحد في الإقليم وتقاليد وحرفية عالية في وقت كانت فيه المؤسسة الطبية العراقية على مر عقود القرن المنصرم تعاني من المشكلة المزمنة المنحصرة في التمويل والاعتناء بالمريض وخدمة السرير كما يسمونها، لكن عبقرية الأطباء ومساعديهم كانت تتولى التغطية على النواقص الأخرى التي كانت الحكومات المتعاقبة تتنافس في التقصير والتقشف على القطاع الصحي الحكومي، بغض النظر عن ازدهار العيادات والمستشفيات الخاصة التي برع في تشييدها أطباء من الصعب جدا تعويضهم.
بدون الخوض في فضائل الزمن الجميل الذي أهدى للعراقيين نوابغ عصرهم في كل الاختصاصات الطبية على الإطلاق، فإن تسييس هذه المهنة وعسكرتها وتهدم المجتمع برمته في الحكم الفردي مهد للهجرة الأولى من هؤلاء لتليهم الهجرة الثانية التي سببها قحط الحصار الذي جعل العراقيين يعالجون أمراضهم بالنوم حتى الموت.
غير أن الهجرة الثالثة كانت أشد إيلاما ومرارة، فلم يحسن المجتمع المتوتر رد الجميل إلى الأطباء ولم يرفق بهم في وقت دخلت فيه السلطة العراقية الجديدة محاولة محو الصورة السابقة وبراثن الحصار الذي هز كيان المؤسسة الطبية العراقية، فكان الاهتمام مكعبا في هذا القطاع، سواء من الحكومات الثلاث التي شكلت أو المنظمات الدولية وتلك الدول التي ساهمت في دحر النظام السابق.
وعاشت المنظومة الصحية العراقية أيامها الحلوة مع رفع الحصار والاهتمام الداخلي الخارجي ووصول مساعدات لا بأس بها من مانحين ومحسنين وأولئك الذين لهم حساباتهم الاستراتيجية في العراق.
ازدادت مرتبات الأطباء بشكل يضمن لهم حياة شريفة في البلاد وظهرت مختلف أنواع الأدوية ولاسيما المصيرية، ولم يستطع أحد ممن قادوا العراق في السنوات الثلاث الأخيرة الشعور بالذنب لأنه تقشف بالأموال للنهوض بالواقع الصحي البائس الذي ورثوه عن النظام السابق.
وتمكنت السلطات الراهنة من إخراج الطبيب العراقي من فقره ودفعته لواجهة المجتمع حيث خصصت له أعلى المرتبات من بين العاملين في الدولة العراقية وإن كانت على المستوى العالمي ضئيلة، لكنها قياسا بمستوى المعيشة العام مناسبة.
وخفت الشكاوى الخاصة بعدم توفر الأدوية والأدوات العامة والعقاقير والأمصال والملقحات وما يتعلق بالتخدير واستطاعت الدولة ترميم ما تم نهبه أو إحراقه وبدا وكأن المستشفيات تبدأ فترة جديدة من النهوض.
الضربة الغادرة
انتعاش الدخل الفردي وارتفاعه جعلا الناس يعدلون أسنانهم ويتذكرون أمراضهم التي صبروا عليهم وأخذوا يتدفقون على العيادات الخاصة للأطباء الذين كانوا يعملون فيها بعد انتهاء حصصهم في مستشفيات القطاع العام وكانت الأمور تسير بالشكل الصحيح.
ولكن سرعان ما تضاءل حلم العودة لأمجاد المؤسسة الطبية العراقية ما أن بدأت جهات مختلفة باقتناص الأطباء والتنكيل بهم وخطفهم وطلب فدية لإطلاق سراحهم، ناهيك عن البشع فيما حصل: بدأت 'فرق الموت' نشاطها باغتيال الأطباء اللامعين واحدا تلو الآخر.
ثمة من اندهش وآخر تصور الأمر إشاعات والثالث أعطى لنفسه مهلة للتفكير ورابع قتل تبعه الخامس والعاشر وصاروا مئات، وفي هذا الوقت بدأت الهجرة الثالثة المخيبة للآمال، فلم يعد للأطباء المتخصصين الكبار مكان في بلاد لا يستطيع أحد حمايتهم فيها، واستطاع من صفى أعماله الفرار بالسرعة الممكنة للعمل في أي مكان في العالم ولكن ليس في العراق، وأثرت هذه الهجرة كثيرا على المستوى العام للطب في العراق، لأن أجيال التسعينات من الأطباء كانوا نتاج للواقع الخائب أيضا، بفساده ولامبالاته بانهيار المؤسسة التعليمية التي كانت تشرف على تخريجهم، لتمتلئ المستشفيات العراقية هذه المرة بأشباه الأطباء.
من قمة الهرم نزولا
الذي يتمشى بلا عمل وبدون تركيز يمكنه ملاحظة شيء مهم في مبنى وزارة الصحة العراقية وهو أنها غير نظيفة ولا توجد في المؤسسة الصحية العليا في البلاد ما يسمونه: ثقافة صحية!
تشبه من الداخل أي مؤسسة أخرى للبلدية أو الزراعة أو أي فرع آخر، لا تعطيك انطباعا بأن سكان الوزارة متخصصون في الصحة وأن من يزورهم يداري حياة البشر، هي صورة متواضعة لمن يريد أن ينهي اليوم بأي طريقة وفي النتيجة هي ثقافة، تبدأ من الوزير حتى المنظف.
ومع ذلك أكملوا في الوزارة دراسة طلبها مجلس الوزراء ل 'تطوير الواقع الصحي في العراق'، فالدراسات أسهل شيء، بناء على طباع بلد حكم من بيروقراطيين ومحبي الورق والتقارير.
وتضمنت تأسيس أربعة مراكز لتوزيع الأدوية للجم حالة تسربها إلى الأسواق والاستيراد العشوائي لمن هب ودب في هذه العملية الخطيرة للغاية على حياة الناس.
هؤلاء أنشأوا السوق المحلية للأدوية وأغلبهم بلا ترخيص، لكن الدراسة الاستراتيجية التي ستعتمد عليها قوانين الدولة، أجازت لمديري المستشفيات شراء الأدوية الضرورية من السوق المحلية، الأمر الذي أنهى صلاحية المراكز الأربعة المذكورة أولا، وثانيا، أضاف للسوق المحلية المغشوشة ازدهارا لا يليق بها، ثالثا، شجع فساد المديرين المحليين الذين سيتفقون مع المستوردين بناء على نسبة من تحت الطاولة تدفع لهم أو أن المديرين أنفسهم سيؤسسون باسم أقاربهم شركات خاصة تستورد لمستشفياتهم الأدوية بلا رقابة.
لأن رقابة وزارة الصحة خطيرة هنا، فهي التي تحدد أن الدواء تم استيراده من مصدره الأصلي وليس من الشركات التي تقلد أو تسرق أو تعمل بدائل سيئة للكثير من الأدوية.
وقصة 'الدواء البديل' هي الأكثر شيوعا في العراق، فلا يوجد دواء أصلي على العموم وكل الشعب يلتهم أدوية مقلدة من معامل دول الجوار الخاصة وفي أحسن الأحوال هندية وباكستانية.
مدينة الطب
من حيث المساحة فقط تعتبر خامس مجمع طبي في العالم، شيدت في الستينات على أطلال مستشفى كانوا يسمونه 'المجيدية' (حتما على اسم سلطان عثماني اسمه عبد المجيد) استبدلوا اسمه بعد عام 1958 ليكون 'الجمهوري' ليصبح اسمه الآن 'مستشفى بغداد التعليمي'.
الملكيون الأبرار هم الذين وضعوا وصمموا مشروع مدينة الطب بفضل وزير الصحة الملكي الدكتور محمد حسن سلمان وشركة كبرى ومتخصصة في نيويورك التي أنهت التصميم النهائي للمجمع الذي سيضم بعد سنوات من شروع الجمهوريين مطلع الستينات في تنفيذ المشروع الصحي الأكبر في تاريخ البلاد، العديد من المستشفيات والمعاهد الطبية المتخصصة بأمراض الأطفال والنسائية والتوليد والباطنية والجراحة العامة والقلب والأورام السرطانية والأشعة والصيدلة والأسنان وعددا كبيرا آخر من الردهات والاختصاصات المختلفة.
الأبنية ضخمة، وتحتاج إلى كهرباء بلا انقطاع، فما الذي يفعله المريض الذي أجلوا عمل قلبه وأسندوه لجهاز يباشر في ضخ الدم لجسده فيما لو انقطع التيار الكهربائي ؟ وما الذي يفعله الممرضون لو كانوا يريدون نقل مريض من طابق إلى آخر لو توقفت المصاعد التي شاخت بعد تجاوزها الأربعين عاما ؟ وألا يحتاج الأطباء هناك إلى حماية أمنية من اللصوص وقطاع الطرق والمعتدين والأقارب الذين يحملون الطبيب دائما مزاج عزرائيل ؟ 'الطريف أن المسؤولين عن الأمن لا يفتشون أيا من الداخلين ولكنهم يمعنون في تفتيش الصحافيين فقط ولا يسمحون بدخولهم المبنى إلا بموافقة عليا وحين تأتي فمشروطة: الدخول بلا كاميرات!'.
ويمكن عد النهضة التي يشهدها الواقع الصحي العراقي الآن معنوية أكثر من كونها عملية، فالأجهزة الحديثة دخلت بالفعل إلى مدينة الشفاء الكبرى في العراق وباقي المستشفيات الأصغر منها، لكنها غير كافية ولم تلب الاحتياجات الهائلة التي وصلت في بعض الاختصاصات إلى الصفر أوقات النظام السابق، كما قالوا لنا، وعرفنا منهم أيضا، أن بعض العمليات الصارمة لا يقومون بها بسبب عدم وجود هذه الأجهزة.
ويبدو أن الاستقرار والزمن سيحلان مشكلة نقص الأجهزة، طالما يوجد إجماع في البرلمان والحكومة وكل المجتمع على ضرورة دعم المؤسسة الصحية.
ولابد من الإشارة إلى أن الأجهزة الحديثة وتوافرها ليس المشكلة، لو علمنا أن الكادر الطبي أساسا غير مدرب عليها لأنه عمل خلال سنوات طويلة بما توافر لديه، لذلك فإن الدعم والمال غير كافيين، المسألة بحاجة إلى وقت.
لا أحد يستطيع تأخير المرض أو تأجيله، وحين لا يتوافر جهاز السونار مثلا في هذه المستشفى، يرسلون المريض حيث يوجد، وحين يصل إلى هناك يجد المئات بانتظار الدور الذي قد يأتي بعد فوات الأوان! فإذا كانت أجهزة التشخيص قليلة، فكيف الحال بأجهزة إدامة الحياة التي تستخدم في العناية المركزة ؟
أطباء وأشباههم
ذاعت ظاهرة تزوير الشهادات وانتشرت في العراق منذ مطلع التسعينات، لكنها صارت موضة الآن، فالذين قدموا على العراق كلهم مفصولون سياسيون وكلهم كانوا مسجونين والغريب أنهم جميعا أطباء!
لا نعرف السر الذي يجعل المرء يزور شهادة الطب، فهذه المهنة لا يمكن تزويرها على الإطلاق، فلديه المئات من الاختصاصات العامة التي يمكنه الادعاء بها ولكن الطب، مسألته صعبة للغاية!
لذلك شكا لنا الأطباء المحليون من قضيتين في هذا المجال: عدم تعيين زملاء لهم في المستشفيات واعتماد مبدأ 'الأجر اليومي' لهم لأنهم خارج الملاك ويتم التعامل معهم كأنهم عمال سخرة وثانيا، ولوج ما سنطلق عليهم 'أطباء الأحزاب' الذين تم تعيينهم مفضلينهم على المحليين لأنهم 'مضطهدون سياسيا'، وكل هؤلاء خريجي المعاهد الإيرانية التي لم يسمع بها أحد، فالطبيب المحترف لا يخفى عليه لو كان الذي يقف جانبه 'غشيم بالشغلة'، ومع أنه كذلك ولا يعرف أي شيء بالطب ولا حتى التضميد، ولأنه حزبي ومناضل فقد تبوأ بعد فترة قصيرة رئاسة الأقسام والمستشفيات، ونرى ان هذا حل مناسب لأشباه الأطباء، تولي المسؤولية الإدارية لكي يبتعد على الأقل من المرضى لأنه آخر شخص يحتاجونه.
مستشفى الإرهاب
لعل مستشفى اليرموك صار الأكثر شهرة في العالم، فوسائل الإعلام تذكر اسمه يوميا تقريبا، ليس لأن ال 400 طبيب فيه نصفهم حملوا نوبل للطب، بل لأنه المستشفى الذي يستقبل ضحايا العمليات الإرهابية وحتى المسؤولون الكبار الذين أصيبوا جراءها.
وهو مستشفى نموذجي لباقي المواقع الصحية في العراق، ويملأ الصورة الصحية برمتها بمسراتها وأوجاعها، وآمالها وآلامها.
يعاني كباقي مستشفيات العراق من القدم والإهمال وتسرب الأدوية وفساد 'البقشيش' وقلة الصيانة ونقص الأجهزة والأدوات حيث يستقبل يوميا ألفي مراجع مختلفين في الهموم والأمراض والطباع، ويداوم فيه نصف هذا العدد من الأطباء والعاملين والإداريين وغيرهم بواقع طبيب لكل 75 مريضا وهذه نسبة متدنية بالمقاسات العلمية والعالمية التي حددت كحد أقصى عشرين مريضا لكل طبيب.
وبالمستطاع أن يصل العراق إلى هذه النسبة لو أن كل أطبائه يعملون فيه وليس في بقاع الأرض المختلفة.
يتبع الحلقة الثانية..