سلسبيل
04-30-2006, 06:40 AM
عندما يتحول الأموات شهودا على التاريخ
سراييفو: عبد الباقي خليفة
لا يحتاج الزائر الى منطقة البلقان، لا سيما الجمهوريات اليوغوسلافية السابقة، الى خريطة أو دليل سياحي لمعرفة التوزيع الاثني في المنطقة، فمشاهدة المقابر في أي منطقة يمر بها تعد كافية لمعرفة الطائفة والدين السائد. في الوقت الذي كانت تهدم فيه القبور لأسباب ثقافية غايتها محو أي آثار تدل على أن البوشناق او الألبان كانوا أو مروا من هنا، قبل أن يدركهم الموت، فإن ماكينة الموت نفسها والجرافات الدموية، كانت تساهم من دون أن تدري في تشييد مقابر جديدة، أو قل مراكز ثقافية جديدة قليلة الكلفة لكنها شديدة الرمزية.
لم تتحول مقابر ضحايا الحرب، بما فيها المقابر الجماعية، إلى رموز ثقافية فحسب، بل الى رموز تاريخية حقيقية ايضاً. فالنصب التذكاري في بلوتتشاري الذي جعل لضحايا سريبرينتسا الذين تجاوز عددهم 10، أصبح مزارا عالميا، يصر أي زائر، لا سيما الشخصيات الكبرى، ان يطلع عليه. وأصبح معرضا يطوف دول القارات الخمس بعد أن حط رحاله في الآونة الاخيرة في بيروت. ويعلق البعض على ذلك بالقول ان الأموات قاموا وأصبحوا شهودا على التاريخ وعلى الأحياء.
لم يعد الموت رمزا للسكون أو الفناء والانسحاب، و إنما شاهد على كل ذلك، ولم تعد رائحة الموت، بتعبير نيتشه، أمرا مقززا ومرفوضا واتهاما لمن يحذرون منه، وإنما لمن مارسوه ودعوا إليه بغير حق. وعندما يصبح الموت مقرونا بالوطنية يكتسب قداسة، وتصبح صور الذين تجرعوا كأس الموت دفاعا عن الديار والهوية والاستقلال والحرية، رموزا للحركة والبقاء والصمود، بل للحياة في عنفوانها ورسالتها.
وليس هذا خاصا بمنطقة ما في العالم دون أخرى، أو ثقافة دون ثقافة، أو الماضي دون الحاضر، فشواهد ذلك لا تعد ولا تحصى من أميركا اللاتينية وحتى أدغال آسيا مرورا بافريقيا وانتهاء بأوروبا. وقد أدرك سكان البلقان ذلك بطريقة ذكية، فشيدوا غالبية مقابرهم على مقربة من الطرق العامة والسريعة، وبالتالي لا يمكن للزائر أن يتيه أو يضيع في مسارب الحديث مع الناس، ولا يخشى الصحافي والباحث من زلات اللسان لجهل المكان وما يمثله طائفيا ودينيا، اذ يمكن لأي شخص أن يتكيف وفق طابع الموت المرسوم على المقابر، عندما يتحدث لاحياء اقرباء للموتى. يختار أسئلته بعناية ويتجنب استفزاز السكان وهو يعلم علم اليقين من هم.
وتختلف مقابر المسلمين عن مقابر موتى الاثنيات الاخرى في البلقان، في حين يلاحظ المرء اختلافا بين الصلبان الكاثوليكية والارثوذكسية والبروستانتية، ويمكن التفريق بينها بسهولة، وأثناء التنقل من منطقة إلى أخرى في البلقان يستطيع الزائر أن يميز بين تلك المقابر، ويحدد هوية سكانها.
في مقبرة كراوتية بمدينة كيسلياك القريبة من سراييفو (35 كيلومترا غربا)، التقت «الشرق الأوسط»، امرأة تدعى إنيتا، بدأ الحديث معها عن المطر الذي يتساقط رذاذا منذ ثلاثة أيام، كانت قلقة من ذلك لان الاول من مايو (ايار)، وهو عيد العمال، سيكون يوما ممطرا وفق أخبار الطقس ولن تتمكن من قضاء يوم عطلة يفوح برائحة الشواء، كما جرت العادة، وكانت فرصة لسؤالها عن سبب وجودها في المقبرة، فقالت: «لم نأت إلى هنا في يوم الفصح الاخير، وليس لدينا وقت لتنظيف مقابر موتانا». لاحظت المرأة اهتمامنا بموضوع المقابر، فبادرت بالسؤال: «رأيت في المنام قبر جدي وجدتي بين يدي وهما يميلان يمينا وشمالا، وكلما حاولت تعديلهما، يميلان مرة أخرى، ماذا يعني هذا؟». كانت الاجابة برزخا بين الشعوذة والبداهة، اذ قال زميل: «يبدو إنك لم تزوري قبريهما منذ فترة طويلة، وعليك بزيارتهما». ثم اضاف قبل أن أضع يدي على فمه: «ربما يكونان يعذبان..». وهنا انبرت مصدقة لما سمعت ومؤكدة انه التفسير الصحيح وانه أفضل من جميع التفاسير التي سمعتها في الكنيسة. وفي كاليسيا القريبة من مدينة توزلا (120 كيلومترا شمال سراييفو)، عثرت «الشرق الأوسط» على امرأة في احدى مقابر المسلمين، كانت تناجي صاحب القبر بصوت منخفض لا يسمع بسهولة وقد بللته بدموعها المدرارة، لم تفطن لوجود اناس امامها الا بعد فترة، ولم يكن المرء بحاجة الى كثير من الفراسة ليعرف أن الذي بجانبه يحمل بين جوانحه نفس الوجدان والمشاعر يمكنه الانخراط فيما هي فيه. وقالت: «هذا قبر ابني الذي قتل سنة 1995، ترك ولدين وبنتا، لم أنجب سواه ولم أصب بألم أكثر من ألم فقدانه». كانت هناك نساء أخريات في المقبرة، كل تبكي على عزيزها أو أعزتها وترثي مفقودها أو مفقوديها، غاب أو غابوا تحت الثرى ولكنهم لا يزالون يسرجون أفئدة كثيرة. وفي مدينة تعد معقلاً لصرب البوسنة، كانت المقبرة ذات الصلبان المعقوفة التي تذكر بالحرب العالمية الثانية وكذلك بالحرب البوسنية والكوسوفية، تكاد تختفي مع نمو الاعشاب، ولم يكن بالمقبرة سوى الحارس الذي قال: «هنا دفن الكثير من الشبان الذين قتلوا في الحرب، ذنبهم انهم استجابوا لدعوات فاشية من بعض القادة». وتابع قائلاً: «كنا نعيش معا في هدوء واطمئنان. أنا شخصيا لا أعرف لماذا قتل هؤلاء، لم تقم صربيا الكبرى، ولم تعد يوغوسلافيا كما كانت».
سراييفو: عبد الباقي خليفة
لا يحتاج الزائر الى منطقة البلقان، لا سيما الجمهوريات اليوغوسلافية السابقة، الى خريطة أو دليل سياحي لمعرفة التوزيع الاثني في المنطقة، فمشاهدة المقابر في أي منطقة يمر بها تعد كافية لمعرفة الطائفة والدين السائد. في الوقت الذي كانت تهدم فيه القبور لأسباب ثقافية غايتها محو أي آثار تدل على أن البوشناق او الألبان كانوا أو مروا من هنا، قبل أن يدركهم الموت، فإن ماكينة الموت نفسها والجرافات الدموية، كانت تساهم من دون أن تدري في تشييد مقابر جديدة، أو قل مراكز ثقافية جديدة قليلة الكلفة لكنها شديدة الرمزية.
لم تتحول مقابر ضحايا الحرب، بما فيها المقابر الجماعية، إلى رموز ثقافية فحسب، بل الى رموز تاريخية حقيقية ايضاً. فالنصب التذكاري في بلوتتشاري الذي جعل لضحايا سريبرينتسا الذين تجاوز عددهم 10، أصبح مزارا عالميا، يصر أي زائر، لا سيما الشخصيات الكبرى، ان يطلع عليه. وأصبح معرضا يطوف دول القارات الخمس بعد أن حط رحاله في الآونة الاخيرة في بيروت. ويعلق البعض على ذلك بالقول ان الأموات قاموا وأصبحوا شهودا على التاريخ وعلى الأحياء.
لم يعد الموت رمزا للسكون أو الفناء والانسحاب، و إنما شاهد على كل ذلك، ولم تعد رائحة الموت، بتعبير نيتشه، أمرا مقززا ومرفوضا واتهاما لمن يحذرون منه، وإنما لمن مارسوه ودعوا إليه بغير حق. وعندما يصبح الموت مقرونا بالوطنية يكتسب قداسة، وتصبح صور الذين تجرعوا كأس الموت دفاعا عن الديار والهوية والاستقلال والحرية، رموزا للحركة والبقاء والصمود، بل للحياة في عنفوانها ورسالتها.
وليس هذا خاصا بمنطقة ما في العالم دون أخرى، أو ثقافة دون ثقافة، أو الماضي دون الحاضر، فشواهد ذلك لا تعد ولا تحصى من أميركا اللاتينية وحتى أدغال آسيا مرورا بافريقيا وانتهاء بأوروبا. وقد أدرك سكان البلقان ذلك بطريقة ذكية، فشيدوا غالبية مقابرهم على مقربة من الطرق العامة والسريعة، وبالتالي لا يمكن للزائر أن يتيه أو يضيع في مسارب الحديث مع الناس، ولا يخشى الصحافي والباحث من زلات اللسان لجهل المكان وما يمثله طائفيا ودينيا، اذ يمكن لأي شخص أن يتكيف وفق طابع الموت المرسوم على المقابر، عندما يتحدث لاحياء اقرباء للموتى. يختار أسئلته بعناية ويتجنب استفزاز السكان وهو يعلم علم اليقين من هم.
وتختلف مقابر المسلمين عن مقابر موتى الاثنيات الاخرى في البلقان، في حين يلاحظ المرء اختلافا بين الصلبان الكاثوليكية والارثوذكسية والبروستانتية، ويمكن التفريق بينها بسهولة، وأثناء التنقل من منطقة إلى أخرى في البلقان يستطيع الزائر أن يميز بين تلك المقابر، ويحدد هوية سكانها.
في مقبرة كراوتية بمدينة كيسلياك القريبة من سراييفو (35 كيلومترا غربا)، التقت «الشرق الأوسط»، امرأة تدعى إنيتا، بدأ الحديث معها عن المطر الذي يتساقط رذاذا منذ ثلاثة أيام، كانت قلقة من ذلك لان الاول من مايو (ايار)، وهو عيد العمال، سيكون يوما ممطرا وفق أخبار الطقس ولن تتمكن من قضاء يوم عطلة يفوح برائحة الشواء، كما جرت العادة، وكانت فرصة لسؤالها عن سبب وجودها في المقبرة، فقالت: «لم نأت إلى هنا في يوم الفصح الاخير، وليس لدينا وقت لتنظيف مقابر موتانا». لاحظت المرأة اهتمامنا بموضوع المقابر، فبادرت بالسؤال: «رأيت في المنام قبر جدي وجدتي بين يدي وهما يميلان يمينا وشمالا، وكلما حاولت تعديلهما، يميلان مرة أخرى، ماذا يعني هذا؟». كانت الاجابة برزخا بين الشعوذة والبداهة، اذ قال زميل: «يبدو إنك لم تزوري قبريهما منذ فترة طويلة، وعليك بزيارتهما». ثم اضاف قبل أن أضع يدي على فمه: «ربما يكونان يعذبان..». وهنا انبرت مصدقة لما سمعت ومؤكدة انه التفسير الصحيح وانه أفضل من جميع التفاسير التي سمعتها في الكنيسة. وفي كاليسيا القريبة من مدينة توزلا (120 كيلومترا شمال سراييفو)، عثرت «الشرق الأوسط» على امرأة في احدى مقابر المسلمين، كانت تناجي صاحب القبر بصوت منخفض لا يسمع بسهولة وقد بللته بدموعها المدرارة، لم تفطن لوجود اناس امامها الا بعد فترة، ولم يكن المرء بحاجة الى كثير من الفراسة ليعرف أن الذي بجانبه يحمل بين جوانحه نفس الوجدان والمشاعر يمكنه الانخراط فيما هي فيه. وقالت: «هذا قبر ابني الذي قتل سنة 1995، ترك ولدين وبنتا، لم أنجب سواه ولم أصب بألم أكثر من ألم فقدانه». كانت هناك نساء أخريات في المقبرة، كل تبكي على عزيزها أو أعزتها وترثي مفقودها أو مفقوديها، غاب أو غابوا تحت الثرى ولكنهم لا يزالون يسرجون أفئدة كثيرة. وفي مدينة تعد معقلاً لصرب البوسنة، كانت المقبرة ذات الصلبان المعقوفة التي تذكر بالحرب العالمية الثانية وكذلك بالحرب البوسنية والكوسوفية، تكاد تختفي مع نمو الاعشاب، ولم يكن بالمقبرة سوى الحارس الذي قال: «هنا دفن الكثير من الشبان الذين قتلوا في الحرب، ذنبهم انهم استجابوا لدعوات فاشية من بعض القادة». وتابع قائلاً: «كنا نعيش معا في هدوء واطمئنان. أنا شخصيا لا أعرف لماذا قتل هؤلاء، لم تقم صربيا الكبرى، ولم تعد يوغوسلافيا كما كانت».