سلسبيل
04-17-2006, 10:13 AM
أسامة مهدي من لندن
أكدت منظمة كتاب بلا حدود ان استخدام الأحزاب الدينية في العراق وسائل عديدة لقمع حرية التعبير والرأي شكل عودة إلى الأساليب الدكتاتورية وقالت ان طغيانا دينيا وطائفيا وعرقيا أدى الى استهداف أكثر من مئة من الكفاءات العلمية وعشرات الاعلاميين الذين يعملون في ظروف لا تختلف كثيرا عن عهد الرئيس السابق صدام حسين .
واضافت المنظمة التي يديرها من ألمانيا الكاتب العراقي اياد الزاملي في تقرير لها لمناسبة مرور ثلاثة أعوام على حرب العراق التي اطاحت بنظامه ربيع عام 2003 ان العمل في الصحافة الان أشبه بالسير بين حقول الالغام واشارت الى ان عمليات استهداف العقول العراقية أدت الى اغتيال 65 اعلاميا و106 أساتذة جامعيين وصفهم التقرير بأنهم من أبرز الكفاءات النووية والفيزيائية والطبية والبيولوجية. وقالت إن نظرة متفحصة في الواقع الثقافي العراقي الحالي تكشف عن واقع مشوه من جانب، ومهزوم من الداخل من الجانب الآخر، ومفتتا في مستوى البناء الثقافي الحقيقي من الجانب الثالث. والبلاء، كل البلاء، أن هذا التشوه الذي نال المشهد الثقافي العراقي قد جاء بفعل أطراف عدة تمثلت في المثقف، والمؤسسات الثقافية، والأحزاب السياسية، والنظام الرسمي، والاحتلال.
واشارت الى ان أحد المؤشرات البارزة على هذا الواقع المشوه، هو بروز نزاعات (لا ثقافية) بين المثقفين أنفسهم.. بمعنى أن التعامل بين فئات المثقفين أنفسهم بات يقوم على أسس غير ثقافية كالأسس الطائفية أو العنصرية أو العرقية أو القومية أو السياسية ذات الأفق الضيق والرؤية المحددة والنظرة الأنانية، مما جعل من الحالة الثقافية في عراق اليوم حالة يسودها البعد الفلكلوري أكثر مما هو البعد العلمي أو الثقافي الحقيقي والمحايد بين الفئات المكونة للشعب العراقي، في الوقت الذي لا يجب أن يكون فيه الاختلاف في المنبع الفكري هو ما يجب أن يحكم نظرة المثقف إلى مجتمعه وبالتالي ينعكس على نتاجه .
واوضحت أن الكثير من الصحف العراقية لا تعلن عن مصادر تمويلها وعلى الصحفي أن يعمل فيها مغمض العينين واذا حدث أن اختلف سياسي أو زعيم مع الصحيفة فان أول الخيارات تكون المقاطعة وأول ضحايا تلك المقاطعة هو الصحفي "كما حدث لمراسل صحيفة بغداد التابعة لحزب الوفاق الوطني برئاسة اياد علاوي حيث عندما انتهت حكومته أعلن أن "مراسلي صحيفة بغداد كافرون ويراسلون جريدة علمانية" ودعا الصحفيين المؤيدين له والتابعين له للاستقالة منها وكان ذلك بالفعل." وأضافت أنه في المقابل قامت بعض المؤسسات الصحفية باقالة بعض الصحفيين بسبب انتماءاتهم السياسية واختلافهم مع بعض الزعامات السياسية "وبذلك أصبح موقع الصحفي في العراق بين المطرقة والسندان وأصبحت الصحافة أشبه بالمشي بين حقلي ألغام.. الاول حقل الجريدة وارتباطاتها ومشاكلها والصراعات الكثيرة بين رؤساء تحرير الصحف والاحزاب والكيانات السياسية والمذهبية والثاني تمثله ساحة العمل التي يعمل فيها الصحفي الذي يجب أن يكون في أشد درجات الحذر.
ودعت المنظمة الادارة الامريكية على احترام حقوق الانسان والمبادرة بالافراج عن كافة المعتقلين والمسجونين وتسليمهم الى السلطات العراقية للبت في قضاياهم واجراء المحاكمات القضائية العادلة وسرعة اطلاق سجناء الرأي. وطالبت المجتمع الدولي بتبني اصلاح الوضع الداخلي عبر تشكيل لجان مدنية وسياسية وعسكرية من دول محايدة تشرف عبر الامم المتحدة على بناء المؤسسات العراقية بحيادية وحرفية بعيدا عن معطيات الوضع الطائفي ودون تدخل المحتل أو الدول الاخرى في الشأن العراقي .
وناشدت الفصائل والجماعات المسلحة على اختلاف توجهاتها إلى احترام إرادة العراق وشعب العراق ونبذ العنف غير المبرر والذي يستهدف الصحفيين والإعلاميين والمدنيين والمثقفين والمفكرين الذي يمثلون الثروة الحقيقية للعراق. كما دعت المثقفين والكُتّاب العرب وأصحاب الرأي والقلم لتسخير أقلامهم لنصرة العراق، والمطالبة بإنهاء حالة العبث والفوضى القائمة فيه، وعدم الرضوخ لإغراءات التكتلات الحزبية أو الدينية أو السياسية أو غيرها، والتمسك بأعلى مستويات المهنية والحرفية في النقد والكتابة وفضح الجرائم البشعة التي يعاني منها العراق وأبنائه بغض النظر عن ماهية أو مكانة أو موقع اليد الفاعلة.
وشددت على صرورة المبادرة بتأسيس إعلام عراقي حر غير مسيس ولا موجه، يعبر بصدق عن هموم ومعاناة الوطن والمواطن العراقي البسيط، ويحرص على إيصال الحقيقة المجردة بحيادية وموضوعية تامة .. وفيما يلي نص التقرير :
تقرير خاص حول واقع الثقافة والإعلام في العراق بعد التاسع من نيسان 2003
اصدار منظمة كُتّاب بلا حدود
المانيا - المكتب الرئيس
المـدخــل
بعد مرور ثلاث سنوات على الحرب في العراق، وإسقاط النظام الديكتاتوري الحاكم، ترى منظمة "كُتّاب بلا حدود" أن من واجبها أن تقدم للإعلام العالمي وللرأي العام الدولي جانباً من حقيقة الوضع المزري الذي يعيشه الوسط الثقافي والأدبي والإعلامي العراقي، والذي يئن تحت وطأة حملة شديدة من التصفيات الجسدية وأعمال الاختطاف والاضطهاد والاعتقال والتهديد والابتزاز بشكل يؤدي إلى استحالة قيامه بمهماته الحضارية.
ويحاول فريق البحث من خلال هذا التقرير تسليط الضوء على معاناة الوسط الثقافي والإعلامي بصفة عامة نتيجة وقوعه بين سندان القوى المتخاصمة في العراق ومطرقة الاحتلال.. وهو وضع تشارك في مسؤولية قيامه بشكل أساسي لا يقبل التبرير أو المحاباة والمداراة قوات التحالف الدولي والتي تقر الأمم المتحدة أنها قوات احتلال، وبالتالي تقع عليها مهمة حماية الشعب العراقي بأكمله.. وتلي هذه القوى في المسؤولية جميع الأجهزة الحكومية العراقية التي أثبتت العديد من الوقائع أنها استخدمت في في كثير من الأحيان أساليب لا تراعي حق المثقف العراقي في الاختلاف ولا حقوقه في حرية الرأي والتعبير الذي تكفله شرعة حقوق الإنسان وتقر جميع الدساتير والقوانين بما فيها الدستور العراقي الذي تم التوافق عليها شعبياً واعتمد دستورا رسميا للجمهورية.
ولا يجب أن يدفعنا هذا الاتجاه لأن نغفل الدور الكبير والخطير الذي تمارسه قوى متعددة أخرى ذات صبغة طائفية ومنظمات إرهابية مختلفة التوجهات والأيديولوجيات باتت متورطة في شن حرب إبادة ضد خصومها الذين قد يختلفون معها في كل شيء إلا في الاستهانة بالحياة الآدمية وبدماء الأبرياء، وفي مقدمتهم الكُتّاب والمثقفون الذين يعتبرون الأكثر تعرضا للأذى من بين فئات الشعب العراقي بعد الأبرياء من عامة أبناء الشعب، غير آبهين بالجوانب الإنسانية، ولا ملتزمين بأية مقاييس أو معايير أخلاقية، إذ استأسدت هذه القوى على كل فردٍ ومواطن وكاتب ومثقف دون أن يكون لها الحق في هذا الاستئساد، فبادرت للاقتصاص بلا جناية والعقوبة بلا جرم، ولم تلقِ بالاً لمسالمٍ أو آمن، فأصبح الجميع في نظرتها الضيقة الأنانية في دائرة الاستهداف، دون قيدٍ أو رادع.. ويساعد تلك القوى بطبيعة الحال فلتان الوضع الأمني والعنف الطائفي الموجه أو غير الموجه، واستمرار الحال المتردي في الداخل العراقي.. ولم يسلم من كل ذلك حتى الأصدقاء والمعارضون لهذه الحرب الظالمة ذات المصالح الأنانية والفردية، والذين بادروا للتواجد على الأرض العراقية رغم كل المخاطر التي لا يجهلها أحد لا لشيء سوى المساعدة في تخفيف المعاناة والذود عن الأبرياء والضعفاء من العامة في بلد الشرعة القانونية الأولى في التاريخ الإنساني.
تمر الذكرى السنوية الثالثة للحرب في العراق في ظل تراجع الوضع العراقي العام، والذي يحمل في طياته الكثير من المخاطر التي أصابت وتصيب الوطن والمواطن.. فإلى جانب الدمار الذي لحق بالبنية التحتية العراقية على المستوى المادي، وصلت حالة البؤس والضياع والشعور بالرعب لانعدام الأمن والأمان التي يعيشها المثقف والكاتب العراقي على الخصوص والإنسان العراقي بصورة عامة إلى درجة خطيرة ومقلقة كنتاج مباشر لحرب خيضت بدعاوى وجود أسلحة الدمار الشامل، ونصرة الشعب الرازح تحت نير نظام ديكتاتوري متسلط، فإذا بها بعد أعوام ثلاثة وبدلا من تقديم الدليل على تلك الادعاءات تتسبب بقصد أو بغير قصد في تدمير شامل للعراق على كافة المستويات والأصعدة بدئا بالصعيد الاجتماعي والمدني ومرورا بالاقتصاد وانتهاءً بالسيادة والاستقلال، متخذة في ذلك ذات الأساليب الديكتاتورية التي جاءت بدعوى تخليص أبناء العراق منها، فكان الناتج الحتمي لمثل تلك الممارسات أن وُضعت الفئات العراقية بعد قرون من التعايش السلمي وجها لوجه على طريق الصدام الأهلي والطائفي البغيض.
بعد مرور ثلاثة أعوام على احتلال العراق، وبعد إطلاق الوعود البراقة بالحرية والديمقراطية والإعمار والمدنية، والحياة الكريمة والتي يتمناها كل العراقيين الذين عانوا من الحرمان من أبسط حقوقهم المدنية والإنسانية، وعاشوا في جو من الافتقار إلى الأمن والأمان والعيش دون خوف أو وجل، فإذا بهم يرون بأم العين انتهاكات صارخة وفظيعة تلحق بالتراث الفكري والثقافي والاجتماعي العراقي من خلال ما تعرضت له المتاحف من نهب منظم وسرقة لما احتوته في بطونها من كنوز لا تقدر بثمن لارتباطها بحضارة الشعب العراقي، بل والوجود الإنساني..
وبدلا عن أن يساعد القائمون على الوضع العراقي في الوقت الحالي المجتمع المدني العراقي على تنظيم نفسه ومؤسساته بطريقة متحضرة، نرى عراق ما بعد الحرب مجتمعا تنامت فيه دعاوى الطائفية ونمت فيه ثقافة رفض الآخر ونبذه بسبب العرق أو الدين أو المذهب.. بل إن الأحزاب العراقية التي كان من المفترض أن تمثل أطيافاً سياسية وفكرية تثري الساحة العراقية وتساهم بتبايناتها في بناء العراق الجديد، نراها اليوم مجرد تسميات لواجهات طائفية ودينية تتنافس على ما يُفرِّق لا على ما يُجمع خدمة لمصالحها الخاصة المجردة..
ومن هنا، كان لزاماً علينا أن نحذر مما يصوغه البعض لتقسيم العراق وفصل أجزائه عن بعضها البعض تحت شعارات طائفية ومذهبية وقومية، كما هي الدعوات المتكررة والمتتالية لفصل الجنوب والشمال عن الوسط، وما شابه ذلك من التقسيمات التي لا تهدف إلا لتحقيق مكاسب فئوية بعيدا عن مصلحة العراق الأم التي احتضنت كافة أبنائها تحت سقف واحد ولفته براية واحدة ضمت في قلبها كل الأصناف والتيارات العراقية.. ويأتي تحذيرنا هذا في الوقت الذي تتكاثر فيه الأحاديث عن حرب أهلية تأتي على ما أفلت من أيادي الدمار الذي لحق بالوطن العراقي الواحد..
إننا في منظمة "كُتّاب بلا حدود" نستنكر بشدة سفك الدم المتزايد الذي يذهب ضحيته الأبرياء من أبناء الشعب العراقي ومن مثقفين وكتاب وأصحاب فكري ورأي وقلم.. وهو ما يشير إلى مخاطر حقيقية تنبئ بزيادة الثمن البشري الذي يدفعه الوطن العراقي عبر قتل مواطنه والزج به في غياهب زنازين الاحتلال والميليشيات وامتهان كرامته عبر ممارسات خارج نطاق احترام آدمية الإنسان.. كما إننا نندد باستهداف كل الأماكن المقدسة ودور العبادة من مراقد وحسينيات ومساجد وكنائس.. فالعراق الذي تعايشت طوائفه أزمانا طويلة لا يمكنه أن يقبل هذه الاستهدافات المشينة التي تريد زرع بذور الفتنة على أرضه مهما كانت غايتها وكيفما كان شكلها..
إننا في "كُتّاب بل حدود" إذ نعبر عن ثقتنا الكاملة بالجسم الثقافي العراقي وقدرته على مواجهة الصعوبات واجتراح المعجزات، لندعو كل كاتب وصحفي وأكاديمي يعيش على أرض العراق المجيد أو خارجه إلى ممارسة دوره الحقيقي في نبذ الفتنة الطائفية والمذهبية المدمرة، شادين على أيدي أولئك الكُتّاب والصحفيين والأكاديميين والمثقفين الذين انتهجوا هذا النهج الحضاري وررفضوا الطائفية والمذهبية بكل أشكالها وصورها، وأكدوا على وحدة العراق وحماية شعبه، معلنين وقوفنا الدائم والمستمر بجانبهم مهما كان الثمن.
وبهذا، فإن "كُتّاب بلا حدود" تضم صوتها إلى كل الأصوات الداعية الى وحدة العراق، والعاملة على تحقيق حلم السيادة الكاملة للشعب العراقي الموحد والحر على كامل أرضه، وتوفير الأمن والأمان لشعبه وأبنائه.. وتجدد "كُتّاب بلا حدود" مطالبتها بإصدار قرار دولي ملزم يمنع كل الجهات وخصوصا النظامية منها من استهداف المدنيين، ويوفر الحماية اللازمة للكُتّاب والصحفيين والإعلاميين العاملين في العراق، الذي يؤدون واجبهم بأمانة وإخلاص ومهنية عالية من أجل كشف حقيقة ما يجري في الداخل العراقي، ويخوضون المخاطر من أجل إيصال تلك الحال كما هي على أرض الواقع للرأي العام العالمي، ويجرم كل من يفعل ذلك بغض النظر عن مكانته أو موقعه، إذ لا يبرر أي موقع لإنسان أن يريق قطرة دم بريئة فضلا عن امتهانه لكرامة شعب بأكمله.
ونظراً لقرب صدور هذا التقرير من واحدة من الجرائم البشعة في حق الصحفيين والإعلاميين وأصحاب القلم، والتي راحت ضحيتها شهيدة الصحافة المغفور لها السيدة أطوار بهجت، فإن منظمة "كُتّاب بلا حدود" تؤكد استنكارها وشجبها وأسفها العميق لما تعرضت الشهيدة على يد ثلة مجرمة لا تريد بالعراق خيراً أبداً.. كما تعرب المنظمة في ذات الإطار عن ارتياحها وسعادتها بالإفراج عن الصحفية الأمريكية "جيل كارول"، التي كانت قد اختطفت في السابع من يناير 2006.
وفي مستهل هذا التقرير الموضوع أمام الرأي العام الدولي بمناسبة الذكرى السنوية الثالثة للحرب على العراق نجدد إدانتنا الشديدة والصريحة لكل أعمال الخطف والقتل التي يتعرض لها الإعلاميون والصحفيون العراقيون والأجانب، وتلك التي يتعرض لها كل بريء في العراق.. وندين بأشد ما تكون الإدانة ما يتعرض له أساتذة وأكاديميو الجامعات العراقية من خطف وحجر وقتل وتهجير، بهدف تفريغ المجتمع العراقي من كفاءاته.. معربين عن خالص تعازينا ومواساتنا لكل المؤسسات الإعلامية والصحفية، التي قدمت شهداء في سبيل الكشف عن الحقيقة، ولكل مؤسسات المجتمع المدني العراقية والأجنبية التي قدمت تضحيات غالية من أجل خدمة الإنسان العراقي والتخفيف من آلامه ومحنه.
كما تتوجه "كُتّاب بلا حدود" بخالص الشكر والتقدير لكل مَنْ ساهم في إعداد هذا التقرير: مادة وتحريرا وتوثيقاً، سائلين المولى العلي القدير أن ينعم بفضله الجزيل بنعمة الأمن والأمان على كل شعوب الأرض، إنه سميع مجيب الدعاء.
منظمة "كُتّاب بلا حدود"
9 إبريل / نيسان 2006م
الثقافة والوضع الثقافي في العراق بعد ثلاث سنوات من الحرب
شهد العراق خلال السنوات الثلاث الماضية تحولات راديكالية في بنيته السياسية انعكست بشكل مباشر على الوسط الأكاديمي والثقافي الذي كان قد عانى على مر ثلاثين سنة مضت من ديكتاتورية الرأي الواحد والحرية المصادرة.. وعلى الرغم من كل التوقعات بتبدل تلك الأوضاع المزرية واللا إنسانية التي كانت الثقافة العراقية والمثقف العراقي يمرون بها، إلا أن الواقع المعاش لا يعكس أي مؤشر لحدوث ذلك، إذ يمر المثقفون والكُتّاب في العراق، ومن خلفهم الفكر والثقافة العراقية، بظروف صعبة للغاية تجعل أمر التنبؤ بمستقبل أفضل ضرباً من ضروب الحلم البعيد المنال، حيث يثير قلق الجميع قيام البعض بممارسات تنذر بعودة النهج الديكتاتوري الذي يعمد لمصادرة كل ما هو مخالف لما يتبناه ويعتقده ولتضييق أو حتى إلغاء هامش الحرية الضئيل الذي ناورت الثقافة العراقية قرابة ثلاثة عقود من أجل العمل في ظله في مناخ ديكتاتوري قل نظيره، ولكن هذه المرة بوجوه جديدة ومتعددة.
إن عمليات عزل المثقفين الفاعلين في الحياة الثقافية العراقية بوصفهم يمثلون النظام السابق، هو أمر وإن انطبق على كثيرين إلا أنه من المعيب ومن الظلم أن يعمم على جميع من دفعتهم الظروف الضاغطة الشديدة إلى العمل في مؤسسات هي ملك الوطن قبل أن تكون ملك للنظام، أي نظام كان. لذا، فإن الدعوة لتحرير الثقافة من السياسة، وعدم عدم تكرار خطايا النظام السابق عبر تكرار عملية رهن المثقف والثقافة بالسياسي والسياسة، تظل قائمة وتجد على الدوام من يتبناها ويعمل لأجلها.
فمثلما تم عزل وتهميش كثير من المثقفين الفاعلين بعد قيام حزب البعث بضرب الجبهة الشعبية في السبعينات، وما تلى ذلك من هيمنة نظام وثقافة الحزب الواحد على الوطن الكبير، تكرر الأمر في عقد التسعينات بظهور ما عُرف بالتجمع الثقافي، الذي حاول ضرب الجيل السابق أو ما أطلق عليه في تلك الفترة (ديناصورات الثقافة) من خلال تسخير أعداد كبيرة من المثقفين والمحسوبين على الثقافة الذين لم يكونوا قادرين على إنتاج ثقافة حقيقية أو التأسيس لثقافة متحضرة أو وضع ثقافي مؤسسي جديد لسبب أو لآخر. ومثلما كانت الثقافة والمثقف العراقي مرتبطا بالمكتب الثقافي لحزب البعث ومن بعده بالتجمع الثقافي، فإن الكثير من المثقفين العراقيين بعد نيسان 2003م حاولوا دخول ميدان الثقافة من خلال أبواب الأحزاب القادمة من الخارج أو تلك الناشئة في الداخل استنادا إلى مصالح فئوية أو إثنية أو طائفية، ليكونوا الصوت المعبر عنها بدلا أن يكونوا الصوت الموجه والناصح للأمة كلها، وهو الدور المنوط بالمثقف في أي بقعة وُجد فيها.
ولأن تلك الأحزاب كانت في حاجة لمثل هؤلاء، فقد تبنت بعضهم مرحليا وعملت على تسخير جهودهم في ما يصب في خدمة مصالحها، بينما كان أولئك المثقفون من جانبهم يطمحون بتبوء مراكز ثقافية متقدمة تكون لها سلطة القرار أو التوجيه، بيد أنهم بعد تقادم الزمن أدركوا أنهم ملقون على هامش تلك المعادلات الحزبية، ووجدوا أنفسهم أرقاما غير فاعلة من معادلة السياسة على نحو أثار استياء الكثير منهم، فهب البعض للإعلان عن ذلك الاستياء عبر وسائل الإعلام المختلفة خاصة خلال العام المنصرم، فيما اختار البعض الآخر السكوت أو الركون أو الانسحاب.
من جهتها نظرت الأحزاب السياسية ورجالها إلى الثقافة في أحد اتجاهين: الاتجاه العلماني الذي استخدم المثقف مجرد استخدام إعلامي وليس استخداما ثقافيا حقيقياً بما يخدم أهدافها المرحلية، أو الاتجاه الديني الذي عمل على تديين الثقافة فزج بالمثقف في ما يخدم التوجه الديني وليس الثقافي الحر.
وبهذا، بذل الطرفان جهودهما لتحويل الثقافة إلى وسيلة لخدمة التوجهات والأهداف المرحلية، ومارسا في الوقت نفسه الوصاية شبه الكاملة على المثقف، بينما الواقع المفترض هو الاستجابة لطموحات المثقف في حدود الأطر الأخلاقية والقيمية لكي يبني واقعا ثقافيا يستجيب لمطالب تأسيس وتعزيز الثقافة الحقيقية.
ومن هنا، جاءت دعوة منظمة "كُتّاب بلا حدود" المتكررة للحكومة العراقية بضرورة الابتعاد عن ازدراء الثقافة والمثقفين الذين لا يمكن أن تقوم للعراق قائمة دون مشاركتهم الفعالة في بناء العراق الجديد. ولعله من المفيد أن نورد في هذا السياق ما نقله أحد أعلام الثقافة العراقية من رفضه تسلم حقيبة وزارة الثقافة العراقية معتبرا إياها "وزارة تافهة" على حد تعبيره، وذلك تأسيساً على واقع الدور الذي تلعبه هذه الوزارة في الوقت الراهن، والذي يشكل امتداداً للدور الذي كانت تلعبه في فترة ما قبل الاحتلال إبان النظام البعثي الصدامي، والذي يتمركز حول البعد الإعلامي الذي لم يرتق للوصول إلى مستوى متقدم في المعالجات الجذرية والفعلية للحالة الثقافية المتدهورة في بلد ذا تاريخ ثقافي عريق يتطلع إلى الانفتاح على الثقافة الإنسانية والتطور الثقافي بعد ما عاشه من حرمان وعزل لأكثر من ثلاثين عاماً، فيما لا يعير هذا الدور البعد الاستراتيجي والتخطيطي أي اهتمام أو عناية.
وإذا كان نظام الحكم الواحد لا يسمح بظهور أفراد أو قطاع خاص يمارس دورا ثقافيا من نوع ما فإن التعددية والانفتاح السياسي لم تستطع بعد ثلاث سنوات من التغيير خلق قطاع خاص ينشط بشكل حقيقي وفعلي في مجال بناء مؤسسات ذات طبيعة ثقافية تمتلك استقلالها الذاتي.
وبالرغم من ظهور بعض الجمعيات والكيانات التي أخذت اسما ثقافيا وارتبطت بمجال العمل غير الرسمي (المنظمات غير الحكومية) إلا إنها لم تتمكن من ممارسة دورها أو تعزيز حضورها الثقافي إلا بصيغ شكلية لا فاعلية لها في الحياة الثقافية ولا انعكاس لها في المجتمع المحيط.
إن نظرة متفحصة في الواقع الثقافي العراقي الحالي تكشف عن واقع مشوه من جانب، ومهزوم من الداخل من الجانب الآخر، ومفتتا في مستوى البناء الثقافي الحقيقي من الجانب الثالث. والبلاء، كل البلاء، أن هذا التشوه الذي نال المشهد الثقافي العراقي قد جاء بفعل أطراف عدة تمثلت في المثقف، والمؤسسات الثقافية، والأحزاب السياسية، والنظام الرسمي، والاحتلال.
ولعل أحد المؤشرات البارزة على هذا الواقع المشوه، هو بروز نزاعات (لا ثقافية) بين المثقفين أنفسهم.. بمعنى أن التعامل بين فئات المثقفين أنفسهم بات يقوم على أسس غير ثقافية كالأسس الطائفية أو العنصرية أو العرقية أو القومية أو السياسية ذات الأفق الضيق والرؤية المحددة والنظرة الأنانية، مما جعل من الحالة الثقافية في عراق اليوم حالة يسودها البعد الفلكلوري أكثر مما هو البعد العلمي أو الثقافي الحقيقي والمحايد بين الفئات المكونة للشعب العراقي، في الوقت الذي لا يجب أن يكون فيه الاختلاف في المنبع الفكري هو ما يجب أن يحكم نظرة المثقف إلى مجتمعه وبالتالي ينعكس على نتاجه من خلال تلك النظرة المحدودة، بل الموضوعية والشفافية والشمولية هي ما يمثل المعيار الحقيقي لمدى رقي وعمق وعي المثقف بدوره وخطورة استغلال موقعه من قبل الآخرين لأغراض مشبوهة يجر الانجرار خلفها الثقافة إلى التقهقر والتقوقع والتخلف.
من جانبه، لم يتصد المثقف العراقي لهذه الحالة التصدي المطلوب أو المتوقع، والسبب هو حالة الخوف التي تحيط به في واقعه الحياتي والمجتمعي. ولعل ما يمكن أن يتعرض له أي متصد لهذه الثقافة من ويلات ليس أقلها التصفية الجسدية هو ما يقف عائقا بين الدور المطلوب والواقع الممكن.
وإذا كانت ممارسة (كتابة التقارير والوشايات) ليست بظاهرة جديدة على العراق حيث بدأت منذ عقود وتصاعدت حدتها في الثمانينات، بينما راجت وأخذت مداها الواسع في عهد ما يسمى بـ(التجمع الثقافي) في التسعينات فإن هذه الممارسة أخذت شكلا علنيا بعد الاحتلال، فبدأ بعض الكُتّاب يهددون المثقفين من خلال الصحافة بكتابات ذات صبغة تحريضية من جانب، وذات نفس (إخباري) من جانب أخر، مستخدمين أسلوب الترويع والتهديد في الكشف عما يسمونه ماضياً.
أما المؤسسات الثقافية والأكاديمية فقد خُربت عن طريق الحرق والتدمير المادي أو بإيكال إداراتها إلى أشخاص غير معنيين بالعملية الثقافية من قريب أو بعيد فأحرقوها معنوياً. أما المحتل فإن الشواهد تؤكد عدم قيامه بأية جهود حقيقية كانت أو شكلية للإسهام في إعادة بناء المشهد الثقافي على مدى ثلاث سنوات كاملة، وكل ما سعى إليه هو ربط بعض المثقفين بعجلته البراغماتية وهو دور متوقع من قوة محتلة تحاول استمالة البعض إلى صفوفها. والمؤسف، أن مثل هذه الوجهات قد لاقت نجاحاً يشار إليه بالبنان حيث خلقت دمىً تمارس فعلياً دور المروج الإعلامي والسياسي للاحتلال وثقافته وأهدافه من خلال استغلال الصورة المشرقة ماديا للوضع الذي وصلت إليه الحياة في الولايات المتحدة الأمريكية كنموذج يقدمه الاحتلال للعراقيين عن مستقبلهم المرسوم من قبل المحتل.
أكدت منظمة كتاب بلا حدود ان استخدام الأحزاب الدينية في العراق وسائل عديدة لقمع حرية التعبير والرأي شكل عودة إلى الأساليب الدكتاتورية وقالت ان طغيانا دينيا وطائفيا وعرقيا أدى الى استهداف أكثر من مئة من الكفاءات العلمية وعشرات الاعلاميين الذين يعملون في ظروف لا تختلف كثيرا عن عهد الرئيس السابق صدام حسين .
واضافت المنظمة التي يديرها من ألمانيا الكاتب العراقي اياد الزاملي في تقرير لها لمناسبة مرور ثلاثة أعوام على حرب العراق التي اطاحت بنظامه ربيع عام 2003 ان العمل في الصحافة الان أشبه بالسير بين حقول الالغام واشارت الى ان عمليات استهداف العقول العراقية أدت الى اغتيال 65 اعلاميا و106 أساتذة جامعيين وصفهم التقرير بأنهم من أبرز الكفاءات النووية والفيزيائية والطبية والبيولوجية. وقالت إن نظرة متفحصة في الواقع الثقافي العراقي الحالي تكشف عن واقع مشوه من جانب، ومهزوم من الداخل من الجانب الآخر، ومفتتا في مستوى البناء الثقافي الحقيقي من الجانب الثالث. والبلاء، كل البلاء، أن هذا التشوه الذي نال المشهد الثقافي العراقي قد جاء بفعل أطراف عدة تمثلت في المثقف، والمؤسسات الثقافية، والأحزاب السياسية، والنظام الرسمي، والاحتلال.
واشارت الى ان أحد المؤشرات البارزة على هذا الواقع المشوه، هو بروز نزاعات (لا ثقافية) بين المثقفين أنفسهم.. بمعنى أن التعامل بين فئات المثقفين أنفسهم بات يقوم على أسس غير ثقافية كالأسس الطائفية أو العنصرية أو العرقية أو القومية أو السياسية ذات الأفق الضيق والرؤية المحددة والنظرة الأنانية، مما جعل من الحالة الثقافية في عراق اليوم حالة يسودها البعد الفلكلوري أكثر مما هو البعد العلمي أو الثقافي الحقيقي والمحايد بين الفئات المكونة للشعب العراقي، في الوقت الذي لا يجب أن يكون فيه الاختلاف في المنبع الفكري هو ما يجب أن يحكم نظرة المثقف إلى مجتمعه وبالتالي ينعكس على نتاجه .
واوضحت أن الكثير من الصحف العراقية لا تعلن عن مصادر تمويلها وعلى الصحفي أن يعمل فيها مغمض العينين واذا حدث أن اختلف سياسي أو زعيم مع الصحيفة فان أول الخيارات تكون المقاطعة وأول ضحايا تلك المقاطعة هو الصحفي "كما حدث لمراسل صحيفة بغداد التابعة لحزب الوفاق الوطني برئاسة اياد علاوي حيث عندما انتهت حكومته أعلن أن "مراسلي صحيفة بغداد كافرون ويراسلون جريدة علمانية" ودعا الصحفيين المؤيدين له والتابعين له للاستقالة منها وكان ذلك بالفعل." وأضافت أنه في المقابل قامت بعض المؤسسات الصحفية باقالة بعض الصحفيين بسبب انتماءاتهم السياسية واختلافهم مع بعض الزعامات السياسية "وبذلك أصبح موقع الصحفي في العراق بين المطرقة والسندان وأصبحت الصحافة أشبه بالمشي بين حقلي ألغام.. الاول حقل الجريدة وارتباطاتها ومشاكلها والصراعات الكثيرة بين رؤساء تحرير الصحف والاحزاب والكيانات السياسية والمذهبية والثاني تمثله ساحة العمل التي يعمل فيها الصحفي الذي يجب أن يكون في أشد درجات الحذر.
ودعت المنظمة الادارة الامريكية على احترام حقوق الانسان والمبادرة بالافراج عن كافة المعتقلين والمسجونين وتسليمهم الى السلطات العراقية للبت في قضاياهم واجراء المحاكمات القضائية العادلة وسرعة اطلاق سجناء الرأي. وطالبت المجتمع الدولي بتبني اصلاح الوضع الداخلي عبر تشكيل لجان مدنية وسياسية وعسكرية من دول محايدة تشرف عبر الامم المتحدة على بناء المؤسسات العراقية بحيادية وحرفية بعيدا عن معطيات الوضع الطائفي ودون تدخل المحتل أو الدول الاخرى في الشأن العراقي .
وناشدت الفصائل والجماعات المسلحة على اختلاف توجهاتها إلى احترام إرادة العراق وشعب العراق ونبذ العنف غير المبرر والذي يستهدف الصحفيين والإعلاميين والمدنيين والمثقفين والمفكرين الذي يمثلون الثروة الحقيقية للعراق. كما دعت المثقفين والكُتّاب العرب وأصحاب الرأي والقلم لتسخير أقلامهم لنصرة العراق، والمطالبة بإنهاء حالة العبث والفوضى القائمة فيه، وعدم الرضوخ لإغراءات التكتلات الحزبية أو الدينية أو السياسية أو غيرها، والتمسك بأعلى مستويات المهنية والحرفية في النقد والكتابة وفضح الجرائم البشعة التي يعاني منها العراق وأبنائه بغض النظر عن ماهية أو مكانة أو موقع اليد الفاعلة.
وشددت على صرورة المبادرة بتأسيس إعلام عراقي حر غير مسيس ولا موجه، يعبر بصدق عن هموم ومعاناة الوطن والمواطن العراقي البسيط، ويحرص على إيصال الحقيقة المجردة بحيادية وموضوعية تامة .. وفيما يلي نص التقرير :
تقرير خاص حول واقع الثقافة والإعلام في العراق بعد التاسع من نيسان 2003
اصدار منظمة كُتّاب بلا حدود
المانيا - المكتب الرئيس
المـدخــل
بعد مرور ثلاث سنوات على الحرب في العراق، وإسقاط النظام الديكتاتوري الحاكم، ترى منظمة "كُتّاب بلا حدود" أن من واجبها أن تقدم للإعلام العالمي وللرأي العام الدولي جانباً من حقيقة الوضع المزري الذي يعيشه الوسط الثقافي والأدبي والإعلامي العراقي، والذي يئن تحت وطأة حملة شديدة من التصفيات الجسدية وأعمال الاختطاف والاضطهاد والاعتقال والتهديد والابتزاز بشكل يؤدي إلى استحالة قيامه بمهماته الحضارية.
ويحاول فريق البحث من خلال هذا التقرير تسليط الضوء على معاناة الوسط الثقافي والإعلامي بصفة عامة نتيجة وقوعه بين سندان القوى المتخاصمة في العراق ومطرقة الاحتلال.. وهو وضع تشارك في مسؤولية قيامه بشكل أساسي لا يقبل التبرير أو المحاباة والمداراة قوات التحالف الدولي والتي تقر الأمم المتحدة أنها قوات احتلال، وبالتالي تقع عليها مهمة حماية الشعب العراقي بأكمله.. وتلي هذه القوى في المسؤولية جميع الأجهزة الحكومية العراقية التي أثبتت العديد من الوقائع أنها استخدمت في في كثير من الأحيان أساليب لا تراعي حق المثقف العراقي في الاختلاف ولا حقوقه في حرية الرأي والتعبير الذي تكفله شرعة حقوق الإنسان وتقر جميع الدساتير والقوانين بما فيها الدستور العراقي الذي تم التوافق عليها شعبياً واعتمد دستورا رسميا للجمهورية.
ولا يجب أن يدفعنا هذا الاتجاه لأن نغفل الدور الكبير والخطير الذي تمارسه قوى متعددة أخرى ذات صبغة طائفية ومنظمات إرهابية مختلفة التوجهات والأيديولوجيات باتت متورطة في شن حرب إبادة ضد خصومها الذين قد يختلفون معها في كل شيء إلا في الاستهانة بالحياة الآدمية وبدماء الأبرياء، وفي مقدمتهم الكُتّاب والمثقفون الذين يعتبرون الأكثر تعرضا للأذى من بين فئات الشعب العراقي بعد الأبرياء من عامة أبناء الشعب، غير آبهين بالجوانب الإنسانية، ولا ملتزمين بأية مقاييس أو معايير أخلاقية، إذ استأسدت هذه القوى على كل فردٍ ومواطن وكاتب ومثقف دون أن يكون لها الحق في هذا الاستئساد، فبادرت للاقتصاص بلا جناية والعقوبة بلا جرم، ولم تلقِ بالاً لمسالمٍ أو آمن، فأصبح الجميع في نظرتها الضيقة الأنانية في دائرة الاستهداف، دون قيدٍ أو رادع.. ويساعد تلك القوى بطبيعة الحال فلتان الوضع الأمني والعنف الطائفي الموجه أو غير الموجه، واستمرار الحال المتردي في الداخل العراقي.. ولم يسلم من كل ذلك حتى الأصدقاء والمعارضون لهذه الحرب الظالمة ذات المصالح الأنانية والفردية، والذين بادروا للتواجد على الأرض العراقية رغم كل المخاطر التي لا يجهلها أحد لا لشيء سوى المساعدة في تخفيف المعاناة والذود عن الأبرياء والضعفاء من العامة في بلد الشرعة القانونية الأولى في التاريخ الإنساني.
تمر الذكرى السنوية الثالثة للحرب في العراق في ظل تراجع الوضع العراقي العام، والذي يحمل في طياته الكثير من المخاطر التي أصابت وتصيب الوطن والمواطن.. فإلى جانب الدمار الذي لحق بالبنية التحتية العراقية على المستوى المادي، وصلت حالة البؤس والضياع والشعور بالرعب لانعدام الأمن والأمان التي يعيشها المثقف والكاتب العراقي على الخصوص والإنسان العراقي بصورة عامة إلى درجة خطيرة ومقلقة كنتاج مباشر لحرب خيضت بدعاوى وجود أسلحة الدمار الشامل، ونصرة الشعب الرازح تحت نير نظام ديكتاتوري متسلط، فإذا بها بعد أعوام ثلاثة وبدلا من تقديم الدليل على تلك الادعاءات تتسبب بقصد أو بغير قصد في تدمير شامل للعراق على كافة المستويات والأصعدة بدئا بالصعيد الاجتماعي والمدني ومرورا بالاقتصاد وانتهاءً بالسيادة والاستقلال، متخذة في ذلك ذات الأساليب الديكتاتورية التي جاءت بدعوى تخليص أبناء العراق منها، فكان الناتج الحتمي لمثل تلك الممارسات أن وُضعت الفئات العراقية بعد قرون من التعايش السلمي وجها لوجه على طريق الصدام الأهلي والطائفي البغيض.
بعد مرور ثلاثة أعوام على احتلال العراق، وبعد إطلاق الوعود البراقة بالحرية والديمقراطية والإعمار والمدنية، والحياة الكريمة والتي يتمناها كل العراقيين الذين عانوا من الحرمان من أبسط حقوقهم المدنية والإنسانية، وعاشوا في جو من الافتقار إلى الأمن والأمان والعيش دون خوف أو وجل، فإذا بهم يرون بأم العين انتهاكات صارخة وفظيعة تلحق بالتراث الفكري والثقافي والاجتماعي العراقي من خلال ما تعرضت له المتاحف من نهب منظم وسرقة لما احتوته في بطونها من كنوز لا تقدر بثمن لارتباطها بحضارة الشعب العراقي، بل والوجود الإنساني..
وبدلا عن أن يساعد القائمون على الوضع العراقي في الوقت الحالي المجتمع المدني العراقي على تنظيم نفسه ومؤسساته بطريقة متحضرة، نرى عراق ما بعد الحرب مجتمعا تنامت فيه دعاوى الطائفية ونمت فيه ثقافة رفض الآخر ونبذه بسبب العرق أو الدين أو المذهب.. بل إن الأحزاب العراقية التي كان من المفترض أن تمثل أطيافاً سياسية وفكرية تثري الساحة العراقية وتساهم بتبايناتها في بناء العراق الجديد، نراها اليوم مجرد تسميات لواجهات طائفية ودينية تتنافس على ما يُفرِّق لا على ما يُجمع خدمة لمصالحها الخاصة المجردة..
ومن هنا، كان لزاماً علينا أن نحذر مما يصوغه البعض لتقسيم العراق وفصل أجزائه عن بعضها البعض تحت شعارات طائفية ومذهبية وقومية، كما هي الدعوات المتكررة والمتتالية لفصل الجنوب والشمال عن الوسط، وما شابه ذلك من التقسيمات التي لا تهدف إلا لتحقيق مكاسب فئوية بعيدا عن مصلحة العراق الأم التي احتضنت كافة أبنائها تحت سقف واحد ولفته براية واحدة ضمت في قلبها كل الأصناف والتيارات العراقية.. ويأتي تحذيرنا هذا في الوقت الذي تتكاثر فيه الأحاديث عن حرب أهلية تأتي على ما أفلت من أيادي الدمار الذي لحق بالوطن العراقي الواحد..
إننا في منظمة "كُتّاب بلا حدود" نستنكر بشدة سفك الدم المتزايد الذي يذهب ضحيته الأبرياء من أبناء الشعب العراقي ومن مثقفين وكتاب وأصحاب فكري ورأي وقلم.. وهو ما يشير إلى مخاطر حقيقية تنبئ بزيادة الثمن البشري الذي يدفعه الوطن العراقي عبر قتل مواطنه والزج به في غياهب زنازين الاحتلال والميليشيات وامتهان كرامته عبر ممارسات خارج نطاق احترام آدمية الإنسان.. كما إننا نندد باستهداف كل الأماكن المقدسة ودور العبادة من مراقد وحسينيات ومساجد وكنائس.. فالعراق الذي تعايشت طوائفه أزمانا طويلة لا يمكنه أن يقبل هذه الاستهدافات المشينة التي تريد زرع بذور الفتنة على أرضه مهما كانت غايتها وكيفما كان شكلها..
إننا في "كُتّاب بل حدود" إذ نعبر عن ثقتنا الكاملة بالجسم الثقافي العراقي وقدرته على مواجهة الصعوبات واجتراح المعجزات، لندعو كل كاتب وصحفي وأكاديمي يعيش على أرض العراق المجيد أو خارجه إلى ممارسة دوره الحقيقي في نبذ الفتنة الطائفية والمذهبية المدمرة، شادين على أيدي أولئك الكُتّاب والصحفيين والأكاديميين والمثقفين الذين انتهجوا هذا النهج الحضاري وررفضوا الطائفية والمذهبية بكل أشكالها وصورها، وأكدوا على وحدة العراق وحماية شعبه، معلنين وقوفنا الدائم والمستمر بجانبهم مهما كان الثمن.
وبهذا، فإن "كُتّاب بلا حدود" تضم صوتها إلى كل الأصوات الداعية الى وحدة العراق، والعاملة على تحقيق حلم السيادة الكاملة للشعب العراقي الموحد والحر على كامل أرضه، وتوفير الأمن والأمان لشعبه وأبنائه.. وتجدد "كُتّاب بلا حدود" مطالبتها بإصدار قرار دولي ملزم يمنع كل الجهات وخصوصا النظامية منها من استهداف المدنيين، ويوفر الحماية اللازمة للكُتّاب والصحفيين والإعلاميين العاملين في العراق، الذي يؤدون واجبهم بأمانة وإخلاص ومهنية عالية من أجل كشف حقيقة ما يجري في الداخل العراقي، ويخوضون المخاطر من أجل إيصال تلك الحال كما هي على أرض الواقع للرأي العام العالمي، ويجرم كل من يفعل ذلك بغض النظر عن مكانته أو موقعه، إذ لا يبرر أي موقع لإنسان أن يريق قطرة دم بريئة فضلا عن امتهانه لكرامة شعب بأكمله.
ونظراً لقرب صدور هذا التقرير من واحدة من الجرائم البشعة في حق الصحفيين والإعلاميين وأصحاب القلم، والتي راحت ضحيتها شهيدة الصحافة المغفور لها السيدة أطوار بهجت، فإن منظمة "كُتّاب بلا حدود" تؤكد استنكارها وشجبها وأسفها العميق لما تعرضت الشهيدة على يد ثلة مجرمة لا تريد بالعراق خيراً أبداً.. كما تعرب المنظمة في ذات الإطار عن ارتياحها وسعادتها بالإفراج عن الصحفية الأمريكية "جيل كارول"، التي كانت قد اختطفت في السابع من يناير 2006.
وفي مستهل هذا التقرير الموضوع أمام الرأي العام الدولي بمناسبة الذكرى السنوية الثالثة للحرب على العراق نجدد إدانتنا الشديدة والصريحة لكل أعمال الخطف والقتل التي يتعرض لها الإعلاميون والصحفيون العراقيون والأجانب، وتلك التي يتعرض لها كل بريء في العراق.. وندين بأشد ما تكون الإدانة ما يتعرض له أساتذة وأكاديميو الجامعات العراقية من خطف وحجر وقتل وتهجير، بهدف تفريغ المجتمع العراقي من كفاءاته.. معربين عن خالص تعازينا ومواساتنا لكل المؤسسات الإعلامية والصحفية، التي قدمت شهداء في سبيل الكشف عن الحقيقة، ولكل مؤسسات المجتمع المدني العراقية والأجنبية التي قدمت تضحيات غالية من أجل خدمة الإنسان العراقي والتخفيف من آلامه ومحنه.
كما تتوجه "كُتّاب بلا حدود" بخالص الشكر والتقدير لكل مَنْ ساهم في إعداد هذا التقرير: مادة وتحريرا وتوثيقاً، سائلين المولى العلي القدير أن ينعم بفضله الجزيل بنعمة الأمن والأمان على كل شعوب الأرض، إنه سميع مجيب الدعاء.
منظمة "كُتّاب بلا حدود"
9 إبريل / نيسان 2006م
الثقافة والوضع الثقافي في العراق بعد ثلاث سنوات من الحرب
شهد العراق خلال السنوات الثلاث الماضية تحولات راديكالية في بنيته السياسية انعكست بشكل مباشر على الوسط الأكاديمي والثقافي الذي كان قد عانى على مر ثلاثين سنة مضت من ديكتاتورية الرأي الواحد والحرية المصادرة.. وعلى الرغم من كل التوقعات بتبدل تلك الأوضاع المزرية واللا إنسانية التي كانت الثقافة العراقية والمثقف العراقي يمرون بها، إلا أن الواقع المعاش لا يعكس أي مؤشر لحدوث ذلك، إذ يمر المثقفون والكُتّاب في العراق، ومن خلفهم الفكر والثقافة العراقية، بظروف صعبة للغاية تجعل أمر التنبؤ بمستقبل أفضل ضرباً من ضروب الحلم البعيد المنال، حيث يثير قلق الجميع قيام البعض بممارسات تنذر بعودة النهج الديكتاتوري الذي يعمد لمصادرة كل ما هو مخالف لما يتبناه ويعتقده ولتضييق أو حتى إلغاء هامش الحرية الضئيل الذي ناورت الثقافة العراقية قرابة ثلاثة عقود من أجل العمل في ظله في مناخ ديكتاتوري قل نظيره، ولكن هذه المرة بوجوه جديدة ومتعددة.
إن عمليات عزل المثقفين الفاعلين في الحياة الثقافية العراقية بوصفهم يمثلون النظام السابق، هو أمر وإن انطبق على كثيرين إلا أنه من المعيب ومن الظلم أن يعمم على جميع من دفعتهم الظروف الضاغطة الشديدة إلى العمل في مؤسسات هي ملك الوطن قبل أن تكون ملك للنظام، أي نظام كان. لذا، فإن الدعوة لتحرير الثقافة من السياسة، وعدم عدم تكرار خطايا النظام السابق عبر تكرار عملية رهن المثقف والثقافة بالسياسي والسياسة، تظل قائمة وتجد على الدوام من يتبناها ويعمل لأجلها.
فمثلما تم عزل وتهميش كثير من المثقفين الفاعلين بعد قيام حزب البعث بضرب الجبهة الشعبية في السبعينات، وما تلى ذلك من هيمنة نظام وثقافة الحزب الواحد على الوطن الكبير، تكرر الأمر في عقد التسعينات بظهور ما عُرف بالتجمع الثقافي، الذي حاول ضرب الجيل السابق أو ما أطلق عليه في تلك الفترة (ديناصورات الثقافة) من خلال تسخير أعداد كبيرة من المثقفين والمحسوبين على الثقافة الذين لم يكونوا قادرين على إنتاج ثقافة حقيقية أو التأسيس لثقافة متحضرة أو وضع ثقافي مؤسسي جديد لسبب أو لآخر. ومثلما كانت الثقافة والمثقف العراقي مرتبطا بالمكتب الثقافي لحزب البعث ومن بعده بالتجمع الثقافي، فإن الكثير من المثقفين العراقيين بعد نيسان 2003م حاولوا دخول ميدان الثقافة من خلال أبواب الأحزاب القادمة من الخارج أو تلك الناشئة في الداخل استنادا إلى مصالح فئوية أو إثنية أو طائفية، ليكونوا الصوت المعبر عنها بدلا أن يكونوا الصوت الموجه والناصح للأمة كلها، وهو الدور المنوط بالمثقف في أي بقعة وُجد فيها.
ولأن تلك الأحزاب كانت في حاجة لمثل هؤلاء، فقد تبنت بعضهم مرحليا وعملت على تسخير جهودهم في ما يصب في خدمة مصالحها، بينما كان أولئك المثقفون من جانبهم يطمحون بتبوء مراكز ثقافية متقدمة تكون لها سلطة القرار أو التوجيه، بيد أنهم بعد تقادم الزمن أدركوا أنهم ملقون على هامش تلك المعادلات الحزبية، ووجدوا أنفسهم أرقاما غير فاعلة من معادلة السياسة على نحو أثار استياء الكثير منهم، فهب البعض للإعلان عن ذلك الاستياء عبر وسائل الإعلام المختلفة خاصة خلال العام المنصرم، فيما اختار البعض الآخر السكوت أو الركون أو الانسحاب.
من جهتها نظرت الأحزاب السياسية ورجالها إلى الثقافة في أحد اتجاهين: الاتجاه العلماني الذي استخدم المثقف مجرد استخدام إعلامي وليس استخداما ثقافيا حقيقياً بما يخدم أهدافها المرحلية، أو الاتجاه الديني الذي عمل على تديين الثقافة فزج بالمثقف في ما يخدم التوجه الديني وليس الثقافي الحر.
وبهذا، بذل الطرفان جهودهما لتحويل الثقافة إلى وسيلة لخدمة التوجهات والأهداف المرحلية، ومارسا في الوقت نفسه الوصاية شبه الكاملة على المثقف، بينما الواقع المفترض هو الاستجابة لطموحات المثقف في حدود الأطر الأخلاقية والقيمية لكي يبني واقعا ثقافيا يستجيب لمطالب تأسيس وتعزيز الثقافة الحقيقية.
ومن هنا، جاءت دعوة منظمة "كُتّاب بلا حدود" المتكررة للحكومة العراقية بضرورة الابتعاد عن ازدراء الثقافة والمثقفين الذين لا يمكن أن تقوم للعراق قائمة دون مشاركتهم الفعالة في بناء العراق الجديد. ولعله من المفيد أن نورد في هذا السياق ما نقله أحد أعلام الثقافة العراقية من رفضه تسلم حقيبة وزارة الثقافة العراقية معتبرا إياها "وزارة تافهة" على حد تعبيره، وذلك تأسيساً على واقع الدور الذي تلعبه هذه الوزارة في الوقت الراهن، والذي يشكل امتداداً للدور الذي كانت تلعبه في فترة ما قبل الاحتلال إبان النظام البعثي الصدامي، والذي يتمركز حول البعد الإعلامي الذي لم يرتق للوصول إلى مستوى متقدم في المعالجات الجذرية والفعلية للحالة الثقافية المتدهورة في بلد ذا تاريخ ثقافي عريق يتطلع إلى الانفتاح على الثقافة الإنسانية والتطور الثقافي بعد ما عاشه من حرمان وعزل لأكثر من ثلاثين عاماً، فيما لا يعير هذا الدور البعد الاستراتيجي والتخطيطي أي اهتمام أو عناية.
وإذا كان نظام الحكم الواحد لا يسمح بظهور أفراد أو قطاع خاص يمارس دورا ثقافيا من نوع ما فإن التعددية والانفتاح السياسي لم تستطع بعد ثلاث سنوات من التغيير خلق قطاع خاص ينشط بشكل حقيقي وفعلي في مجال بناء مؤسسات ذات طبيعة ثقافية تمتلك استقلالها الذاتي.
وبالرغم من ظهور بعض الجمعيات والكيانات التي أخذت اسما ثقافيا وارتبطت بمجال العمل غير الرسمي (المنظمات غير الحكومية) إلا إنها لم تتمكن من ممارسة دورها أو تعزيز حضورها الثقافي إلا بصيغ شكلية لا فاعلية لها في الحياة الثقافية ولا انعكاس لها في المجتمع المحيط.
إن نظرة متفحصة في الواقع الثقافي العراقي الحالي تكشف عن واقع مشوه من جانب، ومهزوم من الداخل من الجانب الآخر، ومفتتا في مستوى البناء الثقافي الحقيقي من الجانب الثالث. والبلاء، كل البلاء، أن هذا التشوه الذي نال المشهد الثقافي العراقي قد جاء بفعل أطراف عدة تمثلت في المثقف، والمؤسسات الثقافية، والأحزاب السياسية، والنظام الرسمي، والاحتلال.
ولعل أحد المؤشرات البارزة على هذا الواقع المشوه، هو بروز نزاعات (لا ثقافية) بين المثقفين أنفسهم.. بمعنى أن التعامل بين فئات المثقفين أنفسهم بات يقوم على أسس غير ثقافية كالأسس الطائفية أو العنصرية أو العرقية أو القومية أو السياسية ذات الأفق الضيق والرؤية المحددة والنظرة الأنانية، مما جعل من الحالة الثقافية في عراق اليوم حالة يسودها البعد الفلكلوري أكثر مما هو البعد العلمي أو الثقافي الحقيقي والمحايد بين الفئات المكونة للشعب العراقي، في الوقت الذي لا يجب أن يكون فيه الاختلاف في المنبع الفكري هو ما يجب أن يحكم نظرة المثقف إلى مجتمعه وبالتالي ينعكس على نتاجه من خلال تلك النظرة المحدودة، بل الموضوعية والشفافية والشمولية هي ما يمثل المعيار الحقيقي لمدى رقي وعمق وعي المثقف بدوره وخطورة استغلال موقعه من قبل الآخرين لأغراض مشبوهة يجر الانجرار خلفها الثقافة إلى التقهقر والتقوقع والتخلف.
من جانبه، لم يتصد المثقف العراقي لهذه الحالة التصدي المطلوب أو المتوقع، والسبب هو حالة الخوف التي تحيط به في واقعه الحياتي والمجتمعي. ولعل ما يمكن أن يتعرض له أي متصد لهذه الثقافة من ويلات ليس أقلها التصفية الجسدية هو ما يقف عائقا بين الدور المطلوب والواقع الممكن.
وإذا كانت ممارسة (كتابة التقارير والوشايات) ليست بظاهرة جديدة على العراق حيث بدأت منذ عقود وتصاعدت حدتها في الثمانينات، بينما راجت وأخذت مداها الواسع في عهد ما يسمى بـ(التجمع الثقافي) في التسعينات فإن هذه الممارسة أخذت شكلا علنيا بعد الاحتلال، فبدأ بعض الكُتّاب يهددون المثقفين من خلال الصحافة بكتابات ذات صبغة تحريضية من جانب، وذات نفس (إخباري) من جانب أخر، مستخدمين أسلوب الترويع والتهديد في الكشف عما يسمونه ماضياً.
أما المؤسسات الثقافية والأكاديمية فقد خُربت عن طريق الحرق والتدمير المادي أو بإيكال إداراتها إلى أشخاص غير معنيين بالعملية الثقافية من قريب أو بعيد فأحرقوها معنوياً. أما المحتل فإن الشواهد تؤكد عدم قيامه بأية جهود حقيقية كانت أو شكلية للإسهام في إعادة بناء المشهد الثقافي على مدى ثلاث سنوات كاملة، وكل ما سعى إليه هو ربط بعض المثقفين بعجلته البراغماتية وهو دور متوقع من قوة محتلة تحاول استمالة البعض إلى صفوفها. والمؤسف، أن مثل هذه الوجهات قد لاقت نجاحاً يشار إليه بالبنان حيث خلقت دمىً تمارس فعلياً دور المروج الإعلامي والسياسي للاحتلال وثقافته وأهدافه من خلال استغلال الصورة المشرقة ماديا للوضع الذي وصلت إليه الحياة في الولايات المتحدة الأمريكية كنموذج يقدمه الاحتلال للعراقيين عن مستقبلهم المرسوم من قبل المحتل.