مقاتل
04-12-2006, 05:13 PM
د نجم عبد الكريم
وإن شكك البعض في الأبيات الشعرية التي كتبها الشاعر حافظ إبراهيم، إلا أنها لا زالت حتى الساعة محفورة على لوحةٍ من المرمر، كشاهد لقبر عبد الرحمن الكواكبي:
هنا رجل الدنيا، هنا مهبط التُقى هنا خير مظلوم، هنا خير كاتبِ
قفوا واقرأوا أم الكتاب وسلّموا عليه فهذا القبر، قبرالكواكبـي
والذين يشككون بنسبة هذين البيتين لحافظ إبراهيم، يرون فيهما دون إمكانياته الشعرية، كما أنها أبيات متواضعة إذا ما قورنت بمكانة الكواكبي.. وهناك من يرى أن الأتراك قد استبدلوا قصيدة حافظ إبراهيم بهذين البيتين الفاترين اللذين يشبه نظمهما شعر المبتدئين في نظم القوافي.. فعبد الرحمن الكواكبي الذي ولد في حلب في الثاني من أكتوبر عام 1848، يعد من أبطال الكفاح الوطني من أجل الحرية والاستقلال، وقد ألف مجموعةً من الكتب من أهمها، (أم القرى)، و(طبائع الاستبداد).
وقد اعتُبر الكواكبي المعارض الأول للحكم العثماني الذي يصر على تسميته بالاستعمار العثماني.. ليس هذا فحسب بل إنه يقول:
" لولا هذا الاستعمار، لكان لهذه المنطقة العربية شأن آخر، يختلف عما هي عليه الآن!!.. ولست أغالي إذا قلت أنه كان في استطاعة البلاد العربية أن تقفز قفزةً حضارية تسبق بها الحضارة الغربية، لولا اللجام الذي لجمتنا به الدولة العثمانية، ونير الفقر والجهل والمرض الذي وضعته على عواتقنا.."
كان هدف الكواكبي الأساسي في كتابيه ( طبائع الاستبداد، وأم القرى) كليهما هو مقاومة ظلم الدولة العثمانية، والغريب أنه لم ينشرهما إلا في السنوات الأخيرة من حياته نظراً لصعوبة نشرهما، وما يحملانه من عداء للخلافة العثمانية في ذلك الوقت!.. أما الدوافع التي جعلته يتأخر في نشرهما.. فهي الصدامات التي بدأت في حلب بينه وبين وزير الباب العالي (أبو الهدى الصيادي) الذي أوصل له جواسيسه وهو في الآستانة أخباراً مفادها أن المدرسة الكواكبية في حلب تلقن تلاميذها أفكاراً خطيرة!!.. وأبو الهدى هذا كان يعتبر نفسه من أشراف أهالي حلب، ويرى أنه أحق بنقابة الأشراف فيها من أحمد الكواكبي.. فانتزع فرماناً من السلطان الأعظم، ينزع بموجبه نقابة الأشراف من أحمد الكواكبي.
وما أن يصدر ذلك الفرمان، حتى يتصدى له الابن عبد الرحمن في عنفٍ، ويكتب:
" نقابة الأشراف في حلب، ليس هناك من يستحقها سوانا، ولا يجوز للباب العالي أن يسحبها منا بفرمان، لأن هذا يجافي الشرع، ولا يقره الإسلام، ولا التقاليد.."
وتدوى صرخات عبد الرحمن الكواكبي، وتلقى صداها عند الغالبية العظمى من أهالي حلب.. فينصح عارف باشا ـ عامل والي حلب ـ ينصح الباب العالي بالتروي في أمر أسرة الكواكبي، فأهالي حلب سيقفون إلى جانبهم.. وطلب من السلطان أن يطلق يده كي يتعامل مع الموقف على طريقته الخاصة..
وكان عارف باشا هذا ماكراً أشد المكر، فظن أنه لو عهد إلى عبد الرحمن الكواكبي بوظيفة حكومية مرموقة، لا يلبث أن يقيده ويلزمه بإطاعة الموظف لرئيسه، فأصدر قراراً بتعيينه محرراً لجريدة (فرات).. لكن القلم الحر.. أبى أن يتقيد بالوظيفة الرسمية، فكتب في الجريدة التي يفترض أنها حكومية، تعبر عن الرأي الرسمي، بل إنها المعبّرة عن رأي الباب العالي.. كتب الكواكبي فيها:
".. الأحوال في حلب بالغة السوء.. وإذا كانت هذه الجريدة قد اعتادت على نشر قوانين الضرائب، ومراسيم إنشاء الشوارع، ورسومات الجبّانات، فمن حقها أيضاً أن تتقدم إلى الوالي عارف باشا بهذه الاقتراحات التي نراها في صالح الأهالي.. وأولها: نقترح أن تكون هناك لجان للرقابة على أموال الأوقاف..؟!!"
• انقلب السحر على الساحر!!..
وكان عارف باشا يتمتع بنَفَسٍ طويل، وروحٍ ماكرة، فأصدر فوراً قراراً عجيباً بعد أن قرأ ما كتبه عبد الرحمن.. ونص القرار هو التالي: " أمرنا بنقل الموظف عبد الرحمن الكواكبي إلى وظيفة مفتش احتكار تجارة التبغ.." وهذه الوظيفة ما عُيّن فيها أحد، إلا وملأ جيوبه وجيوب أهله وأنصاره من مال الحرام.. وأدرك الكواكبي اللعبة، بعد أن تبين له أن عارف باشا يريد أن يورطه بهذه الوظيفة كي يوجه إليه تهمة الرشوة والفساد واختلاس المال العام..!!
لكن عبد الرحمن عكف على دراسة أحوال إدارة احتكار التبغ، وذهب بتلك الدراسة إلى الوالي الذي فوجئ بكثرة عدد صفحات الدراسة، فأبدى عدم التمكن من قراءتها.. فقال للكواكبي:
ـ دعنا من الأوراق واذكر لي مقترحاتك، فإذا كانت مفيدة أخذنا بها..!!
ـ يا سيدي.. ما من رجل تولى وظيفتي هذه، إلا واتهم بالسرقة واختلاس المال العام.. وهذا يحدث دائماً بسبب الضعف في الرقابة..
ـ وهل لديك ما يسد ثغرات الرقابة؟!.
ـ بالطبع.. الذي أعلمه يا سيدي هو أنك صاحب الحق الوحيد في رقابة المفتش!!.. والذي أعلمه أيضاً أنه ما من مفتش فُصل من وظيفته بتهمة الرشوة والفساد إلا وأطلق الشائعات بأنك كنت تتستر عليه!!..
ـ وبلا شك أنت تدري أنها شائعات كاذبة وفيها بهتان.. فماذا تقترح؟!!.
ـ أقترح أن أحميك من الشائعات، بأن أشتري كل التبغ ثم أبيعه لحسابي.. وأدفع ثمنه كاملاً قبل بيعه!!
فوافق عارف باشا على الاقتراح معتقداً بأن عبد الرحمن الكواكبي قد وضع بيده حبل المشنقة حول عنقه..!!.. وكان يضمر ويخطط إلى أن يتهمه باختلاس المال العام وسرقة الولاية لأنه يعلم أن الكواكبي سيحصد أرباحاً كبيرة من الصفقة تمهد إلى إدخاله في شرك الورطة ليوقعه في البئر الذي حفره له، وساهم به الكواكبي بنفسه..!!
في نهاية الموسم جاء الكواكبي إلى عارف باشا، حاملاً ثمن التبغ كله بزيادة قدرها 200% وقال له:
ـ هل أدركت الآن من كان يسرق جهد الفلاحين؟!..
ـ وهل ستأخذ هذه الفوائد كلها لنفسك.. يا عبد الرحمن؟!!
ـ أليس هذا هو الاتفاق بيني وبينك؟!
ـ لا مانع من تنفيذ الاتفاق!!.. ولكن أليس أنا الذي أعطيتك ذلك الاحتكار؟!.. فهل يعقل أن تحصد كل هذا الربح لك وحدك؟!
ـ يا عارف باشا.. سأسلمك ما تريد مني من مال في محضر يتكون من جميع مشايخ حلب..!!
ـ لماذا مشايخ حلب، والاتفاق تم بيني وبينك، وأنت قد دفعت الثمن كله قبل بيع التبغ؟!..
ـ يا عارف باشا.. إن هذا المال ليس من حقك، ولا من حقي، إنه من حق خزانة الولاية لتُصرف على مطلوبات الأهالي، وأنا لن أمس مجيدياً واحداً منه..
ـ إذن لماذا اتفقت معي؟!..
ـ لأثبت لك أن جميع موظفي الإدارة كانوا لصوصاً، ويحميهم لصٌ كبير!!..
وخاب أمل عارف باشا بعد هذه الفضيحة، فعزلته الدولة العثمانية عن ولاية حلب، وفي نفس الوقت ضيّقت الخناق على عبد الرحمن الكواكبي، حيث فصلته من جميع وظائفه، وقامت بإغلاق المدرسة الكواكبية، مما جعله يحظى باعتزاز مواطنيه والتفافهم حوله، وجرت عدة محاولات فاشلة لاغتياله واختطافه!!.. فنصحه أصدقاؤه بالهرب قبل أن يفتكوا به.. ففرّ إلى مصر.
النضال من القاهرة!!
في مصر تعرّف الكواكبي على قادة الرأي الجديد ممن ينادون بالاستقلال عن نفوذ الدولة العثمانية، والتخلص من كل سيطرة أجنبية.. التقى بجمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، والشيخ الشرقاوي، وعرابي باشا.. كما التقى بمواطنه محمد كرد علي، صاحب جريدة (المؤيد) التي بدأ الكواكبي ينشر فيها مقالاته النارية، مما جعل عيون السلطان عبد الحميد تبعث إلى الآستانة بتقاريرها التي حذرت من خطر الكواكبي، واعتبرته لا يقل خطورةً في أفكاره عن جمال الدين الأفغاني.. وهناك من اقترح أن موت الأفغاني أحاطته الشبهات من أنه مات مسموماً في اسطنبول.. فلم لا يتبعه الكواكبي في القاهرة؟!!
وبدأت الخطط تحاك في كيفية الفتك بالمصلح الجريء عبد الرحمن الكواكبي!!..
فكان يأتيه أحد كبار الشخصيات الرسمية في مصر ليقول له:
ـ يا شيخ عبد الرحمن.. الأمور لا تستقيم هكذا، وقلب السلطان غير راضٍ عنك، ولهذا فإني أقترح عليك أن تذهب إلى الآستانة وتقابل السلطان، وتعرض عليه اقتراحاتك الرامية إلى تحسين أحوال المسلمين!!..
ـ أولم يستدعي السلطان أخانا الأفغاني لكي يقدم مقترحاته؟!.. فماذا كانت النتيجة؟!.. ألم يمُت مسموماً؟!!
ـ لا تقل هذا يا كواكبي، والأفغاني لم يمُت مسموماً.. وأنا أرى أن تسافر معي إلى الآستانة..!!
لكن الشيخ كرد علي ينصحه بعدم الذهاب إلى الآستانة، لأن أبا الهدى يترصد به الدوائر، فلو علم بوجوده في اسطنبول، لما تركه حياً..
إلا أن الكواكبي يجيب صديقه الشيخ كرد علي:
ـ والله يداعبني الأمل يا شيخ كرد في إصلاح السلطان نفسه.. فلو أنه استمع إلى مشروعاتي في الإصلاح، لكان ذلك دفعة قوية لحرية العالم العربي بأسره..
ـ لا تعانق الأفعى يا كواكبي.. ثم لا تنسى أن السلطان عبد الحميد لن ينسى لك ما كتبته عن مقابلته مع أحد الصحفيين الفرنسيين الذي سأله:
" لماذا لا تعتني أيها السلطان بتعليم الشعب المسلم؟!!.."
فكانت إجابته " إن المسلمين إذا تعلّموا، صار من الصعب عليّ أن أحكمهم!!.."
فلن ينسى عبد الحميد تعليقك الناري على إجابته تلك!!..
الرحلة الأخيرة!!
أخذت عيون السلطان عبد الحميد تترصد خطوات الشيخ عبد الرحمن الكواكبي، إلى أن تمكنوا من رسم خارطة لكل تحركاته في القاهرة، وفي يوم من الأيام دُعي إلى حفلٍ كان فيه نفس ذلك المسئول الذي نصحه بالذهاب إلى الآستانة..
ولما عاد الكواكبي إلى بيته عقب ذلك الحفل.. أحس بألمٍ في ذراعه مع صداعٍ شديد يكاد يفجر رأسه من شدة الألم..
وفي بيته في حي الحسين.. رقد الكواكبي في فراشه، وفي سرعة مذهلة فعل السمّ ـ الذي شخصه الأطباء فيما بعد ـ فعلته..
وكانت جنازته مهيبة.. تتخللها صرخات من ولده .. مات أبي!!.. مات أبي!!.. فيحتضنه الشيخ محمد كرد علي، ويصلي على الجنازة الشيخ محمد عبده.. ودفن في جبّانة في مصر حيث تكاد السنين تمسح آثار قبره.. مع أن كلمات من يرقد فيه قد أنارت الطريق للأحرار في كل البلاد العربية والإسلامية..
ورحم الله من صاغ هذين البيتين البسيطين من الشعر، إذ لولاهما لمسحت آثار القبر تماماً:
هنا رجل الدنيا، هنا مهبط التُقى هنا خير مظلوم، هنا خير كاتب
قفوا واقرأوا الكتاب وسـلّموا عليه فهذا القبر، قبر الكواكبي.
ايلاف
وإن شكك البعض في الأبيات الشعرية التي كتبها الشاعر حافظ إبراهيم، إلا أنها لا زالت حتى الساعة محفورة على لوحةٍ من المرمر، كشاهد لقبر عبد الرحمن الكواكبي:
هنا رجل الدنيا، هنا مهبط التُقى هنا خير مظلوم، هنا خير كاتبِ
قفوا واقرأوا أم الكتاب وسلّموا عليه فهذا القبر، قبرالكواكبـي
والذين يشككون بنسبة هذين البيتين لحافظ إبراهيم، يرون فيهما دون إمكانياته الشعرية، كما أنها أبيات متواضعة إذا ما قورنت بمكانة الكواكبي.. وهناك من يرى أن الأتراك قد استبدلوا قصيدة حافظ إبراهيم بهذين البيتين الفاترين اللذين يشبه نظمهما شعر المبتدئين في نظم القوافي.. فعبد الرحمن الكواكبي الذي ولد في حلب في الثاني من أكتوبر عام 1848، يعد من أبطال الكفاح الوطني من أجل الحرية والاستقلال، وقد ألف مجموعةً من الكتب من أهمها، (أم القرى)، و(طبائع الاستبداد).
وقد اعتُبر الكواكبي المعارض الأول للحكم العثماني الذي يصر على تسميته بالاستعمار العثماني.. ليس هذا فحسب بل إنه يقول:
" لولا هذا الاستعمار، لكان لهذه المنطقة العربية شأن آخر، يختلف عما هي عليه الآن!!.. ولست أغالي إذا قلت أنه كان في استطاعة البلاد العربية أن تقفز قفزةً حضارية تسبق بها الحضارة الغربية، لولا اللجام الذي لجمتنا به الدولة العثمانية، ونير الفقر والجهل والمرض الذي وضعته على عواتقنا.."
كان هدف الكواكبي الأساسي في كتابيه ( طبائع الاستبداد، وأم القرى) كليهما هو مقاومة ظلم الدولة العثمانية، والغريب أنه لم ينشرهما إلا في السنوات الأخيرة من حياته نظراً لصعوبة نشرهما، وما يحملانه من عداء للخلافة العثمانية في ذلك الوقت!.. أما الدوافع التي جعلته يتأخر في نشرهما.. فهي الصدامات التي بدأت في حلب بينه وبين وزير الباب العالي (أبو الهدى الصيادي) الذي أوصل له جواسيسه وهو في الآستانة أخباراً مفادها أن المدرسة الكواكبية في حلب تلقن تلاميذها أفكاراً خطيرة!!.. وأبو الهدى هذا كان يعتبر نفسه من أشراف أهالي حلب، ويرى أنه أحق بنقابة الأشراف فيها من أحمد الكواكبي.. فانتزع فرماناً من السلطان الأعظم، ينزع بموجبه نقابة الأشراف من أحمد الكواكبي.
وما أن يصدر ذلك الفرمان، حتى يتصدى له الابن عبد الرحمن في عنفٍ، ويكتب:
" نقابة الأشراف في حلب، ليس هناك من يستحقها سوانا، ولا يجوز للباب العالي أن يسحبها منا بفرمان، لأن هذا يجافي الشرع، ولا يقره الإسلام، ولا التقاليد.."
وتدوى صرخات عبد الرحمن الكواكبي، وتلقى صداها عند الغالبية العظمى من أهالي حلب.. فينصح عارف باشا ـ عامل والي حلب ـ ينصح الباب العالي بالتروي في أمر أسرة الكواكبي، فأهالي حلب سيقفون إلى جانبهم.. وطلب من السلطان أن يطلق يده كي يتعامل مع الموقف على طريقته الخاصة..
وكان عارف باشا هذا ماكراً أشد المكر، فظن أنه لو عهد إلى عبد الرحمن الكواكبي بوظيفة حكومية مرموقة، لا يلبث أن يقيده ويلزمه بإطاعة الموظف لرئيسه، فأصدر قراراً بتعيينه محرراً لجريدة (فرات).. لكن القلم الحر.. أبى أن يتقيد بالوظيفة الرسمية، فكتب في الجريدة التي يفترض أنها حكومية، تعبر عن الرأي الرسمي، بل إنها المعبّرة عن رأي الباب العالي.. كتب الكواكبي فيها:
".. الأحوال في حلب بالغة السوء.. وإذا كانت هذه الجريدة قد اعتادت على نشر قوانين الضرائب، ومراسيم إنشاء الشوارع، ورسومات الجبّانات، فمن حقها أيضاً أن تتقدم إلى الوالي عارف باشا بهذه الاقتراحات التي نراها في صالح الأهالي.. وأولها: نقترح أن تكون هناك لجان للرقابة على أموال الأوقاف..؟!!"
• انقلب السحر على الساحر!!..
وكان عارف باشا يتمتع بنَفَسٍ طويل، وروحٍ ماكرة، فأصدر فوراً قراراً عجيباً بعد أن قرأ ما كتبه عبد الرحمن.. ونص القرار هو التالي: " أمرنا بنقل الموظف عبد الرحمن الكواكبي إلى وظيفة مفتش احتكار تجارة التبغ.." وهذه الوظيفة ما عُيّن فيها أحد، إلا وملأ جيوبه وجيوب أهله وأنصاره من مال الحرام.. وأدرك الكواكبي اللعبة، بعد أن تبين له أن عارف باشا يريد أن يورطه بهذه الوظيفة كي يوجه إليه تهمة الرشوة والفساد واختلاس المال العام..!!
لكن عبد الرحمن عكف على دراسة أحوال إدارة احتكار التبغ، وذهب بتلك الدراسة إلى الوالي الذي فوجئ بكثرة عدد صفحات الدراسة، فأبدى عدم التمكن من قراءتها.. فقال للكواكبي:
ـ دعنا من الأوراق واذكر لي مقترحاتك، فإذا كانت مفيدة أخذنا بها..!!
ـ يا سيدي.. ما من رجل تولى وظيفتي هذه، إلا واتهم بالسرقة واختلاس المال العام.. وهذا يحدث دائماً بسبب الضعف في الرقابة..
ـ وهل لديك ما يسد ثغرات الرقابة؟!.
ـ بالطبع.. الذي أعلمه يا سيدي هو أنك صاحب الحق الوحيد في رقابة المفتش!!.. والذي أعلمه أيضاً أنه ما من مفتش فُصل من وظيفته بتهمة الرشوة والفساد إلا وأطلق الشائعات بأنك كنت تتستر عليه!!..
ـ وبلا شك أنت تدري أنها شائعات كاذبة وفيها بهتان.. فماذا تقترح؟!!.
ـ أقترح أن أحميك من الشائعات، بأن أشتري كل التبغ ثم أبيعه لحسابي.. وأدفع ثمنه كاملاً قبل بيعه!!
فوافق عارف باشا على الاقتراح معتقداً بأن عبد الرحمن الكواكبي قد وضع بيده حبل المشنقة حول عنقه..!!.. وكان يضمر ويخطط إلى أن يتهمه باختلاس المال العام وسرقة الولاية لأنه يعلم أن الكواكبي سيحصد أرباحاً كبيرة من الصفقة تمهد إلى إدخاله في شرك الورطة ليوقعه في البئر الذي حفره له، وساهم به الكواكبي بنفسه..!!
في نهاية الموسم جاء الكواكبي إلى عارف باشا، حاملاً ثمن التبغ كله بزيادة قدرها 200% وقال له:
ـ هل أدركت الآن من كان يسرق جهد الفلاحين؟!..
ـ وهل ستأخذ هذه الفوائد كلها لنفسك.. يا عبد الرحمن؟!!
ـ أليس هذا هو الاتفاق بيني وبينك؟!
ـ لا مانع من تنفيذ الاتفاق!!.. ولكن أليس أنا الذي أعطيتك ذلك الاحتكار؟!.. فهل يعقل أن تحصد كل هذا الربح لك وحدك؟!
ـ يا عارف باشا.. سأسلمك ما تريد مني من مال في محضر يتكون من جميع مشايخ حلب..!!
ـ لماذا مشايخ حلب، والاتفاق تم بيني وبينك، وأنت قد دفعت الثمن كله قبل بيع التبغ؟!..
ـ يا عارف باشا.. إن هذا المال ليس من حقك، ولا من حقي، إنه من حق خزانة الولاية لتُصرف على مطلوبات الأهالي، وأنا لن أمس مجيدياً واحداً منه..
ـ إذن لماذا اتفقت معي؟!..
ـ لأثبت لك أن جميع موظفي الإدارة كانوا لصوصاً، ويحميهم لصٌ كبير!!..
وخاب أمل عارف باشا بعد هذه الفضيحة، فعزلته الدولة العثمانية عن ولاية حلب، وفي نفس الوقت ضيّقت الخناق على عبد الرحمن الكواكبي، حيث فصلته من جميع وظائفه، وقامت بإغلاق المدرسة الكواكبية، مما جعله يحظى باعتزاز مواطنيه والتفافهم حوله، وجرت عدة محاولات فاشلة لاغتياله واختطافه!!.. فنصحه أصدقاؤه بالهرب قبل أن يفتكوا به.. ففرّ إلى مصر.
النضال من القاهرة!!
في مصر تعرّف الكواكبي على قادة الرأي الجديد ممن ينادون بالاستقلال عن نفوذ الدولة العثمانية، والتخلص من كل سيطرة أجنبية.. التقى بجمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، والشيخ الشرقاوي، وعرابي باشا.. كما التقى بمواطنه محمد كرد علي، صاحب جريدة (المؤيد) التي بدأ الكواكبي ينشر فيها مقالاته النارية، مما جعل عيون السلطان عبد الحميد تبعث إلى الآستانة بتقاريرها التي حذرت من خطر الكواكبي، واعتبرته لا يقل خطورةً في أفكاره عن جمال الدين الأفغاني.. وهناك من اقترح أن موت الأفغاني أحاطته الشبهات من أنه مات مسموماً في اسطنبول.. فلم لا يتبعه الكواكبي في القاهرة؟!!
وبدأت الخطط تحاك في كيفية الفتك بالمصلح الجريء عبد الرحمن الكواكبي!!..
فكان يأتيه أحد كبار الشخصيات الرسمية في مصر ليقول له:
ـ يا شيخ عبد الرحمن.. الأمور لا تستقيم هكذا، وقلب السلطان غير راضٍ عنك، ولهذا فإني أقترح عليك أن تذهب إلى الآستانة وتقابل السلطان، وتعرض عليه اقتراحاتك الرامية إلى تحسين أحوال المسلمين!!..
ـ أولم يستدعي السلطان أخانا الأفغاني لكي يقدم مقترحاته؟!.. فماذا كانت النتيجة؟!.. ألم يمُت مسموماً؟!!
ـ لا تقل هذا يا كواكبي، والأفغاني لم يمُت مسموماً.. وأنا أرى أن تسافر معي إلى الآستانة..!!
لكن الشيخ كرد علي ينصحه بعدم الذهاب إلى الآستانة، لأن أبا الهدى يترصد به الدوائر، فلو علم بوجوده في اسطنبول، لما تركه حياً..
إلا أن الكواكبي يجيب صديقه الشيخ كرد علي:
ـ والله يداعبني الأمل يا شيخ كرد في إصلاح السلطان نفسه.. فلو أنه استمع إلى مشروعاتي في الإصلاح، لكان ذلك دفعة قوية لحرية العالم العربي بأسره..
ـ لا تعانق الأفعى يا كواكبي.. ثم لا تنسى أن السلطان عبد الحميد لن ينسى لك ما كتبته عن مقابلته مع أحد الصحفيين الفرنسيين الذي سأله:
" لماذا لا تعتني أيها السلطان بتعليم الشعب المسلم؟!!.."
فكانت إجابته " إن المسلمين إذا تعلّموا، صار من الصعب عليّ أن أحكمهم!!.."
فلن ينسى عبد الحميد تعليقك الناري على إجابته تلك!!..
الرحلة الأخيرة!!
أخذت عيون السلطان عبد الحميد تترصد خطوات الشيخ عبد الرحمن الكواكبي، إلى أن تمكنوا من رسم خارطة لكل تحركاته في القاهرة، وفي يوم من الأيام دُعي إلى حفلٍ كان فيه نفس ذلك المسئول الذي نصحه بالذهاب إلى الآستانة..
ولما عاد الكواكبي إلى بيته عقب ذلك الحفل.. أحس بألمٍ في ذراعه مع صداعٍ شديد يكاد يفجر رأسه من شدة الألم..
وفي بيته في حي الحسين.. رقد الكواكبي في فراشه، وفي سرعة مذهلة فعل السمّ ـ الذي شخصه الأطباء فيما بعد ـ فعلته..
وكانت جنازته مهيبة.. تتخللها صرخات من ولده .. مات أبي!!.. مات أبي!!.. فيحتضنه الشيخ محمد كرد علي، ويصلي على الجنازة الشيخ محمد عبده.. ودفن في جبّانة في مصر حيث تكاد السنين تمسح آثار قبره.. مع أن كلمات من يرقد فيه قد أنارت الطريق للأحرار في كل البلاد العربية والإسلامية..
ورحم الله من صاغ هذين البيتين البسيطين من الشعر، إذ لولاهما لمسحت آثار القبر تماماً:
هنا رجل الدنيا، هنا مهبط التُقى هنا خير مظلوم، هنا خير كاتب
قفوا واقرأوا الكتاب وسـلّموا عليه فهذا القبر، قبر الكواكبي.
ايلاف