فاطمي
04-11-2006, 03:26 PM
الاتحاد الاماراتية
د. محمد عابد الجابري
في المقال الذي عرضنا فيه لخطاب أهل السُّنة، معتزلة وأشاعرة وسلفيين، "في الرد على منكري النبوات" (عدد 21-3-2006) كنا نتحرك على ظاهر النص القرآني، أما في مقال الأسبوع الماضي الذي عرضنا فيه لرأي الشيعة الإمامية و"المتصوفة السنيين" في "النبوة والولاية" فقد كان الخطاب يتحرك على مستوى ما يمكن أن ندعوه "سطح الباطن". أما في هذا المقال فسنتحرك على مستوى البنية الفكرية العميقة التي تؤسس هذا السطح.
سيكون منطلقنا على هذا المستوى "حديث" للإمام الشيعي الأكبر جعفر الصادق أورده المسعودي، المؤرخ المشهور، وكان شيعي الميول، قال فيه: "روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: إن الله حين شاء تقدير الخليقة وذر البرية وإبداع المبدعات نصب الخلق في صورة كالهباء، قبل دحْو الأرض ورفع السماء، وهو في انفراد ملكوته وتوحيد جبروته؛ فأتاح نورا من نوره فلمع، ونزع قبسا من ضيائه فسطع، ثم اجتمع النور في وسط تلك الصورة الخفية، فوافق ذلك صورة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقال الله عز وجل من قائل: أنت المختار المنتخب، وعندك مستودع نوري وكنوز هدايتي، من أجلك أسطِّح البطحاء وأموِّج الماء وأرفع السماء وأجعل الثواب والعقاب والجنة والنار، وأنصِب أهل بيتك للهداية وأوتيهم من مكنون علمي ما لا يُشكِل عليهم دقيق ولا يُعيِيهم خفي، واجعلُهم حجتي على بريتي، والمنبهين على قدرتي ووحدانيتي".
ويضيف هذا المروي عن علي كرم الله وجهه: "ولم يزل الله تعالى يخبئ النور تحت الزمان إلى أن وصل محمدا صلى الله عليه وسلم في ظاهر الفترات، فدعا الناس ظاهرا وباطنا وندبهم سرا وإعلانا... وانتقل النور إلى غرائزنا ولمع في أئمتنا، فنحن أنوار السماء وأنوار الأرض. فبنا النجاة، ومنا مكنون العلم، وإلينا مصير الأمور، وبمهديّنا تنقطع الحجج، (فهو) خاتمة الأئمة، ومنقذ الأمة، وغاية النور ومصدر الأمور. فنحن أفضل المخلوقين وأشرف الموحدين وحجج رب العالمين، فليهنأ بالنعمة من تمسك بولايتنا وقبض على عروتنا". (المسعودي . مروج الذهب. ج1 ص38- 39).
في هذا الحديث الذي رواه المسعودي عن جعفر الصادق منسوبا إلى علي بن أبي طالب، وترويه مصادر شيعية أخرى، تتأسس معرفة أئمة الشيعة ليس فقط على "العلوم" التي قالوا إنهم ورثوها عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، عبر الإمام علي، بل أيضا على الانتظام في سلك ما تعبّر عنه العرفانية الإسلامية، شيعية كانت أم صوفية، بـ"النور المحمدي" (أو "الحقيقة المحمدية")، ومرتبته تتطابق مع مرتبة "العقل الثاني" الفائض عن العقل الأول (الله) في فلسفة الفيض.
وهكذا فهذا النور المحمدي لمع وسطع، من نور الله، فكان أول ما أبدعه الله. إنه النور الذي يسري في الكون منذ الأزل، والذي منه كانت نبوة آدم ومن جاء بعده من الأنبياء إلى أن وصل محمد بن عبدالله، النبي الأمي المكي، فانتقل منه إلى الأئمة الشيعة من بعده، الذين سيكون آخرهم هو المهدي المنتظر "خاتمة الأئمة ومنقذ الأمة وغاية النور".
هذا الانتظام في سلك النور المحمدي، النور الذي يشكل الحقيقة الأولى التي أبدعها الله والتي يقتبس منها الأنبياء أنوار النبوة، هو معنى"الولاية"، ولاية الإمام في العرفانية الشيعية. وبما أن هذا النور المحمدي يسري في الأئمة الشيعة من طريقين، الطريق الأزلي المنطلق من الحقيقة المحمدية التي كانت أول ما أبدع الله، والطريق البشري المنحدر إليهم من شخص النبي محمد الأمي المكي، فإن "علم" الإمام سيكون أكمل وأتم من علم الأنبياء السابقين لمحمد. وهذا ما يقرره حديث آخر منسوب إلى الإمام جعفر الصادق.
تلك باختصار هي "الخلفية الفلسفية" لنظرية الإمامة/ الولاية عند الشيعة الإثنا عشرية.
وإذا نحن عمدنا الآن إلى سحب ما يتصل بالجانب السياسي في الفكر الشيعي من هذه الخلفية فإننا سنجد أنفسنا إزاء نفس الخلفية الفلسفية التي تؤسس التصوف الباطني. والواقع أن ما يجمع المتصوفة بالشيعة (إثنا عشرية وإسماعيلية) على مستوى ما عبرنا عنه بالبنية العميقة لسطح خطابهم الباطني هو أنهم يغرفون من مصدر واحد، هو الفلسفة الدينية الهرمسية (سبق أن فصلنا القول في هذا الموضوع في كتابنا "بنية العقل العربي". قسم العرفان). وهكذا فكما عمل الشيعة على صياغة ما غرفوه من هذا المصدر بالصورة التي تجعله يتفق مع عقائد مذهبهم، عمل المتصوفة الكبار، وفي مقدمتهم ابن عربي، على صياغة ما أخذوه من ذات المصدر، صياغة تفصلهم عن التشيع كمذهب سياسي ديني.
من هؤلاء المتصوفة المتفلسفة من وظف في عرفانيته ألفاظا سنية حتى لا تتعارض –ظاهريا على الأقل- مع المذهب السني كما فعل ابن عربي. ومنهم من مال إلى الأفق العرفاني الشيعي كالسهروردي، ومنهم من بقي مخلصا للعرفانية المحض كابن سبعين. وسنقتصر هنا على نتفٍ من كلام صاحب كتاب "الكبريت الأحمر والسر الأفخر والدر الجوهر": الشيخ محي الدين بن عربي الحاتمي الطائي (560-638)، وإن كنا سنعتمد هنا، فيما يخص موضوعنا، على كتابه الأساسي "الفتوحات المكية".
ميز ابن عربي بين زمانين أو تاريخين: زمان يبدأ "عند وجود حركة الفلك لتعيين المدة المعلومة عند الله"، والذي تزامنت بدايته مع خلق الروح المدبرة أي العقل الأول، وهو زمان الحقيقة المحمدية قبل ظهور محمد الرسول المكي، وزمان بدأ بظهور هذا الأخير أعني محمد المكي، حسب قول ابن عربي. وفي هذا التمييز يوظف ابن عربي حديثا منسوبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورد فيه: "كنت نبيا وآدم بين الماء والطين" (لم نعثر له على أثر في كتب الحديث. قال عنه ابن تيمية: "كذب باطل").
ومهما يكن فالزمان الأول –عند ابن عربي- يمتد من إبداع الله للعقل الأول أو الحقيقة المحمدية إلى يوم تجلي هذه الحقيقة في محمد الجسماني الرسول العربي، وهو زمان "الاسم الباطني" للحقيقة المحمدية. أما الزمان الثاني فهو يبدأ مع محمد الجسماني المكي، وهو زمان "الاسم الظاهر" لتلك الحقيقة. في الزمان الأول كان الحكم له باطنا في جميع ما ظهر من الشرائع على أيدي الأنبياء والرسل سلام الله عليهم أجمعين، وفي الزمان الثاني صار الحكم له ظاهرا، فنسخ كل شرع أبرزه الاسم الباطن بحكم الاسم الظاهر، لبيان اختلاف حكم الاسمين، وإن كان المشرِّع واحدا، وهو صاحب الشرع".
ومن هنا كانت الولاية ولايتان: ولاية عامة تباطن دورة الحقيقة المحمدية قبل تجليها في شخص محمد، وولاية خاصة بعد تجلي تلك الحقيقة فيه. وهذه الأخيرة تتميز عن الأولى بجملة أمور، منها: أن "العلم في هذه الأمة (الإسلامية) أكثر مما كان في الأوائل؛ وقد أُعطي محمد صلى الله عليه وسلم علم الأولين والآخرين لأن حقيقة الميزان (=العدل في الكون) تعطي ذلك. ومن هنا أيضا "كان الكشف أسرع في هذه الأمة مما كان في غيرها".
ليس هذا وحسب، بل إن الله "يقيم" للولي، بزعم ابن عربي، في هذه الولاية الخاصة بالدورة المحمدية، مظهرَ محمد وهو يأخذ الوحي عن جبريل، فيأخذ هذا الولي نفس الشرع من جبريل كما أخذه محمد. كما يستطيع هذا الولي تصحيح الحديث النبوي مع النبي محمد نفسه، بصورة مباشرة ودونما حاجة إلى إسناد. يقول ابن عربي: "ورب حديث يكون صحيحاً من طرق رُوَاته يحصل لهذا المكاشَف الذي عاين هذا المظهر، فيسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الحديث الصحيح فأنكره (النبي)، وقال له: لم أقله ولا حكمت به، فيعلم (الولي) ضعفه فيترك العمل به عن بينة من ربه". وهذا الصنف من الأولياء يطلق ابن عربي عليهم "أنبياء الأولياء". وهم يستطيعون حسب رأيه الأخذ عن جبريل وعن النبي محمد مباشرة: "بالهمة والعلم، من غير معلم من المخلوقين غير الله".
وهذا في نظره هو معنى وراثة النبوة، وهي من خصائص أنبياء الأولياء "التي تميزهم عن غيرهم من عامة الأولياء. فمثل هؤلاء يحفظون الشريعة الصحيحة التي لاشك فيها على أنفسهم وعلى هذه الأمة ممن اتبعهم، فهم أعلم الناس بالشرع". ويضيف ابن عربي: "غير أن الفقهاء لا يسلمون لهم ذلك، وهؤلاء -يعني أنبياء الأولياء- لا يلزمهم إقامة الدليل على صدقهم، بل يجب عليهم الكتم لمقامهم، ولا يردُّون على علماء الرسوم (الفقهاء) فيما ثبت عندهم، مع علمهم بأن ذلك خطأ في نفس الأمر، فحكمهم حكم المجتهد...".
د. محمد عابد الجابري
في المقال الذي عرضنا فيه لخطاب أهل السُّنة، معتزلة وأشاعرة وسلفيين، "في الرد على منكري النبوات" (عدد 21-3-2006) كنا نتحرك على ظاهر النص القرآني، أما في مقال الأسبوع الماضي الذي عرضنا فيه لرأي الشيعة الإمامية و"المتصوفة السنيين" في "النبوة والولاية" فقد كان الخطاب يتحرك على مستوى ما يمكن أن ندعوه "سطح الباطن". أما في هذا المقال فسنتحرك على مستوى البنية الفكرية العميقة التي تؤسس هذا السطح.
سيكون منطلقنا على هذا المستوى "حديث" للإمام الشيعي الأكبر جعفر الصادق أورده المسعودي، المؤرخ المشهور، وكان شيعي الميول، قال فيه: "روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: إن الله حين شاء تقدير الخليقة وذر البرية وإبداع المبدعات نصب الخلق في صورة كالهباء، قبل دحْو الأرض ورفع السماء، وهو في انفراد ملكوته وتوحيد جبروته؛ فأتاح نورا من نوره فلمع، ونزع قبسا من ضيائه فسطع، ثم اجتمع النور في وسط تلك الصورة الخفية، فوافق ذلك صورة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقال الله عز وجل من قائل: أنت المختار المنتخب، وعندك مستودع نوري وكنوز هدايتي، من أجلك أسطِّح البطحاء وأموِّج الماء وأرفع السماء وأجعل الثواب والعقاب والجنة والنار، وأنصِب أهل بيتك للهداية وأوتيهم من مكنون علمي ما لا يُشكِل عليهم دقيق ولا يُعيِيهم خفي، واجعلُهم حجتي على بريتي، والمنبهين على قدرتي ووحدانيتي".
ويضيف هذا المروي عن علي كرم الله وجهه: "ولم يزل الله تعالى يخبئ النور تحت الزمان إلى أن وصل محمدا صلى الله عليه وسلم في ظاهر الفترات، فدعا الناس ظاهرا وباطنا وندبهم سرا وإعلانا... وانتقل النور إلى غرائزنا ولمع في أئمتنا، فنحن أنوار السماء وأنوار الأرض. فبنا النجاة، ومنا مكنون العلم، وإلينا مصير الأمور، وبمهديّنا تنقطع الحجج، (فهو) خاتمة الأئمة، ومنقذ الأمة، وغاية النور ومصدر الأمور. فنحن أفضل المخلوقين وأشرف الموحدين وحجج رب العالمين، فليهنأ بالنعمة من تمسك بولايتنا وقبض على عروتنا". (المسعودي . مروج الذهب. ج1 ص38- 39).
في هذا الحديث الذي رواه المسعودي عن جعفر الصادق منسوبا إلى علي بن أبي طالب، وترويه مصادر شيعية أخرى، تتأسس معرفة أئمة الشيعة ليس فقط على "العلوم" التي قالوا إنهم ورثوها عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، عبر الإمام علي، بل أيضا على الانتظام في سلك ما تعبّر عنه العرفانية الإسلامية، شيعية كانت أم صوفية، بـ"النور المحمدي" (أو "الحقيقة المحمدية")، ومرتبته تتطابق مع مرتبة "العقل الثاني" الفائض عن العقل الأول (الله) في فلسفة الفيض.
وهكذا فهذا النور المحمدي لمع وسطع، من نور الله، فكان أول ما أبدعه الله. إنه النور الذي يسري في الكون منذ الأزل، والذي منه كانت نبوة آدم ومن جاء بعده من الأنبياء إلى أن وصل محمد بن عبدالله، النبي الأمي المكي، فانتقل منه إلى الأئمة الشيعة من بعده، الذين سيكون آخرهم هو المهدي المنتظر "خاتمة الأئمة ومنقذ الأمة وغاية النور".
هذا الانتظام في سلك النور المحمدي، النور الذي يشكل الحقيقة الأولى التي أبدعها الله والتي يقتبس منها الأنبياء أنوار النبوة، هو معنى"الولاية"، ولاية الإمام في العرفانية الشيعية. وبما أن هذا النور المحمدي يسري في الأئمة الشيعة من طريقين، الطريق الأزلي المنطلق من الحقيقة المحمدية التي كانت أول ما أبدع الله، والطريق البشري المنحدر إليهم من شخص النبي محمد الأمي المكي، فإن "علم" الإمام سيكون أكمل وأتم من علم الأنبياء السابقين لمحمد. وهذا ما يقرره حديث آخر منسوب إلى الإمام جعفر الصادق.
تلك باختصار هي "الخلفية الفلسفية" لنظرية الإمامة/ الولاية عند الشيعة الإثنا عشرية.
وإذا نحن عمدنا الآن إلى سحب ما يتصل بالجانب السياسي في الفكر الشيعي من هذه الخلفية فإننا سنجد أنفسنا إزاء نفس الخلفية الفلسفية التي تؤسس التصوف الباطني. والواقع أن ما يجمع المتصوفة بالشيعة (إثنا عشرية وإسماعيلية) على مستوى ما عبرنا عنه بالبنية العميقة لسطح خطابهم الباطني هو أنهم يغرفون من مصدر واحد، هو الفلسفة الدينية الهرمسية (سبق أن فصلنا القول في هذا الموضوع في كتابنا "بنية العقل العربي". قسم العرفان). وهكذا فكما عمل الشيعة على صياغة ما غرفوه من هذا المصدر بالصورة التي تجعله يتفق مع عقائد مذهبهم، عمل المتصوفة الكبار، وفي مقدمتهم ابن عربي، على صياغة ما أخذوه من ذات المصدر، صياغة تفصلهم عن التشيع كمذهب سياسي ديني.
من هؤلاء المتصوفة المتفلسفة من وظف في عرفانيته ألفاظا سنية حتى لا تتعارض –ظاهريا على الأقل- مع المذهب السني كما فعل ابن عربي. ومنهم من مال إلى الأفق العرفاني الشيعي كالسهروردي، ومنهم من بقي مخلصا للعرفانية المحض كابن سبعين. وسنقتصر هنا على نتفٍ من كلام صاحب كتاب "الكبريت الأحمر والسر الأفخر والدر الجوهر": الشيخ محي الدين بن عربي الحاتمي الطائي (560-638)، وإن كنا سنعتمد هنا، فيما يخص موضوعنا، على كتابه الأساسي "الفتوحات المكية".
ميز ابن عربي بين زمانين أو تاريخين: زمان يبدأ "عند وجود حركة الفلك لتعيين المدة المعلومة عند الله"، والذي تزامنت بدايته مع خلق الروح المدبرة أي العقل الأول، وهو زمان الحقيقة المحمدية قبل ظهور محمد الرسول المكي، وزمان بدأ بظهور هذا الأخير أعني محمد المكي، حسب قول ابن عربي. وفي هذا التمييز يوظف ابن عربي حديثا منسوبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورد فيه: "كنت نبيا وآدم بين الماء والطين" (لم نعثر له على أثر في كتب الحديث. قال عنه ابن تيمية: "كذب باطل").
ومهما يكن فالزمان الأول –عند ابن عربي- يمتد من إبداع الله للعقل الأول أو الحقيقة المحمدية إلى يوم تجلي هذه الحقيقة في محمد الجسماني الرسول العربي، وهو زمان "الاسم الباطني" للحقيقة المحمدية. أما الزمان الثاني فهو يبدأ مع محمد الجسماني المكي، وهو زمان "الاسم الظاهر" لتلك الحقيقة. في الزمان الأول كان الحكم له باطنا في جميع ما ظهر من الشرائع على أيدي الأنبياء والرسل سلام الله عليهم أجمعين، وفي الزمان الثاني صار الحكم له ظاهرا، فنسخ كل شرع أبرزه الاسم الباطن بحكم الاسم الظاهر، لبيان اختلاف حكم الاسمين، وإن كان المشرِّع واحدا، وهو صاحب الشرع".
ومن هنا كانت الولاية ولايتان: ولاية عامة تباطن دورة الحقيقة المحمدية قبل تجليها في شخص محمد، وولاية خاصة بعد تجلي تلك الحقيقة فيه. وهذه الأخيرة تتميز عن الأولى بجملة أمور، منها: أن "العلم في هذه الأمة (الإسلامية) أكثر مما كان في الأوائل؛ وقد أُعطي محمد صلى الله عليه وسلم علم الأولين والآخرين لأن حقيقة الميزان (=العدل في الكون) تعطي ذلك. ومن هنا أيضا "كان الكشف أسرع في هذه الأمة مما كان في غيرها".
ليس هذا وحسب، بل إن الله "يقيم" للولي، بزعم ابن عربي، في هذه الولاية الخاصة بالدورة المحمدية، مظهرَ محمد وهو يأخذ الوحي عن جبريل، فيأخذ هذا الولي نفس الشرع من جبريل كما أخذه محمد. كما يستطيع هذا الولي تصحيح الحديث النبوي مع النبي محمد نفسه، بصورة مباشرة ودونما حاجة إلى إسناد. يقول ابن عربي: "ورب حديث يكون صحيحاً من طرق رُوَاته يحصل لهذا المكاشَف الذي عاين هذا المظهر، فيسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الحديث الصحيح فأنكره (النبي)، وقال له: لم أقله ولا حكمت به، فيعلم (الولي) ضعفه فيترك العمل به عن بينة من ربه". وهذا الصنف من الأولياء يطلق ابن عربي عليهم "أنبياء الأولياء". وهم يستطيعون حسب رأيه الأخذ عن جبريل وعن النبي محمد مباشرة: "بالهمة والعلم، من غير معلم من المخلوقين غير الله".
وهذا في نظره هو معنى وراثة النبوة، وهي من خصائص أنبياء الأولياء "التي تميزهم عن غيرهم من عامة الأولياء. فمثل هؤلاء يحفظون الشريعة الصحيحة التي لاشك فيها على أنفسهم وعلى هذه الأمة ممن اتبعهم، فهم أعلم الناس بالشرع". ويضيف ابن عربي: "غير أن الفقهاء لا يسلمون لهم ذلك، وهؤلاء -يعني أنبياء الأولياء- لا يلزمهم إقامة الدليل على صدقهم، بل يجب عليهم الكتم لمقامهم، ولا يردُّون على علماء الرسوم (الفقهاء) فيما ثبت عندهم، مع علمهم بأن ذلك خطأ في نفس الأمر، فحكمهم حكم المجتهد...".