المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نحو مدلول جديد للحرية عند رفاعة الطهطاوي



لمياء
04-10-2006, 03:29 PM
من المقدس إلى الأنسنة ... نحو مدلول جديد للحرية عند رفاعة الطهطاوي

أحمد عرفات القاضي الحياة - 08/04/06//

لم ترد كلمة حرية في تراثنا كمصطلح مفرد أو مجرد إلا من خلال ثنائيات مثل الحر في مقابل العبد وحرية الإرادة في مقابل الجبر، وقد نوقشت القضية في سياق الفعل الإنساني ومدى قدرة الإنسان في فعله والمواقف المتباينة من القضية لدى الفرق الإسلامية المختلفة كالجبرية الذين نفوا قدرة الإنسان تماماً. وقالوا أنه كالقشة في مهب الريح لا يملك من أمره شيئاً، أو الأشاعرة الذين قالوا بالكسب وهو موقف وسط يجعل الفعل بين إرادة الله وإرادة الإنسان بمعنى أن حرية الإنسان محكومة ومحدودة بالمشيئة الإلهية، ثم المعتزلة الذين قالوا إن الإنسان يخلق أفعاله وظلت هذه المواقف الثلاثة تشكل موقف الفكر الإسلامي منذ ظهور الفرق الإسلامية في نهاية القرن الأول الهجري وحتى بداية العصر الحديث حيث جرى التعامل المباشر مع الغرب من خلال الوفود والبعثات الدراسية بعدما اكتشف العرب والمسلمون الفرق الهائل بينهم وبين الغرب الحديث منذ الحملة الفرنسية على مصر واكتشاف وجه جديد للحضارة الغربية الحديثة لم يكن للمسلمين عهد به من قبل كما عبر عن ذلك عبدالرحمن الجبرتي في تاريخه وهو يحدثنا مبهوراً وفاغر فاه مما رآه في المعهد العلمي الفرنسي من تجارب على يد العلماء الفرنسيين المصاحبين للحملة، هذا الموقف الذي عبر عنه الجبرتي ترك أثره في المجتمع المصري الذي شعر بضرورة الخروج من أقبية العصور الوسطى.

وهذا ما نلمسه من الشيخ حسن العطار أستاذ رفاعة الذي رشحه ليكون إماماً للبعثة ونبهه لضرورة تغيير مجتمعنا وضرورة أن يعي ويعرف الجديد والحديث في المجتمع الفرنسي. وقد وعى الشيخ رفاعة نصيحة شيخه وأستاذه فأقبل بشغف ونهم على العلوم والمعارف. وعلى رغم أن مهنته كانت محددة كمرشد ديني للطلاب الذين ذهبوا لدراسة العلوم العملية التي رأى محمد علي حاجته إليها في بناء مجتمع حديث.

وخلال لحظة التواصل الحديثة بالغرب من خلال أمثال الشيخ رفاعة التي لم يكن هناك مفر منها لأن المجتمع كان بحاجة ضرورية للتواصل الحضاري لتكوين نواة معرفة يبني عليها تقدمه، خصوصاً في مجال العلوم والتكنولوجيا، فكانت الوفود لجامعات أوروبا لدراسة هذه العلوم العملية.

ومن حسن الطالع كان الشيخ رفاعة الطهطاوي إمام البعثة الذي انبهر بالمجتمع الغربي وما شاهده في المجتمع الفرنسي قلعة الحرية والتقدم في أوروبا، فكان هو العقل الواعي الذي نقل لنا وهو تحت لحظة الانبهار طبيعة المجتمع الفرنسي بحسب كتابه الرائد في أدب الرحلات «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» وهو يحدثنا عن مجتمع ليبرالي حر يقوم على العدل والمساواة كنموذج ينشد تحقيقه في مجتمعه الذي يعاني الجمود والتخلف ولا يرى ما يمنع من تحقيق ذلك بالافادة من التجربة الفرنسية في عمومها ولا يرى أن الشريعة الإسلامية التي علمت الدنيا تمنع من هذه الإفادة.

وكان الشيخ رفاعـة من دون مبالغة هو العقـل الواعـي لتجـربة محمد علي في التحديث الفكري والاجتماعي واضطلع بدور رائـد التـحديث العـربي من دون منازع، ومن هنا كان لا بد من معـرفـة مفهوم الحـريـة لدى رفاعة الطهطاوي كنموذج فكري في تجربة محمد علي صاحب لحظة الوعي الأولى في مجتمعنا الحديث.

لن أقف طويلاً عند معنى الحرية وأقسامها وأنها الوسيلة الوحيدة لتحقيق السعادة لدى الشيخ رفاعة ولا عند حديثه كمشاهد منبهر، لكنه منبهر غير فاقد لذاته ولا لهويته بالمجتمع الباريسي كنموذج يحتذى في العدل والحـرية والمساواة، وهي أمور يجب أن نـتـفهمها بحسب ظروف الزمان والمكان وطبيعة التجربة في تلك المرحلة الباكرة من عملية التحديث العربية والتواصل الحضاري التي يغلب عليها عملية النقل والترجمة ولا تخضع للنقد والمراجعة بالقدر الكافي، لأن ذلك الأمـر يحـتـاج مـزيداً من الوقـت للتأمل والمراجعة والنظر للتجربة من بعيد وهي غير متوافرة بالتأكيد في مرحلة التواصل والتكوين التي تحتاج للتـلاحم والالتصاق وهي أمور لا تسمح للنقد والفرز بالقدر الكافي.

ما يعنينا في تجربة الشيخ رفاعة أن مصطلح الحرية عنده سيتخلص من مدلوله القديم في التراث العربي وسينحى منحى جديداً لم تعهده الثقافة العربية والإسلامية من قبل وهو التركيز على البعد الإنساني لقضية الحرية. بمعنى آخر نحن أمام أنسنة مصطلح لم نعهده من قبل في تراثنا بمعنى مجرد أو كمصطلح مستقل إلا من خلال البعد الديني كما كان الشأن لدى الفرق الإسلامية في القديم التي لم تناقش القضية إلا من خلال ثنائية حرية الإنسان في ضوء الإرادة الإلهية والمشيئة الإلهية أو بمعنى آخر من خلال المقدس، وهذا يبرز في حديث رفاعة الطهطاوي عن حرية الفرد وعن حرية المجتمع وعن حرية المرأة التي اهتم بتعليمها وأنشأ مدرسة خاصة لهذا الغرض بعدما كانت قضية غائبة تماماً في تراثنا نحن أمام الحرية بمدلولها الغربي الحديث (liberty). وربما لهذا السبب يرى فريق من الباحثين العرب - وهم محقون في ذلك – أن الشيخ رفاعة كان رائد الليبراليين العرب في العصر الحديث وممهد للفكر العلماني.

وربما كان حديثه عن المواطنة والحرية بمعناها الليبرالي الغربي أحد أسباب الهجمة الشرسة التي شنها عليه فريق كبير من السلفيين المعاصرين بتهمة أنه رائد العلمانية المعاصرة في العالم الإسلامي والذي فتح الباب واسعا أمام الفكر الغربي والثقافة الغربية لتلج بقوة في مجتمعنا العربي والإسلامي ونسي هؤلاء الذين ينظرون لنصف الكوب الفارغ أن الغرب قد نفذ من قبل الشيخ رفاعة بجيوشه ووطأت أقدامه قدس الأقداس إن الإنصاف يقتضينا أن نقوم تجربة هؤلاء الرواد في مجملها ومن خلال ظروف العصر وبحسب الزمان والمكان.

وعلى رغم النقد الذي وجهه فريق من السلفيين المعاصرين للشيخ رفاعة، وخصوصاً عن أفكاره عن الحرية بمدلولها الإنساني الجديد، فإن تيارات الإسلام السياسي الآن والتي خرجت في معظمها من رحم جماعة الإخوان المسلمين في طول العالم العربي وعرضه تتبنى خطاب رفاعة عن الحرية بمدلوله الإنساني بعيداً من المعنى المقدس، كما عرفناه في تراثـنا وتـلك مفارقة غريبة تستحق الاهتمام فجميع جماعات الإسلام السياسي في عالمنا العربي وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين يتبنون مفهوم المواطنة والحرية والديموقراطية بمدلولها الليبرالي ولا يـرون في ذلك ما يتناقض مع الشريعة الإسلامية، وهو المعنى نفسه الذي أكد عليه من قبل الشيخ رفاعة من خلال فهمه ووعيه لتجربته الباريسية والذي لم يجد فيها ما يتناقض مع الشريعة الإسلامية التي علمت الدنيا بحسب تعبيره!


كاتب مصري/ أستاذ في جامعة الإمارات