مجاهدون
04-10-2006, 09:48 AM
كتابات - عطاء منهل
باحث عراقي
ملاحظة: المقالة نشرت قبل أيام على موقع عراق الغد، ولكن لكونها قد سقط منها ما يتعلق بالمرجع محمد الشيرازي، ارتــُئـِي تكملة ما سقط منها ثم إعادة نشرها ولكن هذه المرة على كتابات تعميما للفائدة.
من الضروري جدا القيام بدراسة موضوعية شاملة معمقة لمراجع الشيعة، لا سيما المراجع الذي برزوا منذ النصف الثاني من القرن الماضي حتى يومنا هذا، ويهمنا بالذات أولئك الذين تركوا بصماتهم على المشهد السياسي بشكل أثر في واقع الشيعة وربما عموم المسلمين في العراق وغير العراق. ومن أهم هؤلاء محمد باقر الصدر وروح الله الخميني ومحمد الصدر ومحمد حسين فضل الله وعلي السيستاني ومحمد المهدي الحسيني الشيرازي. وهذه المقالة لا يسعها أن تكون بديلا عن هذه الدراسة، بل تريد أن تعطي فقط بعض الإشارات السريعة.
محمد باقر الصدر:
ليس كل مراجعنا بمفكرين، وكان الصدر إضافة إلى كونه مرجعا كبيرا، مفكرا كبيرا وعبقريا فذا وفيلسوفا مجددا، ويكفيه كتاب الأسس المنطقية في الاستقراء. وفي الشأن السياسي كان صاحب مشروع إسلامي شامل تجسد في تأسيسه لحزب الدعوة الإسلامية وكتابته لمشروع دستور للدولة الإسلامية في نهاية حياته وبعد نجاح الثورة في إيران في إسقاط حكم الشاه وإقامة الجمهورية الإسلامية.
رغم عظمة الشهيد في فكره وفي شجاعته وفي وعيه السياسي المتقدم يومئذ على عصره وفي تصديه للسلطة وفي استشهاده، فهو كأي فكر إنساني وأي مشروع إنساني يعيش نسبية النتاج الإنساني قابل للمراجعة والمناقشة والنقد. وإني حسب معرفتي بهذا المفكر الكبير أحتمل احتمالا راجحا جدا أنه كان سيعيد النظر في كثير من متبنياته، بما في ذلك مشروع إقامة الدولة الإسلامية ودعمه لجمهورية إيران الإسلامية ومباركته للثورة وإعلانه الانقياد لقائدها الخميني واستعجاله الشهادة.
أظن أنه كان سيتحول إلى الإيمان بأن الدولة الديمقراطية التعددية هي الحل للعراق، للإنسان، للإسلام، بل هي المصداق الأرجح لدعاء الافتتاح الرمضاني "اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة"، وللدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة. الشهيد الصدر تصور أربعة مراحل للعملية التغييرية التي رسمها كرسالة لحزب الدعوة الإسلامية، هي مرحلة التغيير الفكري، ثم المرحلة السياسية، ثم مرحلة الدخول في صراع مع السلطة سميت بالمرحلة الثورية تارة والجهادية أخرى، ثم مرحلة الحكم عندما يمسك الإسلاميون بزمام الأمور في البلد.
ولكنه لو عاش ورأى تجربة إيران، ولو عاش ورأى أداء الإسلاميين العراقيين اليوم، لتحول إلى الدعوة إلى الدولة العلمانية التي تحترم ثوابت الدين دون إقحام الدين في كل جزئيات العملية السياسية. المهم هذه المرحل لم تتحقق، وبقي حزب الدعوة ينظـّر لهذه المرحل وكأنها وحي منزل. نعم صحيح أن المرحلية هي سنة الإصلاح والتغيير، ولكن القول بمراحل محددة بهذا الشكل لا يمكن أن يكون إلا من قبيل الاحتمال أو ضرب المثل.
لم يكن في هذه المراحل موقع للديمقراطية والتعددية السياسية بما هو أوسع وأشمل من أن يستوعب تعدد الاجتهادات السياسية الإسلامية فقط. ثم إن الشهيد انبهر بالثورة الإسلامية في إيران وانبرى يكتب لها مسودة دستورها، وأبدى استعداده – مبالغة منه في التواضع - لأن يكون وكيلا للخميني في قرية نائية من قرى إيران خدمة للثورة التي عبر عنها أنها حققت حلم الأنبياء. وكان الشهيد يعيش فترة طويلة هاجس الشهادة ليكون دمه محركا للأمة كما كان يظن، لأنه كان يعتقد أن الأمة في العراق ليست فاقدة الوعي بل فاقدة الإرادة، وليس من محرك لإرادتها إلا دم كدمه.
ورفض على ضوء ذلك كل العروض للهرب من قبضة النظام الدموي. والصدر كان في بداية نظريته السياسية يرى الشورى أساسا للدولة، ثم تحول إلى ولاية الفقيه بعد الثورة الإسلامية ولكنه يتميز مع ذلك عن الخميني في طرحه للولاية، وهذا ما شرحه في بحثه في دوري الشهادة والخلافة، فجعل الخلافة أي إدارة الشأن السياسي للأمة ودور الشهادة أي الرقابة للفقيه، هذان الدوران اللذان لا يتحدان عنده إلا في المعصوم. ونعلم أن حتى اقتصار الفقيه على دور الشهادة أو الرقابة مع القول بولايته على الأمة يمكن أن يربك الواقع السياسي إرباكا كبيرا، فمراجع التقليد يتفاوتون كثيرا في وعيهم السياسي والاجتماعي، فبعضهم متواضع جدا في مستوى هذا النوع من الوعي، ولكن عندما جعل الشهيد الفقيه واحدا من الأمة، وهو بالتالي يشارك الأمة في ضلوعها بدور الخلافة من موقع حقيقة كون أحد أفراد الأمة، فيعول على رأيه وموقفه وفكره السياسي بمقدار نضج الرأي وحكمة الموقف وعمق الفكر، وليس لكونه فقيها، ولكنه إذا برز في تلك الأمور وكان إضافة إلى ذلك فقيها مجتهدا فتكون له الأولوية، ومع هذا يبقى كما بينت الخطر كامنا من خلال فهم الأمة بأن رأي الفقيه له من القداسة ما يجعل نقده من قبيل المحرمات ومعارضته من كبائر المعاصي.
روح الله الخميني :
هز العالم بثورته وتفاعل العالم الإسلامي لا سيما الشيعي بهذا الحدث. ولكن سرعان ما بدأت الثورة تنحى منحى الاستبداد والأصولية والتطرف. فشعار الموت لأمريكا والموت لكل حكام العرب والموت للاتحاد السوفييتي والموت لمخالفي ولاية الفقيه بقيت شعارات تلهب الساحة حماسا. وسرعان ما أظهرت الثورة العداء الصارخ للتيارات الوطنية والعلمانية والليبرالية، حتى أصبحت الوطنية والليبرالية سبة لا تقل عن سبة الماسونية والعمالة للصهيونية والإمپريالية وغيرها. ومورس القمع تجاه المراجع الذين اختلفوا قليلا مع الخميني. فشريعتمداري يوضع تحت الإقامة الجبرية وترمى عشرات الآلاف من نسخ رسالته العملية أمام داره مأتيا بها من أطراف إيران أينما كان مقلدوه بالشاحنات.
والوطنيون كإبراهيم يزدي ومهدي بازرگان المتدين المتفقه الليبرالي الوطني أقصوا جميعا وهمشوا، وأعدم قطب زاده وزير الخارجية في بداية الثورة بتهمة التآمر على الثورة، وتقرر إلغاء رمزية الرمز الوطني د. محمد مصدق وأنزلت لوحات اسم الشارع الذي سمي باسمه في بداية الثورة ليغير إلى شارع ولي العصر، وكرس مفهوم ولاية الفقيه خارج إيران لتعني ولاية الإيرانيين على غير الإيرانيين، والتي تجسدت بروح سلطوية تجاه الأحزاب الإسلامية العراقية.
إضافة إلى أن الإيرانيين وقعوا في مرض الغرور الذي اقترب من مقولة شعب الله المختار، وكرس الخميني هذا المعنى في وصيته عندما خاطب الشعب الإيراني بأنه أفضل من أصحاب رسول الله (ص) وأفضل من أصحاب أمير المؤمنين علي (ع). هذا كله علاوة على إصراره على مواصلة الحرب التي حصدت مئات الآلاف من الأرواح من الشعبين، وإن كان صدام هو المعتدي والبادئ بالحرب. هذه الثورة التي أعطت صورة غير مريحة عن الشيعة بالذات، وفرضت ولايتها على الساحة اللبنانية فأسست بنفسها حزبا سمته حزب الله هي التي تنصب أمينه العام بأمر يصدر من موقع الولاية في طهران، هذا الحزب الذي أسس لثقافة المغالاة لخامنئي ولإيران وأمر بحصر التقليد في السيد القائد أو ولي أمر المسلمين كما يسمونه. جاء الخميني بنظرية ولاية الفقيه والتي تقول بالولاية المطلقة للفقيه إطلاقا لم يدَّعِه حتى المعصوم. ولم تتحمل نظريته التعددية حتى في إطار المشروع الإسلامي، فإما الإيمان بولاية الفقيه وإما الخروج عن الثورة الإسلامية الذي كان بمثابة الخروج عن الإسلام، ولذا فمثل خاتمي الذي لا يؤمن بولاية الفقيه مضطر لممارسة التقية السياسية وإعلان إيمانه بولاية الفقيه كي يسمح له بالترشيح بحسب الدستور. وكثيرة هي صور التعسف والإكراه في المجتمع الإيراني من فرض للحجاب حتى على الطفلات الصغيرات، حتى أدى هذا التعسف والتشدد إلى ردة في التدين عند الكثيرين، وأصبح المعمم مكروها ومحتقرا في كثير من الأوساط لا سيما في طهران.
محمد الصدر :
جاء محمد محمد صادق الصدر ليقوم بأعمال أبهرت العالم أهمها صلاة الجمعة المليونية، حيث أحيى هذه الشعيرة المهملة من قبل الشيعة حتى غدت أرضية خصبة لثورة شعبية يمكن أن تتفجر في أي لحظة. لكنه ألهب الساحة حماسا دون أن يعطي أي قسط من وعي وعمق في فهم الإسلام، وتركته هو هذا التيار، تيار ولده مقتدى الذي يمارس القتل العشوائي ويربك الساحة السياسية بشعاراته الملتهبة. كان الصدر الثاني يتألق في بعض القضايا التي انفرد في معالجتها وتناولها، ولكنه كان يهبط هبوطا كارثيا في انخفاض الوعي والحماس العاطفي والطرح غير العلمي أو غير الحكيم لكثير من القضايا الأخرى. وربى أصحابه على ألا يبيعوا شيئا لامرأة سافرة ولا يقبلوا صعودها في سيارة أجرة، وألا يصلوا وراء وكلاء غيره من المراجع، وادعى أنه أعلم الأولين والآخرين، وحرض أتباعه ضد بقية المراجع الذين نعتهم بأتباع الحوزة الساكتة مقابل الحوزة الناطقة التي يا ليتها لم تنطق قط وبقيت على تقية محمد الصدر التي وصفها هو بنفسه بأنها كانت تقية مكثفة، ثم أوصى بكاظم الحائري الذي لا يملك من الوعي السياسية والاجتماعي شيئا، والمعروف بتطرفه وولائه بالمطلق لإيران وجمهوريتها الإسلامية وفقيهها الولي.
محمد حسين فضل الله
وهو أيضا كما هو الحال مع محمد باقر الصدر يعتبر إلى جانب كونه فقيها مجتهدا، كذلك مفكرا ملأ فكره الساحة الثقافية الإسلامية. وفضل الله بقدر ما هو منفتح وحداثي وعصري في فقهه وتفسيره وفكره، بقدر ما هو متطرف في مواقفه وتحليلاته السياسية التي لا تبتعد كثيرا عن حزب الله. فهو من جانب فقيه يقول بمرجعية المرأة وطهارة حتى الكافر غير الكتابي وحساب بدايات الأشهر الشرعية حسابا فلكيا باحتساب يوم إمكان الرؤية بعد الولادة حتى لو لم تحرز الرؤية بالفعل، ويحرر التقليد من دعوى وجوب تقليد الأعلم، ويوسع فسحة الحرية في التقليد عملا بقاعدة اليسر ليجعل التبعيض في التقليد مبرئا للذمة، ويحرم التدخين بدليل قرآني رائع من خلال المقابلة بين النفع والإثم في آية الخمر والميسر، ليكون الضرر مرادفا للإثم، ولا يقول بكثير من المفطرات الوهمية التي لا هي من الطعام والشراب ولا هي من المتعة الجنسية كالتدخين المحرم عنده ولكن غير المفسد للصيام كما هو الحال مع السرقة مثلا، ويجوز قراءة جزء السورة في الصلاة، ولا يقول بمغربَين فلكي وشرعي بل بمغرب واحد يتوحد الفلكي والشرعي فيه بظاهرة سقوط القرص من الأفق، ويحرم التطبير والشعائر الدموية العنيفة المؤذية للجسم وللذوق العام ولسمعة الإسلام والتشيع.
وله نظرات رائعة في قضايا المرأة وقضايا الشباب، ويعطي فهما للعصمة يوفق فيه بين السمو الذهني والروحي للمعصوم وحقيقة عدم خروجه عن طبيعيته البشرية، وفي السياسة طرح جمهورية الإنسان بدلا من الجمهورية الإسلامية التي طرحت في الثمانينات من قبل منتظري للبنان. لكن عقدته المستحكمة ضد أمريكا جعلته في قضايا كقضية العراق لا يختلف كثيرا في موقفه عن موقف إيران وحزب الله والأحزاب الأصولية السنية والخط العروبي. وفي الديمقراطية يقول بكل مضامينها ولكن من الغريب أنه يستشكل استخدام مصطلح الديمقراطية كمشروع حضاري يحل إشكالية الاختلاف، ويقر بجواز القبول بها ولا يحب للإسلاميين أن يكونوا دعاة لها، وراح في بدايات ما بعد سقوط الديكتاتورية في العراق ينظر لشرعية المقاومة ولاشرعية مجلس الحكم إلى غير ذلك من المواقف الحادة والمتشددة. وهذا ما يؤسف له، لأنه فوت فرصة تقديم نموذج لمرجع عقلاني معتدل ومنفتح على آليات العصر.
محمد مهدي الشيرازي :
أول ظهوره كان في كربلاء، حيث طرح نفسه للمرجعية، وذهب البعض ليستفسر من مراجع النجف عن اجتهاده، فأجابوا بالنفي حينئذ. ولا نريد أن نتوقف عند هذه النقطة، فلعله بلغ درجة الاجتهاد فيما بعد. أتباعه كانوا يعرفون بالشيرازية. الشيرازي ينتمي إلى مجموعة العلماء الذين يتبنون الشعائر الحسينية من غير أي قيود، بل يروجون للتطبير وغيرها من الشعائر العنيفة والدموية، ويشجعون عليها وينظرون لشرعيتها، لا على مستوى الإباحة فحسب، بل على مستوى القول برجاحتها الشرعية، أي اعتبارها من المندوبات أي المستحبات. كما يتبنون الولاية التكوينية للمعصومين، أي قدرتهم على التصرف بالكون بقول كن فيكون، ولكن ليس على نحو الاستقلال عن الإرادة الإلهية. وهذا الفريق من العلماء ينقسمون إلى قسمين، منهم من يحرم العمل السياسي في عصر الغيبة، ويعتبرون التصدي للشأن السياسي من شأن المعصوم حصرا، كما كان الأمر مع محمد الروحاني في إيران.
ومنهم من يرى وجوب التصدي للشأن السياسي، كما هو الحال مع محمد الشيرازي. وقد اختلف الشيرازي مع الثورة الإسلامية الإيرانية، وطرح في مقابل نظرية الخميني في ولاية الفقيه نظرية شورى الفقهاء، التي تعتبر صيغة أكثر ديمقراطية من ولاية الفقيه، بتحويل الولاية من فقيه واحد فقط إلى مجموعة من الفقهاء يشكلون شورى لقيادة الأمة. إذن الشيرازي وأتباعه يمكن اعتبارهم سياسيا أكثر مرونة وليبرالية، ولكنهم متطرفون من جهة أخرى في العقائد وفي الشعائر، ويتبنون إقامة الدولة الإسلامية، كل ما في الأمر على أساس نظرية شورى الفقهاء في الحكم. والشيرازي لم يكن صاحب فكر معتبر، بل طرحه كان يتسم بالبساطة والسطحية، وإن كانت فكرة شورى الفقهاء تمثل من حيث المبدأ خطوة متقدمة على فكرة ولاية الفقيه.
علي السيستاني :
كان طوال حقبة الديكتاتورية بعيدا كل البعد عن الشأن السياسي، ولم يعرف عنه موقف واحد يدل على إدانته للديكتاتورية ولو في مجالس الثقاة الخاصة، بل عرف عنه إدانته لانتفاضة 1991. وبرز دوره بعد السقوط وقام بدور مشكور في التصدي لكثير من القضايا تجلت فيها العقلانية والوسطية، وأظهر حرصا على مصالح العراق عموما ومصالح الشيعة خصوصا، وأكد على الانفتاح على السنة التي طلب من الائتلافيين ألا ينعتوهم بإخوانهم بل بأنفسهم.
لكنه أسس – لا أدري هو أم ابنه محمد رضا - لسابقة خطيرة، وهي الرجوع إلى المرجع الديني في أمهات قضايا الأمة بل وفي جزئيات العملية السياسية أحيانا، وراح البعض من الائتلافيين يروجون لثقافة الغلو في المرجع وبأنه يجب أن يطاع حتى لو ألغى العملية السياسية كلها بما في ذلك الجمعية الوطنية والدستور والانتخابات وغيرها، فطاعته تتقدم على أي اعتبارات أخرى. ثم حتى مع الإقرار بصحة مواقفه، فلا ينبغي هذا أن نجعل صحتها أمرا مطلقا غير قابل للمناقشة أو الاعتراض. بل لعله من الصحيح أن نشكل عليه أنه هو الذي أنقذ التيار الصدري، دون أن ندعو والمعاذ بالله بتصفيته، ولكن نهايته كانت قاب قوسين أو أدنى وكان السيستاني هو المنقذ له، وهو الذي قوى شوكة القوى الإسلامية الأصولية المتشددة، ومنها المتطرفة، ومنها ذات الولاء الإيراني.
ثم حتى لو صحت مواقفه، فمن يضمن لنا ألا يأتي من بعده مرجع لا يتخذ الاعتدال منهجا ولا يؤمن بالعملية الديمقراطية باعتبارها تحكيم حاكمية الأغلبية في مقابل حاكمية الله، وماذا لو جاءنا مرجع يقول بالولاية المطلقة للفقيه التي يكون الاعتراض عليها اعتراضا على الحجة (ع)، والذي يكون الاعتراض عليه اعتراضا على الرسول (ص)، والذي يكون الاعتراض عليه اعتراضا على الله عز وجل. ثم إن السيستاني الذي غدت كلمته لا ترد، ولا يجرأ أحد على الاعتراض عليها، لم يوظف ذلك من أجل تقديم نصيحة هادئة بالابتعاد عن الشعائر الدموية والخرافية كالتطبير والزحف إلى مرقد الإمام على اليدين والرجلين وغيرها من الأمور. ثم ما معنى أن يكون هو صاحب الكلمة الفصل في أمهات القضايا وهو لا يرى ولا يظهر على الإعلام ولا يخرج إلى الناس مواجهة كما فعل الصدر الثاني في ظروف القهر والاستبداد فدفع ثمن ذلك حياته، مع ما قدمناه من ملاحظات على ما أسسه من تيار متطرف دفعنا ثمن تطرفه غاليا جدا.
فهل مع كل هذا من مصلحة العراق، وهل من مصلحة شيعة العراق، وهل من مصلحة شيعة كل العالم الإسلامي، وهل من مصلحة الإسلام، وهل من مصلحة شعوب العالم الإسلامي، وهل من مصلحة الإنسانية بالله عليكم أن نرهن مصير الأمة ومصير مستقبل العراق ومصير المشروع الديمقراطي ومصير السلام العالمي بيد (مراجعنا العظام) كما سماهم دستورنا العظيم؟
بغداد - 10/04/2006
راجع مقالات الكاتب على كتابات في 7، 17، 23، 25، 26، 27، 29/3، 4، 5، 6/4/2006 وكذلك على موقع عراق الغد بالبحث عن "عطاء منهل".
باحث عراقي
ملاحظة: المقالة نشرت قبل أيام على موقع عراق الغد، ولكن لكونها قد سقط منها ما يتعلق بالمرجع محمد الشيرازي، ارتــُئـِي تكملة ما سقط منها ثم إعادة نشرها ولكن هذه المرة على كتابات تعميما للفائدة.
من الضروري جدا القيام بدراسة موضوعية شاملة معمقة لمراجع الشيعة، لا سيما المراجع الذي برزوا منذ النصف الثاني من القرن الماضي حتى يومنا هذا، ويهمنا بالذات أولئك الذين تركوا بصماتهم على المشهد السياسي بشكل أثر في واقع الشيعة وربما عموم المسلمين في العراق وغير العراق. ومن أهم هؤلاء محمد باقر الصدر وروح الله الخميني ومحمد الصدر ومحمد حسين فضل الله وعلي السيستاني ومحمد المهدي الحسيني الشيرازي. وهذه المقالة لا يسعها أن تكون بديلا عن هذه الدراسة، بل تريد أن تعطي فقط بعض الإشارات السريعة.
محمد باقر الصدر:
ليس كل مراجعنا بمفكرين، وكان الصدر إضافة إلى كونه مرجعا كبيرا، مفكرا كبيرا وعبقريا فذا وفيلسوفا مجددا، ويكفيه كتاب الأسس المنطقية في الاستقراء. وفي الشأن السياسي كان صاحب مشروع إسلامي شامل تجسد في تأسيسه لحزب الدعوة الإسلامية وكتابته لمشروع دستور للدولة الإسلامية في نهاية حياته وبعد نجاح الثورة في إيران في إسقاط حكم الشاه وإقامة الجمهورية الإسلامية.
رغم عظمة الشهيد في فكره وفي شجاعته وفي وعيه السياسي المتقدم يومئذ على عصره وفي تصديه للسلطة وفي استشهاده، فهو كأي فكر إنساني وأي مشروع إنساني يعيش نسبية النتاج الإنساني قابل للمراجعة والمناقشة والنقد. وإني حسب معرفتي بهذا المفكر الكبير أحتمل احتمالا راجحا جدا أنه كان سيعيد النظر في كثير من متبنياته، بما في ذلك مشروع إقامة الدولة الإسلامية ودعمه لجمهورية إيران الإسلامية ومباركته للثورة وإعلانه الانقياد لقائدها الخميني واستعجاله الشهادة.
أظن أنه كان سيتحول إلى الإيمان بأن الدولة الديمقراطية التعددية هي الحل للعراق، للإنسان، للإسلام، بل هي المصداق الأرجح لدعاء الافتتاح الرمضاني "اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة"، وللدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة. الشهيد الصدر تصور أربعة مراحل للعملية التغييرية التي رسمها كرسالة لحزب الدعوة الإسلامية، هي مرحلة التغيير الفكري، ثم المرحلة السياسية، ثم مرحلة الدخول في صراع مع السلطة سميت بالمرحلة الثورية تارة والجهادية أخرى، ثم مرحلة الحكم عندما يمسك الإسلاميون بزمام الأمور في البلد.
ولكنه لو عاش ورأى تجربة إيران، ولو عاش ورأى أداء الإسلاميين العراقيين اليوم، لتحول إلى الدعوة إلى الدولة العلمانية التي تحترم ثوابت الدين دون إقحام الدين في كل جزئيات العملية السياسية. المهم هذه المرحل لم تتحقق، وبقي حزب الدعوة ينظـّر لهذه المرحل وكأنها وحي منزل. نعم صحيح أن المرحلية هي سنة الإصلاح والتغيير، ولكن القول بمراحل محددة بهذا الشكل لا يمكن أن يكون إلا من قبيل الاحتمال أو ضرب المثل.
لم يكن في هذه المراحل موقع للديمقراطية والتعددية السياسية بما هو أوسع وأشمل من أن يستوعب تعدد الاجتهادات السياسية الإسلامية فقط. ثم إن الشهيد انبهر بالثورة الإسلامية في إيران وانبرى يكتب لها مسودة دستورها، وأبدى استعداده – مبالغة منه في التواضع - لأن يكون وكيلا للخميني في قرية نائية من قرى إيران خدمة للثورة التي عبر عنها أنها حققت حلم الأنبياء. وكان الشهيد يعيش فترة طويلة هاجس الشهادة ليكون دمه محركا للأمة كما كان يظن، لأنه كان يعتقد أن الأمة في العراق ليست فاقدة الوعي بل فاقدة الإرادة، وليس من محرك لإرادتها إلا دم كدمه.
ورفض على ضوء ذلك كل العروض للهرب من قبضة النظام الدموي. والصدر كان في بداية نظريته السياسية يرى الشورى أساسا للدولة، ثم تحول إلى ولاية الفقيه بعد الثورة الإسلامية ولكنه يتميز مع ذلك عن الخميني في طرحه للولاية، وهذا ما شرحه في بحثه في دوري الشهادة والخلافة، فجعل الخلافة أي إدارة الشأن السياسي للأمة ودور الشهادة أي الرقابة للفقيه، هذان الدوران اللذان لا يتحدان عنده إلا في المعصوم. ونعلم أن حتى اقتصار الفقيه على دور الشهادة أو الرقابة مع القول بولايته على الأمة يمكن أن يربك الواقع السياسي إرباكا كبيرا، فمراجع التقليد يتفاوتون كثيرا في وعيهم السياسي والاجتماعي، فبعضهم متواضع جدا في مستوى هذا النوع من الوعي، ولكن عندما جعل الشهيد الفقيه واحدا من الأمة، وهو بالتالي يشارك الأمة في ضلوعها بدور الخلافة من موقع حقيقة كون أحد أفراد الأمة، فيعول على رأيه وموقفه وفكره السياسي بمقدار نضج الرأي وحكمة الموقف وعمق الفكر، وليس لكونه فقيها، ولكنه إذا برز في تلك الأمور وكان إضافة إلى ذلك فقيها مجتهدا فتكون له الأولوية، ومع هذا يبقى كما بينت الخطر كامنا من خلال فهم الأمة بأن رأي الفقيه له من القداسة ما يجعل نقده من قبيل المحرمات ومعارضته من كبائر المعاصي.
روح الله الخميني :
هز العالم بثورته وتفاعل العالم الإسلامي لا سيما الشيعي بهذا الحدث. ولكن سرعان ما بدأت الثورة تنحى منحى الاستبداد والأصولية والتطرف. فشعار الموت لأمريكا والموت لكل حكام العرب والموت للاتحاد السوفييتي والموت لمخالفي ولاية الفقيه بقيت شعارات تلهب الساحة حماسا. وسرعان ما أظهرت الثورة العداء الصارخ للتيارات الوطنية والعلمانية والليبرالية، حتى أصبحت الوطنية والليبرالية سبة لا تقل عن سبة الماسونية والعمالة للصهيونية والإمپريالية وغيرها. ومورس القمع تجاه المراجع الذين اختلفوا قليلا مع الخميني. فشريعتمداري يوضع تحت الإقامة الجبرية وترمى عشرات الآلاف من نسخ رسالته العملية أمام داره مأتيا بها من أطراف إيران أينما كان مقلدوه بالشاحنات.
والوطنيون كإبراهيم يزدي ومهدي بازرگان المتدين المتفقه الليبرالي الوطني أقصوا جميعا وهمشوا، وأعدم قطب زاده وزير الخارجية في بداية الثورة بتهمة التآمر على الثورة، وتقرر إلغاء رمزية الرمز الوطني د. محمد مصدق وأنزلت لوحات اسم الشارع الذي سمي باسمه في بداية الثورة ليغير إلى شارع ولي العصر، وكرس مفهوم ولاية الفقيه خارج إيران لتعني ولاية الإيرانيين على غير الإيرانيين، والتي تجسدت بروح سلطوية تجاه الأحزاب الإسلامية العراقية.
إضافة إلى أن الإيرانيين وقعوا في مرض الغرور الذي اقترب من مقولة شعب الله المختار، وكرس الخميني هذا المعنى في وصيته عندما خاطب الشعب الإيراني بأنه أفضل من أصحاب رسول الله (ص) وأفضل من أصحاب أمير المؤمنين علي (ع). هذا كله علاوة على إصراره على مواصلة الحرب التي حصدت مئات الآلاف من الأرواح من الشعبين، وإن كان صدام هو المعتدي والبادئ بالحرب. هذه الثورة التي أعطت صورة غير مريحة عن الشيعة بالذات، وفرضت ولايتها على الساحة اللبنانية فأسست بنفسها حزبا سمته حزب الله هي التي تنصب أمينه العام بأمر يصدر من موقع الولاية في طهران، هذا الحزب الذي أسس لثقافة المغالاة لخامنئي ولإيران وأمر بحصر التقليد في السيد القائد أو ولي أمر المسلمين كما يسمونه. جاء الخميني بنظرية ولاية الفقيه والتي تقول بالولاية المطلقة للفقيه إطلاقا لم يدَّعِه حتى المعصوم. ولم تتحمل نظريته التعددية حتى في إطار المشروع الإسلامي، فإما الإيمان بولاية الفقيه وإما الخروج عن الثورة الإسلامية الذي كان بمثابة الخروج عن الإسلام، ولذا فمثل خاتمي الذي لا يؤمن بولاية الفقيه مضطر لممارسة التقية السياسية وإعلان إيمانه بولاية الفقيه كي يسمح له بالترشيح بحسب الدستور. وكثيرة هي صور التعسف والإكراه في المجتمع الإيراني من فرض للحجاب حتى على الطفلات الصغيرات، حتى أدى هذا التعسف والتشدد إلى ردة في التدين عند الكثيرين، وأصبح المعمم مكروها ومحتقرا في كثير من الأوساط لا سيما في طهران.
محمد الصدر :
جاء محمد محمد صادق الصدر ليقوم بأعمال أبهرت العالم أهمها صلاة الجمعة المليونية، حيث أحيى هذه الشعيرة المهملة من قبل الشيعة حتى غدت أرضية خصبة لثورة شعبية يمكن أن تتفجر في أي لحظة. لكنه ألهب الساحة حماسا دون أن يعطي أي قسط من وعي وعمق في فهم الإسلام، وتركته هو هذا التيار، تيار ولده مقتدى الذي يمارس القتل العشوائي ويربك الساحة السياسية بشعاراته الملتهبة. كان الصدر الثاني يتألق في بعض القضايا التي انفرد في معالجتها وتناولها، ولكنه كان يهبط هبوطا كارثيا في انخفاض الوعي والحماس العاطفي والطرح غير العلمي أو غير الحكيم لكثير من القضايا الأخرى. وربى أصحابه على ألا يبيعوا شيئا لامرأة سافرة ولا يقبلوا صعودها في سيارة أجرة، وألا يصلوا وراء وكلاء غيره من المراجع، وادعى أنه أعلم الأولين والآخرين، وحرض أتباعه ضد بقية المراجع الذين نعتهم بأتباع الحوزة الساكتة مقابل الحوزة الناطقة التي يا ليتها لم تنطق قط وبقيت على تقية محمد الصدر التي وصفها هو بنفسه بأنها كانت تقية مكثفة، ثم أوصى بكاظم الحائري الذي لا يملك من الوعي السياسية والاجتماعي شيئا، والمعروف بتطرفه وولائه بالمطلق لإيران وجمهوريتها الإسلامية وفقيهها الولي.
محمد حسين فضل الله
وهو أيضا كما هو الحال مع محمد باقر الصدر يعتبر إلى جانب كونه فقيها مجتهدا، كذلك مفكرا ملأ فكره الساحة الثقافية الإسلامية. وفضل الله بقدر ما هو منفتح وحداثي وعصري في فقهه وتفسيره وفكره، بقدر ما هو متطرف في مواقفه وتحليلاته السياسية التي لا تبتعد كثيرا عن حزب الله. فهو من جانب فقيه يقول بمرجعية المرأة وطهارة حتى الكافر غير الكتابي وحساب بدايات الأشهر الشرعية حسابا فلكيا باحتساب يوم إمكان الرؤية بعد الولادة حتى لو لم تحرز الرؤية بالفعل، ويحرر التقليد من دعوى وجوب تقليد الأعلم، ويوسع فسحة الحرية في التقليد عملا بقاعدة اليسر ليجعل التبعيض في التقليد مبرئا للذمة، ويحرم التدخين بدليل قرآني رائع من خلال المقابلة بين النفع والإثم في آية الخمر والميسر، ليكون الضرر مرادفا للإثم، ولا يقول بكثير من المفطرات الوهمية التي لا هي من الطعام والشراب ولا هي من المتعة الجنسية كالتدخين المحرم عنده ولكن غير المفسد للصيام كما هو الحال مع السرقة مثلا، ويجوز قراءة جزء السورة في الصلاة، ولا يقول بمغربَين فلكي وشرعي بل بمغرب واحد يتوحد الفلكي والشرعي فيه بظاهرة سقوط القرص من الأفق، ويحرم التطبير والشعائر الدموية العنيفة المؤذية للجسم وللذوق العام ولسمعة الإسلام والتشيع.
وله نظرات رائعة في قضايا المرأة وقضايا الشباب، ويعطي فهما للعصمة يوفق فيه بين السمو الذهني والروحي للمعصوم وحقيقة عدم خروجه عن طبيعيته البشرية، وفي السياسة طرح جمهورية الإنسان بدلا من الجمهورية الإسلامية التي طرحت في الثمانينات من قبل منتظري للبنان. لكن عقدته المستحكمة ضد أمريكا جعلته في قضايا كقضية العراق لا يختلف كثيرا في موقفه عن موقف إيران وحزب الله والأحزاب الأصولية السنية والخط العروبي. وفي الديمقراطية يقول بكل مضامينها ولكن من الغريب أنه يستشكل استخدام مصطلح الديمقراطية كمشروع حضاري يحل إشكالية الاختلاف، ويقر بجواز القبول بها ولا يحب للإسلاميين أن يكونوا دعاة لها، وراح في بدايات ما بعد سقوط الديكتاتورية في العراق ينظر لشرعية المقاومة ولاشرعية مجلس الحكم إلى غير ذلك من المواقف الحادة والمتشددة. وهذا ما يؤسف له، لأنه فوت فرصة تقديم نموذج لمرجع عقلاني معتدل ومنفتح على آليات العصر.
محمد مهدي الشيرازي :
أول ظهوره كان في كربلاء، حيث طرح نفسه للمرجعية، وذهب البعض ليستفسر من مراجع النجف عن اجتهاده، فأجابوا بالنفي حينئذ. ولا نريد أن نتوقف عند هذه النقطة، فلعله بلغ درجة الاجتهاد فيما بعد. أتباعه كانوا يعرفون بالشيرازية. الشيرازي ينتمي إلى مجموعة العلماء الذين يتبنون الشعائر الحسينية من غير أي قيود، بل يروجون للتطبير وغيرها من الشعائر العنيفة والدموية، ويشجعون عليها وينظرون لشرعيتها، لا على مستوى الإباحة فحسب، بل على مستوى القول برجاحتها الشرعية، أي اعتبارها من المندوبات أي المستحبات. كما يتبنون الولاية التكوينية للمعصومين، أي قدرتهم على التصرف بالكون بقول كن فيكون، ولكن ليس على نحو الاستقلال عن الإرادة الإلهية. وهذا الفريق من العلماء ينقسمون إلى قسمين، منهم من يحرم العمل السياسي في عصر الغيبة، ويعتبرون التصدي للشأن السياسي من شأن المعصوم حصرا، كما كان الأمر مع محمد الروحاني في إيران.
ومنهم من يرى وجوب التصدي للشأن السياسي، كما هو الحال مع محمد الشيرازي. وقد اختلف الشيرازي مع الثورة الإسلامية الإيرانية، وطرح في مقابل نظرية الخميني في ولاية الفقيه نظرية شورى الفقهاء، التي تعتبر صيغة أكثر ديمقراطية من ولاية الفقيه، بتحويل الولاية من فقيه واحد فقط إلى مجموعة من الفقهاء يشكلون شورى لقيادة الأمة. إذن الشيرازي وأتباعه يمكن اعتبارهم سياسيا أكثر مرونة وليبرالية، ولكنهم متطرفون من جهة أخرى في العقائد وفي الشعائر، ويتبنون إقامة الدولة الإسلامية، كل ما في الأمر على أساس نظرية شورى الفقهاء في الحكم. والشيرازي لم يكن صاحب فكر معتبر، بل طرحه كان يتسم بالبساطة والسطحية، وإن كانت فكرة شورى الفقهاء تمثل من حيث المبدأ خطوة متقدمة على فكرة ولاية الفقيه.
علي السيستاني :
كان طوال حقبة الديكتاتورية بعيدا كل البعد عن الشأن السياسي، ولم يعرف عنه موقف واحد يدل على إدانته للديكتاتورية ولو في مجالس الثقاة الخاصة، بل عرف عنه إدانته لانتفاضة 1991. وبرز دوره بعد السقوط وقام بدور مشكور في التصدي لكثير من القضايا تجلت فيها العقلانية والوسطية، وأظهر حرصا على مصالح العراق عموما ومصالح الشيعة خصوصا، وأكد على الانفتاح على السنة التي طلب من الائتلافيين ألا ينعتوهم بإخوانهم بل بأنفسهم.
لكنه أسس – لا أدري هو أم ابنه محمد رضا - لسابقة خطيرة، وهي الرجوع إلى المرجع الديني في أمهات قضايا الأمة بل وفي جزئيات العملية السياسية أحيانا، وراح البعض من الائتلافيين يروجون لثقافة الغلو في المرجع وبأنه يجب أن يطاع حتى لو ألغى العملية السياسية كلها بما في ذلك الجمعية الوطنية والدستور والانتخابات وغيرها، فطاعته تتقدم على أي اعتبارات أخرى. ثم حتى مع الإقرار بصحة مواقفه، فلا ينبغي هذا أن نجعل صحتها أمرا مطلقا غير قابل للمناقشة أو الاعتراض. بل لعله من الصحيح أن نشكل عليه أنه هو الذي أنقذ التيار الصدري، دون أن ندعو والمعاذ بالله بتصفيته، ولكن نهايته كانت قاب قوسين أو أدنى وكان السيستاني هو المنقذ له، وهو الذي قوى شوكة القوى الإسلامية الأصولية المتشددة، ومنها المتطرفة، ومنها ذات الولاء الإيراني.
ثم حتى لو صحت مواقفه، فمن يضمن لنا ألا يأتي من بعده مرجع لا يتخذ الاعتدال منهجا ولا يؤمن بالعملية الديمقراطية باعتبارها تحكيم حاكمية الأغلبية في مقابل حاكمية الله، وماذا لو جاءنا مرجع يقول بالولاية المطلقة للفقيه التي يكون الاعتراض عليها اعتراضا على الحجة (ع)، والذي يكون الاعتراض عليه اعتراضا على الرسول (ص)، والذي يكون الاعتراض عليه اعتراضا على الله عز وجل. ثم إن السيستاني الذي غدت كلمته لا ترد، ولا يجرأ أحد على الاعتراض عليها، لم يوظف ذلك من أجل تقديم نصيحة هادئة بالابتعاد عن الشعائر الدموية والخرافية كالتطبير والزحف إلى مرقد الإمام على اليدين والرجلين وغيرها من الأمور. ثم ما معنى أن يكون هو صاحب الكلمة الفصل في أمهات القضايا وهو لا يرى ولا يظهر على الإعلام ولا يخرج إلى الناس مواجهة كما فعل الصدر الثاني في ظروف القهر والاستبداد فدفع ثمن ذلك حياته، مع ما قدمناه من ملاحظات على ما أسسه من تيار متطرف دفعنا ثمن تطرفه غاليا جدا.
فهل مع كل هذا من مصلحة العراق، وهل من مصلحة شيعة العراق، وهل من مصلحة شيعة كل العالم الإسلامي، وهل من مصلحة الإسلام، وهل من مصلحة شعوب العالم الإسلامي، وهل من مصلحة الإنسانية بالله عليكم أن نرهن مصير الأمة ومصير مستقبل العراق ومصير المشروع الديمقراطي ومصير السلام العالمي بيد (مراجعنا العظام) كما سماهم دستورنا العظيم؟
بغداد - 10/04/2006
راجع مقالات الكاتب على كتابات في 7، 17، 23، 25، 26، 27، 29/3، 4، 5، 6/4/2006 وكذلك على موقع عراق الغد بالبحث عن "عطاء منهل".