زهير
04-04-2006, 04:22 PM
د نجم عبد الكريم
نبوءات الأدباء فيما يطرحونه من آراء كثيراً ما لا تصدق خصوصاً عندما تتناول قضايا سياسية.. لكن نبوءة نجيب محفوظ عندما كان يكتب عن أخلاقيات صدّام حسين والنتائج التي تمخضت عنها تلك الأخلاقيات حيث أوصلته ـ كنتيجة منطقية ـ إلى ما هو عليه للوقوف أمام العدالة من وراء القضبان.. هذه النبوءة التي نحن بصددها تُرينا عُمق الرؤيا لدى نجيب محفوظ الذي له كتابات سياسية يتناول فيها الأحداث الآنية، تُظهر جانباً إبداعياً من اهتماماته، بالإضافة إلى كونه روائياً وقصّاصاً وكاتب سيناريو.
وقد تميز قلم نجيب محفوظ في كتاباته السياسية بحدة تشوبها حالات من الغضب والعنف والسخرية المرة، وأحياناً نجد محفوظ الروائي يتغلب على محفوظ السياسي، فتصطبغ مقالاته بالدراما السوداء وخاصة عندما يتحدث عن صدام حسين الذي كثيراً ما كان يتناوله بالتلميح حيناً وبالتصريح أحياناً.
بطل الترسو!!
ففي مقالة لنجيب محفوظ نُشرت في (21-2-1991) بعنوان (بطل الترسو) يشبه فيها صدام حسين بذلك البطل الشرير فيقول: " من الملاحظات المثيرة التي لا تخفى على عشاق السينما تحيز جمهور الترسو وإعجابه بالشرير إذا توفرت فيه الجرأة وقوة الحيلة والمهارة في الكرّ والفرّ، مما يهييء له انتصارات وقتية على رجال الشرطة قبل أن يقع في قبضتهم،وكثيراً ما انتحلنا الأعذار لذلك الجمهور لحداثة سنه، وسوء تربيته، واستعداده الذي لا حيلة له فيه للانحراف، وكراهيته للقانون وأهله".
ويسخر نجيب محفوظ قبل أن يدخل إلى صلب الموضوع بعد تلك المقدمة حيث يقول:
"وقد (عشنا وشفنا العجب) كما تقول الأغنية القديمة، عشنا لنسمع عن تحيز جمهور عربي لشرير عربي حقيقي، لا من خيال الأفلام، يتحدى العالم بانحرافه، حتى مرّغ سُمعة العرب في التراب. وتخطت ظاهرة الإعجاب هذه المرة الأَحداثَ إلى رجال يعدّون من صفوة المجتمع وأبنائه الراشدين، وهم الذين يشجعون اليوم صدّاماً، ويدافعون عن انحرافاته غير مبالين بضحاياه من الدول والبشر والمبادىء".
ويضيف محفوظ في نفس المقالة:
" صدام حسين، أهدر برعونته وجنونه كل خيرات العراق، مرةً في الانقضاض على وطنٍ إسلامي، وأخرى في ابتلاع وطنٍ عربي، وإنه بسوء تقديره واندفاعه المَرَضي، شقّ العربَ نصفين، وزلزل أمتهم، ودعا العالم كله إلى إدانته وتأديبه، وكرّس ذاته عاملاً من عوامل الدمار كالزلازل والبراكين.
إنه صورة قبيحة تعمل خارج نطاق العالم الحديث وآماله وتطلعاته الطيبة، إنه يتباهى بأسلحة الدمار الشامل ويلوث البيئة وينشر الدمار في منطقته القومية بدون مبالاة بأي مسؤولية أو قيمة بشرية. وبفضل إعجاب جمهور (الترسو) الحديث، صارت الصورة القبيحة رمزاً للعرب والمسلمين، وغير خافٍ ما يلاقونه في بلاد الحضارة من سوء المعاملة والازدراء.. وما زالت الجهود تبذل لإنقاذ المجرم، وتبرير الجريمة على حساب الأبرياء المظلومين، والقيم الشريفة، على حين أنه لم يبق لنا من عزاء وسط الأحزان والمآسي، إلا أن تنتهي الكارثة بنصرة الحق والعدل والقيم البشرية الشريفة".
رئيس لكل العصور!!
وفي (10-1-1991) كتب نجيب محفوظ متسائلاً:
" كيف يتحدى صدام حسين إرادة العالم بهذه الصورة المستفزة؟!.. لعل هذا ما أغرى البعض بتصور تمثيلية مرسومة. وأنه يلعب الدور المتفق عليه، وهو على أتم ما يكون من الطمأنينة.
وهذا التصور إن جاز أن يُقبل بين دولتين، فمن الصعب قيامه بين دولة والعالم كله، فضلاً عن ذلك فإن التمثيلية (المزعومة) اقتضت تحريك جيوش ومعدات لم يعهدها العالم إلا في حروبه الكبرى".
ويضيف في مكانٍ آخر من نفس المقالة:
" وإذن فالنزاع جدّ لا هزل ولا تمثيلية، ولنسأل من جديد عن موقف صدام المتحدى للإدارة العالمية، ولنستبعد أيضاً فروض الجنون وما يلحق به من أعراض الاستبداد، فالرجل يُحاور ويُداور، ويحتمي بمهارة بقضايا المنطقة وثرواتها، ولا يرفض السلام، ويطالب بالمفاوضة، ويُحمّل خصومه مسؤولية العواقف الوخيمة.
الذي أتصوره ـ والله أعلم ـ أن الرجل ما زال يتعامل مع العالم الذي نشأ فيه وتمرس بأساليبه، وحفظ قاموسه وحيله، ولم يصدق بعد أن الدنيا تتغير إلى حياة جديدة.
لقد كان العالم القديم غابة مملوءة بالشعارات الجميلة والنيات الخبيثة والأفعال الإجرامية، وشاء حظ الرئيس العراقي أن يكون سلوكه (التقليدي) أول اختبار للعالم الحديث الرافض لكل ما كان سائداً من شعارات الماضي.
فعلى الرئيس العراقي أن يدرك ذلك وأن يذعن للمشيئة العالمية فينقذ وطنه العراقي وأمته العربية".
اعترافات نصف الليل!!
في هذه المقالة تتغلب عناصر الدراما والتصوير القصصي على المقالة السياسية مما يضفي عليها بعداً وصفياً، وقد كتبها في تاريخ (24-1-1991)، يقول نجيب محفوظ في مقالة اعترافات نصف الليل، والتي يأتي فيها على نعت الرئيس العراقي بشتى الأوصاف الشريرة:
" تحت راية الأمل الخفاقة تمر سحب معتمة من القلق والهواجس، ولكن المستند إلى صخرة المبادىء لا يجوز عليه الخوف، فهو يعرف طريقه، ويرضى عن مصيره، وقد تمخض الموقف عن صورة مأساوية غريبة، صورة العالم يحاصر مخزناً للبارود يقوده رجل شرير.. لم أستطع أن أقول أنه رجل مجنون، إذ أن المجنون لا يعي شيئاً، ولا يبالي بشيء، على حين أن رجلنا ما زال يعى بأنانيته، وقد أدرك أنه فجّر جحيماً في أركان وطنه الطيب فهرّب من نيرانه أسرته وأبناءه، غير مبالٍ بشعبه الذي يعاني صباح مساء، والذي نشاركه آلامه وأحزانه.
.. ذلكم هو صدام حسين الذي يحارب، لا أملاً في انتصار، ولكن طمعاً في نشر الدمار والخراب والفوضى، كي تبلغ أقصى ما يمكن أن تبلغه من البلاد الآمنة، وتهلك أكثر ما يمكن أن تهلكه من الأنفس البريئة، ما أشبه عمله بعمل إبليس الذي يفعل ما يستطيع وفوق ما يستطيع من شر دونما أدنى أمل في الخلاص".
ثم يدعو نجيب محفوظ في نفس المقالة إلى القضاء على صدام حسين:
" يجب القضاء عليه سريعاً لحصر خسائرنا وآلامنا في أضيق دائرة من سوء الحظ والتعاسة".
ويسترسل محفوظ في نفس المقالة فينحى باللائمة على أولئك الذين يدبجون القصائد الشعرية والمقالات التي تضخم وتورم الذات الصدامية فيقول:
" ولنذكر في مأساتنا أننا نكابد ما نكابد جزاء ضعفنا وتدهورنا وتفريطنا في كرامتنا، دون حاجة إلى مكيدة أو سيناريو من الأشباح العالمية.
نحن الذين نخلق الأصنام ونعبدها، ونُمكّنها من العبث بمصائرنا..
إن فينا من تفتنه القوة ولو حادت عن الحق والشرف، وفينا من يرحب بالغزو إن أنِسَ منه خيراً لنفسه، وفينا من يفرح للسرقة إذا آمل أن ينال حظاً منها، وفينا.. وفينا.. وفينا، مما جعلنا مستودعاً للخرافات والانتهازية والأمراض العقلية".
المأساة!!
في هذه المقالة لم يسبق للقارىء العربي أن قرأ نعوتاً وأوصافاً يتدفق فيها نجيب محفوظ بوصف الرئيس العراقي المخلوع حيث يقول:
" ومن هو صدام حسين؟.. إنه رجل لا يخلو من قوة ذاتية، ولمسات من سحر الزعامة، ولكنه جاهل على المستويين، المدني والعسكري، طموح، أناني، دموي كفرد، طاغية، لا يطيق رأياً مخالفاً، أو شخصاً ذا استقلالٍ وقوة، وقد تولى شؤون العراق وهي تتقدم بخطى ثابتة، فزادها تقدماً، حتى تنبأ له كثيرون بمستقبل عظيم، وإذا بالطاغية يدفع بها إلى حرب إيران، مستهتراً بكل المبادىء الإسلامية، ويحيلها إلى أمة مدينة مثخنة بالجراح، ثم يدفعها مرة أخرى إلى التهام الكويت، مستهيناً بالمبادىء العربية والشرعية.. وتتابعت فصول المأساة، ووضح أنه (جعجاع)، قليل الأدب، سيء الرأي والسلوك، لصّ، غادر، يعبث بالرهائن والأسرى، يعتدي على المدنيين، يلوث البيئة، يحرق آبار البترول.... إنه بإيجاز.. أقبح وجه عربي، وأسوأ عنوان، وشرُّ مَثَل..
كيف وُجد هذا الكائن المرذول؟!!.. من يشايعه؟!! أو يتبعه؟!.. أو يتعاطف معه؟!".
هذه المقالة كتبها محفوظ في (4-3-1991)
انتحار زعامة!!
وعندما عبّرت الجماهير العراقية عن سخطها وغضبها، فتفجرت انتفاضة عارمة شملت معظم أنحاء العراق، تأثر نجيب محفوظ بتلك الانتفاضة الشعبية وتفاعل معها فكتب في (8-4-1991) مقالته (انتحار زعامة):
" قامت في العراق ثورة شعبية شاملة، لكن الطاغية قضى عليها من خلال معركة غير متكافئة وغير إنسانية، لكن الثورة نجحت في الإطاحة بزعامة صدام حسين وتركته حطام طاغية، يقوم حكمه على دعائم السلاح والدم والقهر والكراهية، تلاشى صدام وأسماؤه الحسنى، وأساطيره وأوهامه، ولم يبقى منه إلا الحقيقة البشعة العارية.
وثبت أن الطاغية يملك قوة مجهزة بأحدث الأسلحة وإنه ضنّ بها على الدفاع عن وطنه، فيسّر لأعدائه نصراً سريعاً مذهلاً بلا خسائر تُذكر، معرضاً جيشه الرسمي لهزيمةٍ منكرة في أسوأ الظروف، أما قوته الحقيقية فلم يخرجها من قماقمها إلا للانقضاض على شعبه المعذب في معركة غير عادلة لم يراع فيها رحمة ولا وطنية ولا إنسانية، ليقيم في النهاية عرشاً على تلالٍ من جماجم الشهداء.
وكما دلَّت حوادث الحرب على غبائه، أبانت تحريات خصومه على خيانته للذمة والأخلاق، ففي ظل سيطرته، هُتكت أعراض، ونُهبت أموال، وهُرّبت مليارات إلى الخارج باسمه وباسم أفراد أسرته".
... ويختتم نجيب محفوظ مقالته التي أوجزتها قائلاً:
" حقاً إذا لم يُقدّم الطاغية ومعاونوه إلى محاكمة دولية، فلا معنى للحديث عن القيم في هذه الحياة".
مقالات متفرقة!!
وكتب نجيب محفوظ مقالة بعنوان (أماني عربية) يدعو فيها الرئيس العراقي أن ينتصر على جبروته الاستبدادي وهو رجوع أشرف من تراجعه أمام ما سيتعرض له من ضربات موجعة، وفيه إنقاذ لأمته العربية، ويضيف في مكانٍ آخر:
" إنه حلم غير مستحيل إذا استمع حاكم العراق إلى صوت العقل وتذكّر الدروس القريبة والبعيدة".
.. أما في مقالة (الدروس القاسية) فإن محفوظ يتحدث إلى صدام بالتلميح حيث يقول:
" الحكم الصالح يحتاج إلى ثقافة سياسية شاملة، ومعلومات وفيرة وحكمة رشيدة، وحذر محيط، وقد يتوافر ذلك في جو الديمقراطية والانفتاح على جميع الآراء، أما حكم الفرد، وبخاصة الفرد (الملتهم) فيصب دائماً في مستنقع الكوارث".
وفي مقالة لمحفوظ بعنوان (أعرف نفسك) ينحى فيها باللائمة على أولئك الذين يؤيدون سياسة صدام حسين، ووصفهم بمن تبهرهم القوة دون الاهتمام بمبادئها ويؤثرون المنفعة من أي طريق جاءت، ولا يبالون بالمبادىء والعهود، ويقول: إن هذه الصورة بعمومها لا تخلو من قبح، ولكنها أبعد ما تكون عن اليأس، فليس جميع مؤيدي صدام من تلك النوعية التي لا تخلو من منطق خاص وإن شابه بعض الانحراف.
أما في مقالة (المأساة بين الواقع والخيال) فإن نجيب محفوظ يورد العديد من الجرائم التي ارتكبها صدام حسين ويصفها في نهاية المقال:
" بأن ما حدث لنا في النهاية هو ثمرة رجل دموي طاغية له سابقة في الاندفاع إلى الحرب، وعليه شهادة دامغة بقصر النظر وسوء تقدير العواقب".
• وهذا ما أدى بصدام إلى مصير الحفرة.. وأدى بالعراق إلى الانهيار الدموي الذي يعيشه كل يوم...
والذين يتحسرون على أيام حكم صدام مقارنةً مع ما يجري الآن في العراق، أقول لهم: إن هذا لا يعني أن عهد صدام كان هو الأمثل للعراقيين وللعرب.. والنتيجة التي خلص إليها العراق الآن إنما هي بسبب سياسته الرعناء وديكتاتوريته التي أقسم هو نفسه ـ عندما استولى على دفة الحكم ـ أنه لن يترك العراق إلا حُطاماً.. فما يحدث للعراقيين الآن من قتل وتدمير وخراب ومواجهات طائفية وعرقية، كان من تخطيط صدام..
نبوءات الأدباء فيما يطرحونه من آراء كثيراً ما لا تصدق خصوصاً عندما تتناول قضايا سياسية.. لكن نبوءة نجيب محفوظ عندما كان يكتب عن أخلاقيات صدّام حسين والنتائج التي تمخضت عنها تلك الأخلاقيات حيث أوصلته ـ كنتيجة منطقية ـ إلى ما هو عليه للوقوف أمام العدالة من وراء القضبان.. هذه النبوءة التي نحن بصددها تُرينا عُمق الرؤيا لدى نجيب محفوظ الذي له كتابات سياسية يتناول فيها الأحداث الآنية، تُظهر جانباً إبداعياً من اهتماماته، بالإضافة إلى كونه روائياً وقصّاصاً وكاتب سيناريو.
وقد تميز قلم نجيب محفوظ في كتاباته السياسية بحدة تشوبها حالات من الغضب والعنف والسخرية المرة، وأحياناً نجد محفوظ الروائي يتغلب على محفوظ السياسي، فتصطبغ مقالاته بالدراما السوداء وخاصة عندما يتحدث عن صدام حسين الذي كثيراً ما كان يتناوله بالتلميح حيناً وبالتصريح أحياناً.
بطل الترسو!!
ففي مقالة لنجيب محفوظ نُشرت في (21-2-1991) بعنوان (بطل الترسو) يشبه فيها صدام حسين بذلك البطل الشرير فيقول: " من الملاحظات المثيرة التي لا تخفى على عشاق السينما تحيز جمهور الترسو وإعجابه بالشرير إذا توفرت فيه الجرأة وقوة الحيلة والمهارة في الكرّ والفرّ، مما يهييء له انتصارات وقتية على رجال الشرطة قبل أن يقع في قبضتهم،وكثيراً ما انتحلنا الأعذار لذلك الجمهور لحداثة سنه، وسوء تربيته، واستعداده الذي لا حيلة له فيه للانحراف، وكراهيته للقانون وأهله".
ويسخر نجيب محفوظ قبل أن يدخل إلى صلب الموضوع بعد تلك المقدمة حيث يقول:
"وقد (عشنا وشفنا العجب) كما تقول الأغنية القديمة، عشنا لنسمع عن تحيز جمهور عربي لشرير عربي حقيقي، لا من خيال الأفلام، يتحدى العالم بانحرافه، حتى مرّغ سُمعة العرب في التراب. وتخطت ظاهرة الإعجاب هذه المرة الأَحداثَ إلى رجال يعدّون من صفوة المجتمع وأبنائه الراشدين، وهم الذين يشجعون اليوم صدّاماً، ويدافعون عن انحرافاته غير مبالين بضحاياه من الدول والبشر والمبادىء".
ويضيف محفوظ في نفس المقالة:
" صدام حسين، أهدر برعونته وجنونه كل خيرات العراق، مرةً في الانقضاض على وطنٍ إسلامي، وأخرى في ابتلاع وطنٍ عربي، وإنه بسوء تقديره واندفاعه المَرَضي، شقّ العربَ نصفين، وزلزل أمتهم، ودعا العالم كله إلى إدانته وتأديبه، وكرّس ذاته عاملاً من عوامل الدمار كالزلازل والبراكين.
إنه صورة قبيحة تعمل خارج نطاق العالم الحديث وآماله وتطلعاته الطيبة، إنه يتباهى بأسلحة الدمار الشامل ويلوث البيئة وينشر الدمار في منطقته القومية بدون مبالاة بأي مسؤولية أو قيمة بشرية. وبفضل إعجاب جمهور (الترسو) الحديث، صارت الصورة القبيحة رمزاً للعرب والمسلمين، وغير خافٍ ما يلاقونه في بلاد الحضارة من سوء المعاملة والازدراء.. وما زالت الجهود تبذل لإنقاذ المجرم، وتبرير الجريمة على حساب الأبرياء المظلومين، والقيم الشريفة، على حين أنه لم يبق لنا من عزاء وسط الأحزان والمآسي، إلا أن تنتهي الكارثة بنصرة الحق والعدل والقيم البشرية الشريفة".
رئيس لكل العصور!!
وفي (10-1-1991) كتب نجيب محفوظ متسائلاً:
" كيف يتحدى صدام حسين إرادة العالم بهذه الصورة المستفزة؟!.. لعل هذا ما أغرى البعض بتصور تمثيلية مرسومة. وأنه يلعب الدور المتفق عليه، وهو على أتم ما يكون من الطمأنينة.
وهذا التصور إن جاز أن يُقبل بين دولتين، فمن الصعب قيامه بين دولة والعالم كله، فضلاً عن ذلك فإن التمثيلية (المزعومة) اقتضت تحريك جيوش ومعدات لم يعهدها العالم إلا في حروبه الكبرى".
ويضيف في مكانٍ آخر من نفس المقالة:
" وإذن فالنزاع جدّ لا هزل ولا تمثيلية، ولنسأل من جديد عن موقف صدام المتحدى للإدارة العالمية، ولنستبعد أيضاً فروض الجنون وما يلحق به من أعراض الاستبداد، فالرجل يُحاور ويُداور، ويحتمي بمهارة بقضايا المنطقة وثرواتها، ولا يرفض السلام، ويطالب بالمفاوضة، ويُحمّل خصومه مسؤولية العواقف الوخيمة.
الذي أتصوره ـ والله أعلم ـ أن الرجل ما زال يتعامل مع العالم الذي نشأ فيه وتمرس بأساليبه، وحفظ قاموسه وحيله، ولم يصدق بعد أن الدنيا تتغير إلى حياة جديدة.
لقد كان العالم القديم غابة مملوءة بالشعارات الجميلة والنيات الخبيثة والأفعال الإجرامية، وشاء حظ الرئيس العراقي أن يكون سلوكه (التقليدي) أول اختبار للعالم الحديث الرافض لكل ما كان سائداً من شعارات الماضي.
فعلى الرئيس العراقي أن يدرك ذلك وأن يذعن للمشيئة العالمية فينقذ وطنه العراقي وأمته العربية".
اعترافات نصف الليل!!
في هذه المقالة تتغلب عناصر الدراما والتصوير القصصي على المقالة السياسية مما يضفي عليها بعداً وصفياً، وقد كتبها في تاريخ (24-1-1991)، يقول نجيب محفوظ في مقالة اعترافات نصف الليل، والتي يأتي فيها على نعت الرئيس العراقي بشتى الأوصاف الشريرة:
" تحت راية الأمل الخفاقة تمر سحب معتمة من القلق والهواجس، ولكن المستند إلى صخرة المبادىء لا يجوز عليه الخوف، فهو يعرف طريقه، ويرضى عن مصيره، وقد تمخض الموقف عن صورة مأساوية غريبة، صورة العالم يحاصر مخزناً للبارود يقوده رجل شرير.. لم أستطع أن أقول أنه رجل مجنون، إذ أن المجنون لا يعي شيئاً، ولا يبالي بشيء، على حين أن رجلنا ما زال يعى بأنانيته، وقد أدرك أنه فجّر جحيماً في أركان وطنه الطيب فهرّب من نيرانه أسرته وأبناءه، غير مبالٍ بشعبه الذي يعاني صباح مساء، والذي نشاركه آلامه وأحزانه.
.. ذلكم هو صدام حسين الذي يحارب، لا أملاً في انتصار، ولكن طمعاً في نشر الدمار والخراب والفوضى، كي تبلغ أقصى ما يمكن أن تبلغه من البلاد الآمنة، وتهلك أكثر ما يمكن أن تهلكه من الأنفس البريئة، ما أشبه عمله بعمل إبليس الذي يفعل ما يستطيع وفوق ما يستطيع من شر دونما أدنى أمل في الخلاص".
ثم يدعو نجيب محفوظ في نفس المقالة إلى القضاء على صدام حسين:
" يجب القضاء عليه سريعاً لحصر خسائرنا وآلامنا في أضيق دائرة من سوء الحظ والتعاسة".
ويسترسل محفوظ في نفس المقالة فينحى باللائمة على أولئك الذين يدبجون القصائد الشعرية والمقالات التي تضخم وتورم الذات الصدامية فيقول:
" ولنذكر في مأساتنا أننا نكابد ما نكابد جزاء ضعفنا وتدهورنا وتفريطنا في كرامتنا، دون حاجة إلى مكيدة أو سيناريو من الأشباح العالمية.
نحن الذين نخلق الأصنام ونعبدها، ونُمكّنها من العبث بمصائرنا..
إن فينا من تفتنه القوة ولو حادت عن الحق والشرف، وفينا من يرحب بالغزو إن أنِسَ منه خيراً لنفسه، وفينا من يفرح للسرقة إذا آمل أن ينال حظاً منها، وفينا.. وفينا.. وفينا، مما جعلنا مستودعاً للخرافات والانتهازية والأمراض العقلية".
المأساة!!
في هذه المقالة لم يسبق للقارىء العربي أن قرأ نعوتاً وأوصافاً يتدفق فيها نجيب محفوظ بوصف الرئيس العراقي المخلوع حيث يقول:
" ومن هو صدام حسين؟.. إنه رجل لا يخلو من قوة ذاتية، ولمسات من سحر الزعامة، ولكنه جاهل على المستويين، المدني والعسكري، طموح، أناني، دموي كفرد، طاغية، لا يطيق رأياً مخالفاً، أو شخصاً ذا استقلالٍ وقوة، وقد تولى شؤون العراق وهي تتقدم بخطى ثابتة، فزادها تقدماً، حتى تنبأ له كثيرون بمستقبل عظيم، وإذا بالطاغية يدفع بها إلى حرب إيران، مستهتراً بكل المبادىء الإسلامية، ويحيلها إلى أمة مدينة مثخنة بالجراح، ثم يدفعها مرة أخرى إلى التهام الكويت، مستهيناً بالمبادىء العربية والشرعية.. وتتابعت فصول المأساة، ووضح أنه (جعجاع)، قليل الأدب، سيء الرأي والسلوك، لصّ، غادر، يعبث بالرهائن والأسرى، يعتدي على المدنيين، يلوث البيئة، يحرق آبار البترول.... إنه بإيجاز.. أقبح وجه عربي، وأسوأ عنوان، وشرُّ مَثَل..
كيف وُجد هذا الكائن المرذول؟!!.. من يشايعه؟!! أو يتبعه؟!.. أو يتعاطف معه؟!".
هذه المقالة كتبها محفوظ في (4-3-1991)
انتحار زعامة!!
وعندما عبّرت الجماهير العراقية عن سخطها وغضبها، فتفجرت انتفاضة عارمة شملت معظم أنحاء العراق، تأثر نجيب محفوظ بتلك الانتفاضة الشعبية وتفاعل معها فكتب في (8-4-1991) مقالته (انتحار زعامة):
" قامت في العراق ثورة شعبية شاملة، لكن الطاغية قضى عليها من خلال معركة غير متكافئة وغير إنسانية، لكن الثورة نجحت في الإطاحة بزعامة صدام حسين وتركته حطام طاغية، يقوم حكمه على دعائم السلاح والدم والقهر والكراهية، تلاشى صدام وأسماؤه الحسنى، وأساطيره وأوهامه، ولم يبقى منه إلا الحقيقة البشعة العارية.
وثبت أن الطاغية يملك قوة مجهزة بأحدث الأسلحة وإنه ضنّ بها على الدفاع عن وطنه، فيسّر لأعدائه نصراً سريعاً مذهلاً بلا خسائر تُذكر، معرضاً جيشه الرسمي لهزيمةٍ منكرة في أسوأ الظروف، أما قوته الحقيقية فلم يخرجها من قماقمها إلا للانقضاض على شعبه المعذب في معركة غير عادلة لم يراع فيها رحمة ولا وطنية ولا إنسانية، ليقيم في النهاية عرشاً على تلالٍ من جماجم الشهداء.
وكما دلَّت حوادث الحرب على غبائه، أبانت تحريات خصومه على خيانته للذمة والأخلاق، ففي ظل سيطرته، هُتكت أعراض، ونُهبت أموال، وهُرّبت مليارات إلى الخارج باسمه وباسم أفراد أسرته".
... ويختتم نجيب محفوظ مقالته التي أوجزتها قائلاً:
" حقاً إذا لم يُقدّم الطاغية ومعاونوه إلى محاكمة دولية، فلا معنى للحديث عن القيم في هذه الحياة".
مقالات متفرقة!!
وكتب نجيب محفوظ مقالة بعنوان (أماني عربية) يدعو فيها الرئيس العراقي أن ينتصر على جبروته الاستبدادي وهو رجوع أشرف من تراجعه أمام ما سيتعرض له من ضربات موجعة، وفيه إنقاذ لأمته العربية، ويضيف في مكانٍ آخر:
" إنه حلم غير مستحيل إذا استمع حاكم العراق إلى صوت العقل وتذكّر الدروس القريبة والبعيدة".
.. أما في مقالة (الدروس القاسية) فإن محفوظ يتحدث إلى صدام بالتلميح حيث يقول:
" الحكم الصالح يحتاج إلى ثقافة سياسية شاملة، ومعلومات وفيرة وحكمة رشيدة، وحذر محيط، وقد يتوافر ذلك في جو الديمقراطية والانفتاح على جميع الآراء، أما حكم الفرد، وبخاصة الفرد (الملتهم) فيصب دائماً في مستنقع الكوارث".
وفي مقالة لمحفوظ بعنوان (أعرف نفسك) ينحى فيها باللائمة على أولئك الذين يؤيدون سياسة صدام حسين، ووصفهم بمن تبهرهم القوة دون الاهتمام بمبادئها ويؤثرون المنفعة من أي طريق جاءت، ولا يبالون بالمبادىء والعهود، ويقول: إن هذه الصورة بعمومها لا تخلو من قبح، ولكنها أبعد ما تكون عن اليأس، فليس جميع مؤيدي صدام من تلك النوعية التي لا تخلو من منطق خاص وإن شابه بعض الانحراف.
أما في مقالة (المأساة بين الواقع والخيال) فإن نجيب محفوظ يورد العديد من الجرائم التي ارتكبها صدام حسين ويصفها في نهاية المقال:
" بأن ما حدث لنا في النهاية هو ثمرة رجل دموي طاغية له سابقة في الاندفاع إلى الحرب، وعليه شهادة دامغة بقصر النظر وسوء تقدير العواقب".
• وهذا ما أدى بصدام إلى مصير الحفرة.. وأدى بالعراق إلى الانهيار الدموي الذي يعيشه كل يوم...
والذين يتحسرون على أيام حكم صدام مقارنةً مع ما يجري الآن في العراق، أقول لهم: إن هذا لا يعني أن عهد صدام كان هو الأمثل للعراقيين وللعرب.. والنتيجة التي خلص إليها العراق الآن إنما هي بسبب سياسته الرعناء وديكتاتوريته التي أقسم هو نفسه ـ عندما استولى على دفة الحكم ـ أنه لن يترك العراق إلا حُطاماً.. فما يحدث للعراقيين الآن من قتل وتدمير وخراب ومواجهات طائفية وعرقية، كان من تخطيط صدام..