زوربا
04-04-2006, 03:17 PM
http://www.aawsat.com/01common/teamimages/328-mashari.gif
مشاري الذايدي
كتب الدكتور احمد البغدادي الأسبوع الماضي مطالبا بـ: المثقف الشجاع ، لا الفقيه الشجاع.
الكاتب الكويتي المصنَّف بأنه من عتاة الليبراليين، لدى خصومه، طالب بذلك في مقاله المنشور في صحيفة «الاتحاد» الظبيانية (28 مارس المنصرم)، معقبا على ما كتبته في هذه الصحيفة (14 مارس) بعنوان: «بانتظار فقيه شجاع».
وكان خلاصة ما قلته إننا نحتاج الى فقهاء شجعان لا يخضعون لإرهاب الجمهور او قادة الاصوليين او برامج السلطات الحاكمة المختلفة، فقهاء يقولون اجتهاداتهم الجريئة في كل مجالات الفقه، من فقه المرأة الى فقه الجهاد الى فقه الحدود والعقوبات، ومثلت بالشيخ جمال البنا وبالشيخ محمد ابو زهرة، الذي قال إن عقوبة رجم الزاني كانت في اول الاسلام لكنها نسخت بالكامل.
الدكتور البغدادي يرى أن وجود فقيه شجاع صعب المنال، وقال: «ما فات الذايدي أن دعواه بقيام فقيه شجاع هي البلاء بحد ذاته لأسباب عدة، منها أن هذه الدعوة مستحيلة على أرض الواقع؛ ألا تراهم وقد زينوا الحق بالباطل»، ثم ضرب امثلة على ما اعتبره مداهنات الفقهاء للحكام، وتساءل:«فمن أين تؤاتي كبراءهم الشجاعة لاتخاذ موقف بطولي كما يطالب الذايدي؟».
ويبدي البغدادي السبب الآخر من خلال تشاؤمه من ظهور هذا الفقيه اصلا، بسبب الخوف عليه من تسلط «الغوغاء وحراس التقليد». وأخيرا يورد البغدادي سببا مختلفا هوع السبب الجوهري لديه، حسبما أرى، وهو أنه:«ما الفائدة من الحديث في الموضوعات الدينية إذا كنا ندور في الحلقة المفرغة، بالعودة لكتب السابقين الصفراء، التي أصبحت من المقدسات ولا يجوز المساس بها؟».
اذن فإلى من تكون الحاجة الحقيقية ؟! يقول البغدادي:«العالم ليس بحاجة لأي فقيه، قدر حاجته للمثقف الشجاع الذي يملك الإرادة الحقيقية لمواجهة الاستبداد الديني للفقهاء، والاستبداد السياسي للأنظمة السياسية».
وقبل ان اناقش فكرة الاهمية بين المثقف والفقيه في المثال العربي، فقط أُلمِعُ الى ان البغدادي كاتب وباحث معروف بصراحته ومعاركه مع خصومه من القوى الاصولية، وكان آخرها أزمته مع القضاء الكويتي التي تعرض لها بعد اتهامه من قبل البعض بالإساءة للدين، حينما نشر مقالا في شهر يونيو 2005 عن التعليم الديني في الكويت. رأى خصومه انها هرطقة تستدعي معاقبة كاتبها، وقال البغدادي حينها انه قد يغادر البلد الذي لا يتسع للرأي الاخر. هذا الكاتب، ويا للمفارقة، تميز بكتاباته النقدية التي تشتغل على المجال الفقهي والتراثي.
لكنه في مقاله الذي نذكره هنا أغمض الحل اكثر مما اشرع الطريق اليه، ولم يكشف طبيعة الخلل الذي اصاب الحياة العربية. وساقتصرعلى شاهد واحد من شواهد الغموض الذي اعنيه في مجادلة البغدادي، الذي يلغي الحاجة للفقيه، مطالبا بدور للمثقف. الغموض الذي اشير اليه، هو تشوش مصطلح المثقف نفسه في السياق العربي، فإذا كنا نطلب تقدم دور المثقف على الفقيه، حتى ولو كان شجاعا، فإن من ابسط الاشياء ان ندرك تعريف هذا الكائن الاجتماعي، خصوصا ان مصطلح «مثقف» حديث الدخول على القاموس العربي السياسي والاجتماعي، بل إن بعض الباحثين العرب يعتقد أن هناك أزمة حقيقية تكمن في العجز عن تبْيئة هذا المصطلح في الميراث والذهن العربي، وأنه مازال خارج «التداول» المفاهيمي العربي، وإن كان «متاخماً له»، حسب رأي المفكر المغربي محمد عابد الجابري. أو كما يقول الناقد اليساري ناجي علوش، مستعرضا أزمة مفهوم المثقف في المجال العربي، بعدما ذكر ان المثقف هو واحد من «الانتلجنسيا» الفاعلة حسب سياقها التاريخي الغربي، أن:«هذا التعريف يضعنا أمام إشكال، لأن الإنتلجنسيا لم تتكون في وطننا، كما تكونت في روسيا أو أوروبا. فلم يحدث عندنا عصر تنوير، ولا عصر ثورة علمية، ولا ثورة برجوازية تحررية على الإقطاع والكنيسة. وكل ما حدث عندنا، منذ الحملة الفرنسية 1789، وحتى الآن، لا يعدو أن يكون اتجاهاً إصلاحياً توفيقياً، استند إلى التراث حيناً، وإلى الثقافة الأوروبية حيناً، وإلى الاثنين معاً في بعض الأحيان، وانعكس هذا في الثقافة ضعيفاً مهزوزاً» ..(لؤي صافي مع أحمد موصلي في «سلسلة حوارات لقرن جديد : جذور أزمة المثقف في الوطن العربي»).
نعم، هناك أزمة حقيقية، تنبه لها كثير من النقاد العرب، في تلمس ملامح ودور وطبيعة وتعريف المثقف العربي، هذه الازمة جزء من ازمة اشمل، هي التداخل المشوه الذي حدث بين الوضع الثقافي والاجتماعي العربي الخاص والوضع الغربي ، ولسنا هنا نتحدث عن الخصوصية التي يتحجج بها أهل الجمود والامتناع عن التحديث، بل نعني شيئا آخر مختلفا عن هذا.
هناك جدل طويل عريض، وكلام غزير عن سياق ولادة مفهوم المثقف الفاعل الناقد والصانع للحالة الاجتماعية، وهناك ايضا جدل ما بين ناقدي مفهوم المثقف حسبما هو اتجاه نقاد مثل فوكو وغيره، ممن يرون أن المثقف الذي كان ينتج الافكار ويشرح القيم وينقد الاوضاع، ليس الا مثقفا يسعى لاستخدام تميزه المعرفي كسلاح قوة في يده من اجل تحقيق نفوذه، وأن تفكيك هذا المثقف هو واجب نقدي لفضح تناقضاته الداخلية ومحركاته الحقيقية، من اجل ذلك ولد في المشهد النقدي الاوروبي المعاصر نقد الحداثة، او موجة «ما بعد الحداثة» كما قيل، وصار الفيلسوف الالماني «هابرماس» ممثل الاتجاه الكلاسيكي المنتصر لقيم التنوير الاوروبي، طرفا ضد نقاد ما بعد الحداثة. غير ان كل هذا جدل أوربي خاص جدا، وقد حاول الاستفادة منه بعض الاستغلاليين العرب للقول إن الحداثة الاوربية سيئة وعليلة، بدليل ما قاله «قومها»... بعض الكتاب العرب تحمس لنقد وتفكيك مفهوم المثقف، واشهرهم علي حرب الذي كتب (أوهام النخبة أو نقد المثقف)، منتقدا مفهوم المثقف، انطلاقا من تلك الخلفية، وفرح بذلك بعض الكتاب ذوي النزعة المحافظة، لكن ذلك، حسبما يرى نقاد آخرون، نوع من إدخال الحالات المتباينة على بعضها، وهذا كما يقول اسلافنا لون من «القياس مع الفارق» وهو من القياسات الفاسدة.
ازمة المثقف العربي، اذا تجاوزنا مشكلة وجود مقر او «دكانة» له في حارة العرب، هي مشكلة قلق الهوية وأزمة الدور، انها أزمة، كما يقول لؤي صافي، «ترتبط مباشرة بغياب الرؤية الأصيلة التي تدفع صاحبها للنظر إلى الأشياء من موقعه الزماني والمكاني»، ومن ثم فمن العبث اعتماد نقد يقوده مفكرو ما بعد الحداثة الفرنسيون لمشروع الأنوار الغربي، ثم استخدامه لتفكيك مشروع (أنوار) عربي لم ير النور بعد!
إذن نحن امام مشكلات مركبة تعترض طريق المثقف العربي بداية من تعريفه، مرورا بدوره، ونهاية بمرجعيته وشرعيته. لكن كل هذه المشكلات غير موجودة في حالة «الفقيه»، فهو مصطلح اصيل، ومرجعيته النظرية تامة ومكتملة، وصورته في الذاكرة التاريخية واضحة جدا، ورصيد الإلفة والتواصل معه رصيد كبير وعتيق.
حتى الآن، والى أجل غير مسمى، سيبقى رهان التغيير والتحديث، في عالمنا العربي، مشروطا، في جانب كبير منه، بالاحتماء بعباءة الفقيه. وتعطل التغيير والتحديث في العالم العربي هو معقد البلاء ومنبع الداء.
نحتاج للوضوح في هذه المسالة: من يعرف من الجمهور العربي او حتى من طبقة المتعلمين، من غالبية الدكاترة والمحامين والاطباء والمهندسين العرب، مَنْ من هؤلاء يعرف من هو المثقف وما معنى ثقافة ؟! غير الصورة الكاريكاتورية للمثقف الذي يهذر كثيرا ويتحدث في كل شيء، وينظّر في كل شيء، ويقول كلاما مخيفا في السياسة، ويلوك مصطلحات «افرنجية» غامضة ؟! لكن هل يجهل احد منهم الشعراوي، او القرضاوي، او ابن باز وابن عثيمين، او السيستاني؟
يجب ان نعرف قدرنا، نحن نعيش زمنا واحدا مع العالم الغربي، وتشرق علينا الشمس ذاتها ربما، وقد يعيش بعضنا في عواصمهم، ولكن الحقيقة اننا نعيش زمنين مختلفين، اننا لا نخضع لذات الشروط التي يخضعون لها. ودور المثقف الذي يطالب به البغدادي، او غيره، له معنى كبير في سياقهم الغربي، خصوصا ان المثقف هناك، بالمعنى الواسع لكلمة مثقف: الشاعر والكاتب والفنان ...الخ، هذا المثقف يساهم في صنع اللحظة ان لم يكن هو موجه الدفة الاساسي عبر تشكيل قوة رأي عام، وعبر إحراجاته المتتالية للضمير الاخلاقي عند شعوره بانحراف القطار عن القيم المعيارية الحاكمة.
لكن ماذا عنا نحن ؟! اذا كان حتى الفقيه الشجاع، الذي هو جزء اصيل منا، ومحدد التعريف، لا لبس فيه ولا غموض في ثقافتنا ووجداننا، حتى هذا الفقيه اذا ما اراد ان يكون شجاعا ويبشر بفقه جديد متحرر ازاء المرأة والآخر ، ويقدم اجتهادات جريئة في الاحكام، يجابه، باعتراف البغدادي، بالحرب والتشويه... وتخذله في كثير من الاحيان الحكومة العربية والاسلامية؟ فاذا كان هذا هو وضع الفقيه بجلالته وشرعيته فكيف بالمثقف «الغلبان»؟!
ما زلنا في أول الطريق، أو قل ما زلنا نحبو، و«رحم الله امرءا عرف قدر نفسه» ولذلك دعونا نكتشف طريقنا بأنفسنا. صحيح أن الطريق سيكون اطول مما نريد، ولكن لا بأس، فنحن مرغمون على «تقسيط النقد» حتى تجري الحياة شيئا فشيئا في العروق اليابسة ... والحاجة هي لكل من يشعل مصباحا نقديا في هذا الليل... ولم تعط المصابيح إلا للعلماء والفقهاء، أو «مصابيح الدجى»، كما هو وصفهم التراثي... أليس كذلك ؟!
mshari@asharqalawsat.com
مشاري الذايدي
كتب الدكتور احمد البغدادي الأسبوع الماضي مطالبا بـ: المثقف الشجاع ، لا الفقيه الشجاع.
الكاتب الكويتي المصنَّف بأنه من عتاة الليبراليين، لدى خصومه، طالب بذلك في مقاله المنشور في صحيفة «الاتحاد» الظبيانية (28 مارس المنصرم)، معقبا على ما كتبته في هذه الصحيفة (14 مارس) بعنوان: «بانتظار فقيه شجاع».
وكان خلاصة ما قلته إننا نحتاج الى فقهاء شجعان لا يخضعون لإرهاب الجمهور او قادة الاصوليين او برامج السلطات الحاكمة المختلفة، فقهاء يقولون اجتهاداتهم الجريئة في كل مجالات الفقه، من فقه المرأة الى فقه الجهاد الى فقه الحدود والعقوبات، ومثلت بالشيخ جمال البنا وبالشيخ محمد ابو زهرة، الذي قال إن عقوبة رجم الزاني كانت في اول الاسلام لكنها نسخت بالكامل.
الدكتور البغدادي يرى أن وجود فقيه شجاع صعب المنال، وقال: «ما فات الذايدي أن دعواه بقيام فقيه شجاع هي البلاء بحد ذاته لأسباب عدة، منها أن هذه الدعوة مستحيلة على أرض الواقع؛ ألا تراهم وقد زينوا الحق بالباطل»، ثم ضرب امثلة على ما اعتبره مداهنات الفقهاء للحكام، وتساءل:«فمن أين تؤاتي كبراءهم الشجاعة لاتخاذ موقف بطولي كما يطالب الذايدي؟».
ويبدي البغدادي السبب الآخر من خلال تشاؤمه من ظهور هذا الفقيه اصلا، بسبب الخوف عليه من تسلط «الغوغاء وحراس التقليد». وأخيرا يورد البغدادي سببا مختلفا هوع السبب الجوهري لديه، حسبما أرى، وهو أنه:«ما الفائدة من الحديث في الموضوعات الدينية إذا كنا ندور في الحلقة المفرغة، بالعودة لكتب السابقين الصفراء، التي أصبحت من المقدسات ولا يجوز المساس بها؟».
اذن فإلى من تكون الحاجة الحقيقية ؟! يقول البغدادي:«العالم ليس بحاجة لأي فقيه، قدر حاجته للمثقف الشجاع الذي يملك الإرادة الحقيقية لمواجهة الاستبداد الديني للفقهاء، والاستبداد السياسي للأنظمة السياسية».
وقبل ان اناقش فكرة الاهمية بين المثقف والفقيه في المثال العربي، فقط أُلمِعُ الى ان البغدادي كاتب وباحث معروف بصراحته ومعاركه مع خصومه من القوى الاصولية، وكان آخرها أزمته مع القضاء الكويتي التي تعرض لها بعد اتهامه من قبل البعض بالإساءة للدين، حينما نشر مقالا في شهر يونيو 2005 عن التعليم الديني في الكويت. رأى خصومه انها هرطقة تستدعي معاقبة كاتبها، وقال البغدادي حينها انه قد يغادر البلد الذي لا يتسع للرأي الاخر. هذا الكاتب، ويا للمفارقة، تميز بكتاباته النقدية التي تشتغل على المجال الفقهي والتراثي.
لكنه في مقاله الذي نذكره هنا أغمض الحل اكثر مما اشرع الطريق اليه، ولم يكشف طبيعة الخلل الذي اصاب الحياة العربية. وساقتصرعلى شاهد واحد من شواهد الغموض الذي اعنيه في مجادلة البغدادي، الذي يلغي الحاجة للفقيه، مطالبا بدور للمثقف. الغموض الذي اشير اليه، هو تشوش مصطلح المثقف نفسه في السياق العربي، فإذا كنا نطلب تقدم دور المثقف على الفقيه، حتى ولو كان شجاعا، فإن من ابسط الاشياء ان ندرك تعريف هذا الكائن الاجتماعي، خصوصا ان مصطلح «مثقف» حديث الدخول على القاموس العربي السياسي والاجتماعي، بل إن بعض الباحثين العرب يعتقد أن هناك أزمة حقيقية تكمن في العجز عن تبْيئة هذا المصطلح في الميراث والذهن العربي، وأنه مازال خارج «التداول» المفاهيمي العربي، وإن كان «متاخماً له»، حسب رأي المفكر المغربي محمد عابد الجابري. أو كما يقول الناقد اليساري ناجي علوش، مستعرضا أزمة مفهوم المثقف في المجال العربي، بعدما ذكر ان المثقف هو واحد من «الانتلجنسيا» الفاعلة حسب سياقها التاريخي الغربي، أن:«هذا التعريف يضعنا أمام إشكال، لأن الإنتلجنسيا لم تتكون في وطننا، كما تكونت في روسيا أو أوروبا. فلم يحدث عندنا عصر تنوير، ولا عصر ثورة علمية، ولا ثورة برجوازية تحررية على الإقطاع والكنيسة. وكل ما حدث عندنا، منذ الحملة الفرنسية 1789، وحتى الآن، لا يعدو أن يكون اتجاهاً إصلاحياً توفيقياً، استند إلى التراث حيناً، وإلى الثقافة الأوروبية حيناً، وإلى الاثنين معاً في بعض الأحيان، وانعكس هذا في الثقافة ضعيفاً مهزوزاً» ..(لؤي صافي مع أحمد موصلي في «سلسلة حوارات لقرن جديد : جذور أزمة المثقف في الوطن العربي»).
نعم، هناك أزمة حقيقية، تنبه لها كثير من النقاد العرب، في تلمس ملامح ودور وطبيعة وتعريف المثقف العربي، هذه الازمة جزء من ازمة اشمل، هي التداخل المشوه الذي حدث بين الوضع الثقافي والاجتماعي العربي الخاص والوضع الغربي ، ولسنا هنا نتحدث عن الخصوصية التي يتحجج بها أهل الجمود والامتناع عن التحديث، بل نعني شيئا آخر مختلفا عن هذا.
هناك جدل طويل عريض، وكلام غزير عن سياق ولادة مفهوم المثقف الفاعل الناقد والصانع للحالة الاجتماعية، وهناك ايضا جدل ما بين ناقدي مفهوم المثقف حسبما هو اتجاه نقاد مثل فوكو وغيره، ممن يرون أن المثقف الذي كان ينتج الافكار ويشرح القيم وينقد الاوضاع، ليس الا مثقفا يسعى لاستخدام تميزه المعرفي كسلاح قوة في يده من اجل تحقيق نفوذه، وأن تفكيك هذا المثقف هو واجب نقدي لفضح تناقضاته الداخلية ومحركاته الحقيقية، من اجل ذلك ولد في المشهد النقدي الاوروبي المعاصر نقد الحداثة، او موجة «ما بعد الحداثة» كما قيل، وصار الفيلسوف الالماني «هابرماس» ممثل الاتجاه الكلاسيكي المنتصر لقيم التنوير الاوروبي، طرفا ضد نقاد ما بعد الحداثة. غير ان كل هذا جدل أوربي خاص جدا، وقد حاول الاستفادة منه بعض الاستغلاليين العرب للقول إن الحداثة الاوربية سيئة وعليلة، بدليل ما قاله «قومها»... بعض الكتاب العرب تحمس لنقد وتفكيك مفهوم المثقف، واشهرهم علي حرب الذي كتب (أوهام النخبة أو نقد المثقف)، منتقدا مفهوم المثقف، انطلاقا من تلك الخلفية، وفرح بذلك بعض الكتاب ذوي النزعة المحافظة، لكن ذلك، حسبما يرى نقاد آخرون، نوع من إدخال الحالات المتباينة على بعضها، وهذا كما يقول اسلافنا لون من «القياس مع الفارق» وهو من القياسات الفاسدة.
ازمة المثقف العربي، اذا تجاوزنا مشكلة وجود مقر او «دكانة» له في حارة العرب، هي مشكلة قلق الهوية وأزمة الدور، انها أزمة، كما يقول لؤي صافي، «ترتبط مباشرة بغياب الرؤية الأصيلة التي تدفع صاحبها للنظر إلى الأشياء من موقعه الزماني والمكاني»، ومن ثم فمن العبث اعتماد نقد يقوده مفكرو ما بعد الحداثة الفرنسيون لمشروع الأنوار الغربي، ثم استخدامه لتفكيك مشروع (أنوار) عربي لم ير النور بعد!
إذن نحن امام مشكلات مركبة تعترض طريق المثقف العربي بداية من تعريفه، مرورا بدوره، ونهاية بمرجعيته وشرعيته. لكن كل هذه المشكلات غير موجودة في حالة «الفقيه»، فهو مصطلح اصيل، ومرجعيته النظرية تامة ومكتملة، وصورته في الذاكرة التاريخية واضحة جدا، ورصيد الإلفة والتواصل معه رصيد كبير وعتيق.
حتى الآن، والى أجل غير مسمى، سيبقى رهان التغيير والتحديث، في عالمنا العربي، مشروطا، في جانب كبير منه، بالاحتماء بعباءة الفقيه. وتعطل التغيير والتحديث في العالم العربي هو معقد البلاء ومنبع الداء.
نحتاج للوضوح في هذه المسالة: من يعرف من الجمهور العربي او حتى من طبقة المتعلمين، من غالبية الدكاترة والمحامين والاطباء والمهندسين العرب، مَنْ من هؤلاء يعرف من هو المثقف وما معنى ثقافة ؟! غير الصورة الكاريكاتورية للمثقف الذي يهذر كثيرا ويتحدث في كل شيء، وينظّر في كل شيء، ويقول كلاما مخيفا في السياسة، ويلوك مصطلحات «افرنجية» غامضة ؟! لكن هل يجهل احد منهم الشعراوي، او القرضاوي، او ابن باز وابن عثيمين، او السيستاني؟
يجب ان نعرف قدرنا، نحن نعيش زمنا واحدا مع العالم الغربي، وتشرق علينا الشمس ذاتها ربما، وقد يعيش بعضنا في عواصمهم، ولكن الحقيقة اننا نعيش زمنين مختلفين، اننا لا نخضع لذات الشروط التي يخضعون لها. ودور المثقف الذي يطالب به البغدادي، او غيره، له معنى كبير في سياقهم الغربي، خصوصا ان المثقف هناك، بالمعنى الواسع لكلمة مثقف: الشاعر والكاتب والفنان ...الخ، هذا المثقف يساهم في صنع اللحظة ان لم يكن هو موجه الدفة الاساسي عبر تشكيل قوة رأي عام، وعبر إحراجاته المتتالية للضمير الاخلاقي عند شعوره بانحراف القطار عن القيم المعيارية الحاكمة.
لكن ماذا عنا نحن ؟! اذا كان حتى الفقيه الشجاع، الذي هو جزء اصيل منا، ومحدد التعريف، لا لبس فيه ولا غموض في ثقافتنا ووجداننا، حتى هذا الفقيه اذا ما اراد ان يكون شجاعا ويبشر بفقه جديد متحرر ازاء المرأة والآخر ، ويقدم اجتهادات جريئة في الاحكام، يجابه، باعتراف البغدادي، بالحرب والتشويه... وتخذله في كثير من الاحيان الحكومة العربية والاسلامية؟ فاذا كان هذا هو وضع الفقيه بجلالته وشرعيته فكيف بالمثقف «الغلبان»؟!
ما زلنا في أول الطريق، أو قل ما زلنا نحبو، و«رحم الله امرءا عرف قدر نفسه» ولذلك دعونا نكتشف طريقنا بأنفسنا. صحيح أن الطريق سيكون اطول مما نريد، ولكن لا بأس، فنحن مرغمون على «تقسيط النقد» حتى تجري الحياة شيئا فشيئا في العروق اليابسة ... والحاجة هي لكل من يشعل مصباحا نقديا في هذا الليل... ولم تعط المصابيح إلا للعلماء والفقهاء، أو «مصابيح الدجى»، كما هو وصفهم التراثي... أليس كذلك ؟!
mshari@asharqalawsat.com