yasmeen
03-31-2006, 04:46 PM
حسن شامي الحياة - 26/03/06//
ما هي حصيلة السنوات الثلاث لغزو العراق؟ كان هذا السؤال محور تقويمات وجردات حساب قدّمها، خلال الأيام الفائتة، مراقبون ومحلّلون ومسؤولون سياسيون، اضافة الى وسائل الإعلام. وقد يكون أمراً طبيعياً أن يطغى وجه الطقوسية الاستذكارية على ما عداه في هذه المناسبة. فهذا الوجه ذو الوظيفة الإناسية البديهية يسمح بتجديد المناظرة وصراع التأويلات حول مداخل ومخارج الحدث العراقي الكبير، أي مقدماته ومفاعيله ومآلاته المحتملة. على أن وظيفة الاستذكار هذا يتهددها منحيان خطيران يجدر بنا النظر اليهما في منظار العلاقة بينهما وليس باعتبارهما شأنين منفصلين ومستقلين الواحد عن الآخر.
المنحى الأول هو الذي تتعهده وتعمل على ترسيخه الادارة الأميركية الحالية، وهو يقوم على فرض الحاضر فرضاً قسرياً وجعل اللحظة الآنية أشبه بأبدية غائمة تعتصر التاريخ زاعمة انشاء الدول والأمم على خلق جديد. يحتاج هذا بالطبع الى وصفات خلاصية شديدة التبسيط لم يضنّ بها مؤدلجو الغزو، بل أرفقوها بجرعات كبيرة من الآراء الثقافوية الجوهرانية التي تنزع صفة التركيب عن البناء الوطني المحتمل فيما تطلب، في الوقت نفسه، من هذا البناء أن يتكيف تكيفاً تربوياً وأخلاقياً مع شروط السيطرة الجديدة بوصفها بشارة الخروج من جحيم الاستبداد الديموقراطية والعيش في نعيمها.
المنحى الثاني، وهو أقرب الى أن يكون الوجه الآخر للمعضلة ذاتها، يقوم، على العكس، على استحضار الماضي حثيثاً كي يستولي على حاضر الجماعات وعلى رهانات البناء الوطني. والماضي هذا يتقدم بوصفه المقلع الصخري الذي تصقل فيه الهويات الأصلية من كل نوع، اثني ومذهبي وطائفي مما يجعل حظوظ تجديد وترميم الشخصية الوطنية، المركبة بالضرورة، أشبه بالرمل أمام أي هبّة ريح. والحال أن قسماً من النقاش الدائر على حصيلة السنوات الثلاث، يكاد يتحول الى مناظرة دلالية. هل دخل العراق في حرب أهلية مجهولة الأفق والنتائج؟ أم أنه فقط على عتبة الدخول في مثل هذه الحرب بحيث ينبغي التقاط البلد والنظر اليه وهو حائر ومتردد يتقدم خطوة ويؤخر أخرى في اتجاه فتنتها الساحرة، فيما التمزق الأهلي جارٍ على قدمٍ وساق.
قد يكون رئيس الحكومة الانتقالية السابق أياد علاوي في موقع يسمح له بتقديم تشخيص ذي خبرة، عن مآل الوضع العراقي بعد السنوات الثلاث الماضية. فهو رأى عشية الذكرى الثالثة للحرب ودخولها في عامها الرابع أنه «ليس ثمة أي مؤسسة لحماية الناس، ثمة تطهير عرقي جارٍ هنا وهناك في العراق، وهذا في الواقع يرقى الى مستوى الحرب الأهلية». وهو يدعو الى وجوب الاعتراف بوجود وحصول تطهير عرقي، والى التحلّي بالشجاعة لقول ذلك. وقد لخص بعبارات قليلة أحوال البلد، اذ أعلن أن «الاقتصاد بلغ الحضيض تقريباً، والخدمات تتدهور، والمذهبية تسود والميليشيات تسيطر على كثير من الأحياء في بغداد، هذه وقائع وليست أموراً من صنع الخيال».
يرجح في الظن أن تشخيص علاوي الذي تعززه، من جهتها، اعترافات الحكومة الحالية بنزوح آلاف العائلات من أماكنها الأصلية (والمختلطة اذاً) خوفاً من الانتقام لن يكون غير دعوة الى القاء المسؤولية على الحكومة الحالية وعلى الانتخابات التي أسفرت عن تزعمه لكتلة نيابية ضعيفة نسبياً. أي أن التشخيص المذكور، وان كان يزعج أركان الإدارة الأميركية، لن يضع على محك المحاسبة والمساءلة جملة الشروط التي أوصلت العراق الى ما وصل اليه والى ما قد يصل بعد اليه مما لا تحمد عقباه، مثل هذا التشخيص لا يترك للرئيس الأميركي جورج بوش سوى التشديد على النظر التربوي والتعليمي ذي النكهة الارشادية الى ما يتعدّى العنف الجاري. لم يعد كافياً ولا مقنعاً القول بأن التخلّص من نظام صدام حسين، مجرّد التخلص من قبضته القاتلة، لهو ايذان بالخلاص. فالمجتمعات خصوصاً المضطربة والانتقالية منها، لا تسير ولا تشتغل وفق مواعظ مبسّطة من هذا الطراز.
مع الذكرى الثالثة للغزو فلنطرح السؤال الذي يزعج والذي من شأنه أن يكون مدار مناظرة معمقة: هل صحيح أنه لم يكن هناك أي فرصة وأي خطة لإسقاط صدام حسين سوى تينك اللتين وضعتهما الادارة الأميركية، وبطريقة حفلت بأكاذيب قاسية. تجميع المعارضة ومخاطبة أطرافها بوصفها هيئات تمثيلية ناجزة لجماعات عرقية ومذهبية وطائفية ألم يمهدا الطريق لعملية سياسية وانتخابية يغلب فيها منطق العصبية الضيقة بقدر ما يستبعد احتمالات التركيب في عملية بناء الدولة الوطنية؟ أصحاب النزعة الثقافوية يملكون جواباً جاهزاً على السؤال الأخير، والجواب هذا هو نوع من الابتزاز الاستباقي: الادارة الأميركية لم تخترع هويات الجماعات العراقية وغيرها، بل أخذتهم كما هم أو كما يحلو لهم أن يقدموا أنفسهم، هذه حالهم وهي ترقى الى مئات السنين من التعصب المتوارث الذي زاد من قوته استبداد النظام الصدامي. ثم نحن لا نستطيع أن ننتظر الى ما لا نهاية، خصوصاً في بلد يحتل مكانة بارزة في الاستراتيجية الاقتصادية الأمنية للقوة الأعظم في العالم. اجتراح الجماعات العراقية لصيغة وطنية مركبة تحفظ التعدد ووحدة البلد وسلمه الأهلي، تبدو الحجة هذه، وفي حدود سجاليتها المفرطة في الواقعية، مفحمة.
على أننا لا نعود نعرف، معها، كيف يمكن للنصاب السياسي، أي مشروع الدولة، أن يتحرر من ثقل التنافس والتناحر؟ بعبارة أخرى أنتج الغزو الأميركي، شروط صراع أهلي مفتوح على الدولة، لأنه افترض أصلاً أن هذه الدولة ستكون مسرحاً، بالأحرى ساحة، لاختبار كل جماعة لقوتها ولقدرتها على التحكم بالمصير الوطني ولو أدّى هذا الصراع الذي ساهم في تأجيجه التكفيريون المتدفقون على العراق، الى تبديد احتمالات التركيب واحتمالات تثبيت مرجعية وطنية مشتركة. لقد سبق لمستشرق فرنسي زاوج في نظرته بين المذهبية العلموية وبين التوسع الاستعماري، وهو أرنست رينان، أن رأى في سبعينات القرن التاسع عشر أن مبدأ الأمة، في بلد مثل مصر يتمتع بأهمية استراتيجية كبيرة، محكوم عليه بالموت وأن البلد نفسه محكوم عليه بأن يكون خاضعاً لمصالح القوى الدولية العظمى.
ويقدّم رينان تشخيصه هذا بوصفه نوعاً من القانون الطبيعي الذي لا رادّ له ولا حياد عنه. والحق ان المقاربة الأميركية للمصير العراقي تكاد تكون عودة حرفية، وان في قوالب دعاوية وإعلامية جديدة، الى منطق الغلبة الاستعمارية. على ان التاريخ قدم مسارات أخرى لم تكن خلواً من المفاجآت. والسيطرة التي يجري تجديدها اليوم، انطلاقاً من العراق تحت ذريعة مكافحة الارهاب والإسلام الجذري من دون تبيان الفوارق بين الجذري وغير الجذري، تواجه هي الأخرى مفاجآت ناجمة عن بزوغ حركات إسلامية – وطنية ما يزال أمامها الكثير كي تزاوج، مع غيرها من أبناء البلد، بين الديموقراطية وبين الوطنية. ومن يقرأ برنامج حركة حماس الحكومي لا يملك سوى الدهشة الايجابية في انتظار التنفيذ الفعلي.
ما هي حصيلة السنوات الثلاث لغزو العراق؟ كان هذا السؤال محور تقويمات وجردات حساب قدّمها، خلال الأيام الفائتة، مراقبون ومحلّلون ومسؤولون سياسيون، اضافة الى وسائل الإعلام. وقد يكون أمراً طبيعياً أن يطغى وجه الطقوسية الاستذكارية على ما عداه في هذه المناسبة. فهذا الوجه ذو الوظيفة الإناسية البديهية يسمح بتجديد المناظرة وصراع التأويلات حول مداخل ومخارج الحدث العراقي الكبير، أي مقدماته ومفاعيله ومآلاته المحتملة. على أن وظيفة الاستذكار هذا يتهددها منحيان خطيران يجدر بنا النظر اليهما في منظار العلاقة بينهما وليس باعتبارهما شأنين منفصلين ومستقلين الواحد عن الآخر.
المنحى الأول هو الذي تتعهده وتعمل على ترسيخه الادارة الأميركية الحالية، وهو يقوم على فرض الحاضر فرضاً قسرياً وجعل اللحظة الآنية أشبه بأبدية غائمة تعتصر التاريخ زاعمة انشاء الدول والأمم على خلق جديد. يحتاج هذا بالطبع الى وصفات خلاصية شديدة التبسيط لم يضنّ بها مؤدلجو الغزو، بل أرفقوها بجرعات كبيرة من الآراء الثقافوية الجوهرانية التي تنزع صفة التركيب عن البناء الوطني المحتمل فيما تطلب، في الوقت نفسه، من هذا البناء أن يتكيف تكيفاً تربوياً وأخلاقياً مع شروط السيطرة الجديدة بوصفها بشارة الخروج من جحيم الاستبداد الديموقراطية والعيش في نعيمها.
المنحى الثاني، وهو أقرب الى أن يكون الوجه الآخر للمعضلة ذاتها، يقوم، على العكس، على استحضار الماضي حثيثاً كي يستولي على حاضر الجماعات وعلى رهانات البناء الوطني. والماضي هذا يتقدم بوصفه المقلع الصخري الذي تصقل فيه الهويات الأصلية من كل نوع، اثني ومذهبي وطائفي مما يجعل حظوظ تجديد وترميم الشخصية الوطنية، المركبة بالضرورة، أشبه بالرمل أمام أي هبّة ريح. والحال أن قسماً من النقاش الدائر على حصيلة السنوات الثلاث، يكاد يتحول الى مناظرة دلالية. هل دخل العراق في حرب أهلية مجهولة الأفق والنتائج؟ أم أنه فقط على عتبة الدخول في مثل هذه الحرب بحيث ينبغي التقاط البلد والنظر اليه وهو حائر ومتردد يتقدم خطوة ويؤخر أخرى في اتجاه فتنتها الساحرة، فيما التمزق الأهلي جارٍ على قدمٍ وساق.
قد يكون رئيس الحكومة الانتقالية السابق أياد علاوي في موقع يسمح له بتقديم تشخيص ذي خبرة، عن مآل الوضع العراقي بعد السنوات الثلاث الماضية. فهو رأى عشية الذكرى الثالثة للحرب ودخولها في عامها الرابع أنه «ليس ثمة أي مؤسسة لحماية الناس، ثمة تطهير عرقي جارٍ هنا وهناك في العراق، وهذا في الواقع يرقى الى مستوى الحرب الأهلية». وهو يدعو الى وجوب الاعتراف بوجود وحصول تطهير عرقي، والى التحلّي بالشجاعة لقول ذلك. وقد لخص بعبارات قليلة أحوال البلد، اذ أعلن أن «الاقتصاد بلغ الحضيض تقريباً، والخدمات تتدهور، والمذهبية تسود والميليشيات تسيطر على كثير من الأحياء في بغداد، هذه وقائع وليست أموراً من صنع الخيال».
يرجح في الظن أن تشخيص علاوي الذي تعززه، من جهتها، اعترافات الحكومة الحالية بنزوح آلاف العائلات من أماكنها الأصلية (والمختلطة اذاً) خوفاً من الانتقام لن يكون غير دعوة الى القاء المسؤولية على الحكومة الحالية وعلى الانتخابات التي أسفرت عن تزعمه لكتلة نيابية ضعيفة نسبياً. أي أن التشخيص المذكور، وان كان يزعج أركان الإدارة الأميركية، لن يضع على محك المحاسبة والمساءلة جملة الشروط التي أوصلت العراق الى ما وصل اليه والى ما قد يصل بعد اليه مما لا تحمد عقباه، مثل هذا التشخيص لا يترك للرئيس الأميركي جورج بوش سوى التشديد على النظر التربوي والتعليمي ذي النكهة الارشادية الى ما يتعدّى العنف الجاري. لم يعد كافياً ولا مقنعاً القول بأن التخلّص من نظام صدام حسين، مجرّد التخلص من قبضته القاتلة، لهو ايذان بالخلاص. فالمجتمعات خصوصاً المضطربة والانتقالية منها، لا تسير ولا تشتغل وفق مواعظ مبسّطة من هذا الطراز.
مع الذكرى الثالثة للغزو فلنطرح السؤال الذي يزعج والذي من شأنه أن يكون مدار مناظرة معمقة: هل صحيح أنه لم يكن هناك أي فرصة وأي خطة لإسقاط صدام حسين سوى تينك اللتين وضعتهما الادارة الأميركية، وبطريقة حفلت بأكاذيب قاسية. تجميع المعارضة ومخاطبة أطرافها بوصفها هيئات تمثيلية ناجزة لجماعات عرقية ومذهبية وطائفية ألم يمهدا الطريق لعملية سياسية وانتخابية يغلب فيها منطق العصبية الضيقة بقدر ما يستبعد احتمالات التركيب في عملية بناء الدولة الوطنية؟ أصحاب النزعة الثقافوية يملكون جواباً جاهزاً على السؤال الأخير، والجواب هذا هو نوع من الابتزاز الاستباقي: الادارة الأميركية لم تخترع هويات الجماعات العراقية وغيرها، بل أخذتهم كما هم أو كما يحلو لهم أن يقدموا أنفسهم، هذه حالهم وهي ترقى الى مئات السنين من التعصب المتوارث الذي زاد من قوته استبداد النظام الصدامي. ثم نحن لا نستطيع أن ننتظر الى ما لا نهاية، خصوصاً في بلد يحتل مكانة بارزة في الاستراتيجية الاقتصادية الأمنية للقوة الأعظم في العالم. اجتراح الجماعات العراقية لصيغة وطنية مركبة تحفظ التعدد ووحدة البلد وسلمه الأهلي، تبدو الحجة هذه، وفي حدود سجاليتها المفرطة في الواقعية، مفحمة.
على أننا لا نعود نعرف، معها، كيف يمكن للنصاب السياسي، أي مشروع الدولة، أن يتحرر من ثقل التنافس والتناحر؟ بعبارة أخرى أنتج الغزو الأميركي، شروط صراع أهلي مفتوح على الدولة، لأنه افترض أصلاً أن هذه الدولة ستكون مسرحاً، بالأحرى ساحة، لاختبار كل جماعة لقوتها ولقدرتها على التحكم بالمصير الوطني ولو أدّى هذا الصراع الذي ساهم في تأجيجه التكفيريون المتدفقون على العراق، الى تبديد احتمالات التركيب واحتمالات تثبيت مرجعية وطنية مشتركة. لقد سبق لمستشرق فرنسي زاوج في نظرته بين المذهبية العلموية وبين التوسع الاستعماري، وهو أرنست رينان، أن رأى في سبعينات القرن التاسع عشر أن مبدأ الأمة، في بلد مثل مصر يتمتع بأهمية استراتيجية كبيرة، محكوم عليه بالموت وأن البلد نفسه محكوم عليه بأن يكون خاضعاً لمصالح القوى الدولية العظمى.
ويقدّم رينان تشخيصه هذا بوصفه نوعاً من القانون الطبيعي الذي لا رادّ له ولا حياد عنه. والحق ان المقاربة الأميركية للمصير العراقي تكاد تكون عودة حرفية، وان في قوالب دعاوية وإعلامية جديدة، الى منطق الغلبة الاستعمارية. على ان التاريخ قدم مسارات أخرى لم تكن خلواً من المفاجآت. والسيطرة التي يجري تجديدها اليوم، انطلاقاً من العراق تحت ذريعة مكافحة الارهاب والإسلام الجذري من دون تبيان الفوارق بين الجذري وغير الجذري، تواجه هي الأخرى مفاجآت ناجمة عن بزوغ حركات إسلامية – وطنية ما يزال أمامها الكثير كي تزاوج، مع غيرها من أبناء البلد، بين الديموقراطية وبين الوطنية. ومن يقرأ برنامج حركة حماس الحكومي لا يملك سوى الدهشة الايجابية في انتظار التنفيذ الفعلي.