مجاهدون
03-24-2006, 07:31 AM
في النشأة وروافد التكوين (1)
إعداد: دِهشام العوضي
* استاذ الدراسات الدولية والتاريخ في الجامعة الاميركية في الكويت
شوارع القاهرة مزدحمة بالناس والسيارات، ولو قدر لك ان تزور القاهرة في السبعينات، وحالفك الحظ يوم الجمعة وأنت في احد الاحياء الشعبية فإنك ربما كنت ستشهد موقفا يدعو للدهشة: كنت سترى تجمعا ملحوظا لسيارات التاكسي ينادي سائقوها على المارة: كشكِِ كشكِِ كشك! أي من يريد أن يذهب إلى كشك؟ وبالطبع فإن 'كشك' لم يكن اسما لمنطقة أو شارع وإنما للخطيب المعروف الشيخ عبدالحميد كشك، الذي اكتسب شهرة كبيرة بخطبه الاسبوعية شديدة الجرأة ولهجة دارجة يفهمها العامةِ
لم يكن الشيخ كشك خطيبا مفوها فحسب وإنما كان اضافة الى ذلك معبرا جريئا عن حالة الاحباط التي سادت مصر بعد هزيمة 1967 وعن تبعات التحول العشوائي من عهد الرئيس جمال عبدالناصر إلى الرئيس أنور الساداتِ وفي مطلع السبعينات فإن العرب وليس المصريون وحدهم كانوا يبحثون عن هوية بديلة لم يتعرفوا ملامحها بعد، ولكن يبدو انهم كانوا متأكدين، وان لم يفصحوا او يعترفوا، بأنها لا تستند الى القومية الناصريةِ
تمكن الشيخ كشك من توظيف فترة انفتاح السادات و'أزمة الهوية' هذه كي يتكلم في كل شيء وباسقاطات سياسية لاذعة لم تعهد على رجال الازهر منذ ثورة الضباط الاحرار في الخمسينات: تكلم في التفسير والسيرة، وتكلم أيضا فيما اعتبره تحلل نيللي في فوازير رمضان، وتطاول الرئيس القذافي على الخليفة عمرِ تحول اسم كشك بخطبه التي ربت على 2500 خطبة جمعة ودرس إلى 'اسم ماركة' ذائعة الصيت، روجت لها أشرطة الكاسيت، وسائقو التاكسي بندائهم الاسبوعي: كشكِِ كشكِِ كشكِ
في الثمانينات منع كشك من الخطابة بسبب شعبيته التي بلغت حدا أقلق السلطة الجديدة، وتوفي في 1996 غير ان ظاهرة دعايات سائقي الاجرة لم ترحل معهِ فلو انك زرت القاهرة مرة اخرى سنة 2002، أي بعد مضي اكثرمن 30 سنة على صعود نجم الشيخ كشك، وكنت وسط احياء الطبقة المتوسطة وحالفك الحظ فإنه كان من الممكن ان تشهد في يوم سوى الجمعة وبعد صلاة المغرب مشهدا مثيرا
لسائقي 'الميكروباصات' وهم ينادون: عمرو خالدِِ عمرو خالدِِ عمرو خالد! بالطبع هذه المرة 'عمرو خالد' اسم ماركة معروفة، ولكن ليس من خلال أشرطة الكاسيت فحسب وانما عبر الفضائيات التي لم يحظ بها الكاريزميون في السبعينات مثل الشيخ كشك اوالإمام الخمينيِ من السهل أن نستنتج ان الفروق بين الشخصين، كشك وخالد، كانت شكلية ومختزلة في حسنات التكنولوجيا الجديدة وكون الاول أزهريا ضريرا والثاني 'مودرن' حليقِ لكن الفرق الأهم هو الفترة الزمنية التي لم تفصل بين الرجلين فحسب وإنما فصلت بين المصريين ومصر كذلكِ ومثلما كان خطاب الشيخ كشك يعكس حالة الاحباط و'أزمة الهوية' التي مرت بها مصر في السبعينات، فإن نجومية عمرو خالد، فضلا عن إمكاناته الشخصية، لا يمكن فهمها بمعزل عن مصر الثمانينات والتسعينات التي تكونت خلالها هذه الشخصية، وتكون خلالها جمهورهِ
ولادته سنة النكسة
ولد عمرو خالد في 1967 بثلاثة أشهر فقط بعد هزيمة ناصر ونكبة العرب النفسيةِ وشهدت مصر بعد رحيل زعيمها القومي في 1970 مرحلة انفتاح جديدة استفاد منها التيار الإسلامي الذي شكل رافدا من روافد تكوين خالدِ لكن قبل ذلك شكل جده لأمه الرافد الأول في حياته وذلك من خلال القصص الإسلامية التي كان يحكيها له بالتفصيل مما عمق من خيال الطفل وعاطفتهِ واستكمل عملية البناء العاطفي عند خالد شخصية ربما لم تكتسب شهرة واسعة مثل كشك هي الشيخ إبراهيم عزت الذي يقال إنه كان عضوا في حركة الاخوان المسلمين ثم انفصل عنها لأسباب غير معروفة وانضم لجماعة الدعوة والتبليغ مطلع الستيناتِ لم يكن تحول الشيخ عزت من الاخوان إلى التبليغ قرار عبثيا وإنما رغبة في الابتعاد من 'الإسلام السياسي' أو 'الإسلامي التنظيمي' إلى 'الإسلام الوجداني' في سوق تدين تلك الفترة، وهو تحول شاع بصورة متكررة لدى جيل من الدعاة فيما بعدِ واستثمر الشيخ إبراهيم عزت مناخ الانفتاح الذي بدأه السادات وظل يخطب من 1975 إلى أن وافته المنية في 1983ِ كان خالد صغيرا في ذلك الوقت، لكنه تعرف على خطب الشيخ من خلال أشرطة الكاسيت، التي مثلت وقتئذ أحدث تكنولوجيا الاتصال في نقل الوعي الديني للجيل الجديدِ
اتسمت خطب الشيخ عزت بعاطفة شديدة ونأي واضح عن السياسة، أو على الأقل مقارنة بخطب الشيخ كشكِ واتمست شخصيته بمرونة وانفتاح على بقية الإسلاميينِ فعلى الرغم من تركه الإخوان فإن ملامح التأثر بهم ظلت معه، ولم يكن يجد غضاضة في ان يرى دوره التبليغي متوائما مع مساعي الحركة في تجنيد اعضاء جدد لهاِ وشاع عنه انه كان يقول لبعض شباب الاخوان دون مواربة: 'انا انتشل الناس من المقاهي الى المسجد وانتم بعد ذلك يمكن ان تستقطبوهم الى صفوفكمِ' لم يعتبر الشيخ عزت نفسه خصما او منافسا لاحدِ
وتأثر خالد ايضا بشيخ آخر ، هو الشيخ محمد الغزالي، الذي كانت له مسيرة مشابهة الى حد ما بمسيرة الشيخ عزت، مع فروق، فقد انضم الشيخ الغزالي للاخوان منذ فترة مبكرة لكنه انفصل عن الجماعة لاسباب تنظيميةِ لكن علاقته بالاخوان لم تنقطع الى ان وافته المنية في 1996، وظلت كتبه مصدرا اساسيا من مصادر تثقيف وتربية اعضاء الحركةِ لم يتقمص خالد شخصية الشيخ الغزالي صاحب المزاج الحاد في تعاطيه مع خصومه (لاسيما سلفيي الخليج، الذين كان ينعتهم بأنهم اصحاب فقه بدوي) لكنه تأثر بعاطفة الغزالي، التي افرزت كتابيه ' الجانب العاطفي في الاسلام'ِ و'فن الذكر والدعاء'ِ
جيل السبعينات
لقد شكلت أشرطة الشيخ عزت، وكتب شيوخ الاخوان مثل الغزالي والقرضاوي أهم مصادر التثقيف الديني بالنسبة لجيل السبعينات في مصر، وهو الجيل الذي احتك به خالد وشكل الرافد الثالث في تكوين بداية وعيه الدينيِ ولنتصور أهمية هذا الرافد، لا بد ان نتعرف أولا على طبيعة هذا الجيل وأهم شخوصه، ولنبدأ منذ الآن بذكر أهم الشخوص لان اسماءهم ستكون جزءا من فهم ملامح هذا الجيل، وهم عصام العريان (القاهرة)، وعبدالمنعم أبو الفتوح (القاهرة)، وإبراهيم الزعفراني (الاسكندرية) وأبو العلا ماضي (المنيا) وباستثناء أبو العلا الذي خرج من الاخوان المسلمين في أعقاب أزمة حزب 'الوسط' في التسعينات، فإن جميع هؤلاء قيادات حالية معروفة في الجماعةِ
وتأثر جيل السبعينات بحالة الوعي الديني الذي كرسه نظام السادات لضرب الشيوعيين كعربون لصداقته الجديدة مع الولايات المتحدة، وأفرج عن تراث الاخوان المكتوب بما في ذلك كتاب سيد قطب المثير للجدل 'معالم في الطريق'، وأفرج عن قيادات الاخوان الذين اعتقلهم ناصر منذ 1964، وقتئذ، كان العريان وحلمي الجزار وأبو الفتوح يدرسون الطب في الجامعة، وناشطون في اتحاد الطلبة باسم 'الجماعة الإسلامية'ِ ولم تكن 'الجماعة الإسلامية' سوى نعت لهوية هؤلاء الطلاب ولم يكن للنعت ولا لأصحابه علاقة بأي صيغة تنظيميةِ كانت هوية 'الجماعة الإسلامية' هوية عامة تعبر عن مساعي الجيل الجديد للبحث عن خلاص من هزيمته النفسية بعد 1967، يقول أبو الفتوح عن سمات هوية 'الجماعة' تلك الفترة:
'ثقافتنا نحن جيل السبعينات كانت هي الثقافة الإسلامية السائدة في المجتمع المصري، واحنا دخلنا في 1973 اتحاد الطلبة وما كناش إخوانِِ كان عندنا خلطة فكرية، إخوان على جهاد، على سلفية، الخلطة دي كلها كانت الفكر بتاعنا في هذه الفترة'ِ
لكن يمكن القول انهم كانوا يستبطنون فكر الإخوان من خلال كتب الجماعة وشيوخهم، الذين كانوا يدعون ضيوفا محاضرين في أنشطة اتحاد الجامعة، وبعد خروجه من المعتقل مستهل السبعينات، بدأ مرشد الإخوان المسلمين عمرو التلمساني في اعادة تنظيم جماعته، للساحة بعد غياب، واستقطاب كوادر جدد، مثل شباب جيل الجامعة وطلائعهاِ وفي 1978 التقى مصطفى مشهور (مرشد الجماعة) والشيخ صلاح أبو اسماعيل، ممثلين عن الاخوان، مع قيادات الجماعة الإسلامية الطلابية في جامعات القاهرة والاسكندرية والمنيا (الصعيد) وعرضوا عليهم في لقاء خاص الانضمام للجماعة، ووافقت غالبية القيادات على ذلك، فكما أشار أبو الفتوح لم يكن فكر الاخوان غريبا تماما عن هذا الجيل، وانما تعرفوا عليه، بجانب اتجاهات أخرى، من خلال كتب الجماعة وشيوخهاِ
كانت معظم قيادات هذا الجيل تنتمي للطبقة الدنيا، وان مكنتها فيما بعد مجانية التعليم ودخول كليات القمة (الطب والهندسة) من تحقيق حراك اجتماعي، في ظروف انفتاح اقتصادي وفرص عمل في الخليج والعراقِ كان هذا الجيل يعتبر ان بلورة الوعي الديني تتم من خلال الانتماء الى تنظيم يستوعب هذه الطبقةِ وهذا يفسر استعداد قيادات هذا الجيل، اصحاب 'الخلطة الفكرية'، لقبول دعوة الاخوان بالانضمام اليهمِ وسنرى فيما بعد، ان كلا السمتين، سمة الوضع الاجتماعي وقبول العضوية في 'الاسلام السياسي الحركي'، تغيرت لدى الجيل الجديد الذي يخاطبه عمرو خالدِ
وبحلول عقد الثمانينات، ومجيء الرئيس مبارك للسلطة في 1982، بدأ يكون للاخوان تواجد ملحوظ في جامعات مصر المهمة، القاهرة والاسكندرية واسيوط، وهو تواجد جاء بعد فترة كمون من سنة 1981 - 1983 نتيجة الظروف الامنية التي ترتبت على اغتيال السادات في 1981، والتضييق على الحركة الطلابية عموماِ بعدها، وفي 1984 تحديدا، استعاد العمل الطلابي في الجامعات حيويته، اثر الانفراج الذي سمح به النظام لتكريس شرعيته الديموقراطيةِ وبالطبع استفاد الاخوان من هذه الفرصة، وتمكنوا من السيطرة على اتحادات الطلبة تحت مسمى جديد هو 'التيار الاسلامي' (وذلك بعد ان ارتبطت تسمية الجماعة الاسلامية' بتيارات العنف)ِ كان معروفا لدى بقية الاتجاهات الطلابية، مستقلين ويسارا، ان 'التيار الاسلامي' هو الواجهة الطلابية للاخوان المسلمين، ولم يعد مجرد مجموعة من الطلبة ذات اتجاه ديني عام، كما كانت الحال في السبعيناتِ
ولم يكن اسم 'التيار الاسلامي' هو الذي تغير فقط في جيل اسلاميي الثمانينات، وانما تغيرت اشكالهم وخطابهم عن جيل السبعيناتِ فطبقا لحلمي الجزار، احد القيادات المهمة في العمل الطلابي تلك الفترة:
'كنا في السبعينات لنا لحية، ونلبس الجلاليب، وخطابنا يغلب عليه الخطاب الاسلامي المباشر، فكنا مهتمين بالزي الاسلامي، وبيع الكتب الاسلامية واقامة المعارض الاسلاميةِ ومن بداية 1984، عندما نزل الاخوان بقوة في انتخابات اتحادات الطلبة، لم يكن يوجد احد تقريبا من الاخوان له لحية، وكان الجميع يلبس بدلة او بنطلونا وقميصا والخطاب في تلك الفترة لم يكن اسلاميا مباشرا، وكان فيه كلام عن اهمية الحرية والديموقراطيةِ
ويوعز الجزار التحول في ملامح الاخوان الشكلية من حلق للحية وارتداء للملابس العصرية الى الترصد الامني، الذي كان يستهدف اصحاب المظهر الاسلامي، ويتيح حرية اكبر لطلبة الجماعة من اقامة انشطتهم وترتيب معسكرات خارج الجامعة دون عراقيل امنيةِ لكن فعلا كان للتغيير الذي حصل مزايا اهم من مجرد التورية الامنيةِ فبالنسبة للطلبة المستجدين، الذين لم تكن لهم اي انتماءات بعد، كان الوجه العصري للاسلاميين اكثر مقبولية من مظاهر التدين التقليدية لجيل السبعينات، وبالتالي كانت فرص التجنيد اوسع، ومن هؤلاء الطلبة المستجدين كان عمرو خالد، الذي بدأ دراسته بجامعة القاهرة، قسم تجارة، وتحدر من طبقة عليا متوسطة، تختلف عن جيل الطبقات الدنيا التي أتى منها العريان وماضي، وفي الوقت الذي كان فيه العريان يلبس الجلباب ويطلق لحيته لما كان اميرا للجماعة الاسلامية في 1978، فإن عمرو خالد كان حليقا ويلبس البنطلون والقميصِ
إعداد: دِهشام العوضي
* استاذ الدراسات الدولية والتاريخ في الجامعة الاميركية في الكويت
شوارع القاهرة مزدحمة بالناس والسيارات، ولو قدر لك ان تزور القاهرة في السبعينات، وحالفك الحظ يوم الجمعة وأنت في احد الاحياء الشعبية فإنك ربما كنت ستشهد موقفا يدعو للدهشة: كنت سترى تجمعا ملحوظا لسيارات التاكسي ينادي سائقوها على المارة: كشكِِ كشكِِ كشك! أي من يريد أن يذهب إلى كشك؟ وبالطبع فإن 'كشك' لم يكن اسما لمنطقة أو شارع وإنما للخطيب المعروف الشيخ عبدالحميد كشك، الذي اكتسب شهرة كبيرة بخطبه الاسبوعية شديدة الجرأة ولهجة دارجة يفهمها العامةِ
لم يكن الشيخ كشك خطيبا مفوها فحسب وإنما كان اضافة الى ذلك معبرا جريئا عن حالة الاحباط التي سادت مصر بعد هزيمة 1967 وعن تبعات التحول العشوائي من عهد الرئيس جمال عبدالناصر إلى الرئيس أنور الساداتِ وفي مطلع السبعينات فإن العرب وليس المصريون وحدهم كانوا يبحثون عن هوية بديلة لم يتعرفوا ملامحها بعد، ولكن يبدو انهم كانوا متأكدين، وان لم يفصحوا او يعترفوا، بأنها لا تستند الى القومية الناصريةِ
تمكن الشيخ كشك من توظيف فترة انفتاح السادات و'أزمة الهوية' هذه كي يتكلم في كل شيء وباسقاطات سياسية لاذعة لم تعهد على رجال الازهر منذ ثورة الضباط الاحرار في الخمسينات: تكلم في التفسير والسيرة، وتكلم أيضا فيما اعتبره تحلل نيللي في فوازير رمضان، وتطاول الرئيس القذافي على الخليفة عمرِ تحول اسم كشك بخطبه التي ربت على 2500 خطبة جمعة ودرس إلى 'اسم ماركة' ذائعة الصيت، روجت لها أشرطة الكاسيت، وسائقو التاكسي بندائهم الاسبوعي: كشكِِ كشكِِ كشكِ
في الثمانينات منع كشك من الخطابة بسبب شعبيته التي بلغت حدا أقلق السلطة الجديدة، وتوفي في 1996 غير ان ظاهرة دعايات سائقي الاجرة لم ترحل معهِ فلو انك زرت القاهرة مرة اخرى سنة 2002، أي بعد مضي اكثرمن 30 سنة على صعود نجم الشيخ كشك، وكنت وسط احياء الطبقة المتوسطة وحالفك الحظ فإنه كان من الممكن ان تشهد في يوم سوى الجمعة وبعد صلاة المغرب مشهدا مثيرا
لسائقي 'الميكروباصات' وهم ينادون: عمرو خالدِِ عمرو خالدِِ عمرو خالد! بالطبع هذه المرة 'عمرو خالد' اسم ماركة معروفة، ولكن ليس من خلال أشرطة الكاسيت فحسب وانما عبر الفضائيات التي لم يحظ بها الكاريزميون في السبعينات مثل الشيخ كشك اوالإمام الخمينيِ من السهل أن نستنتج ان الفروق بين الشخصين، كشك وخالد، كانت شكلية ومختزلة في حسنات التكنولوجيا الجديدة وكون الاول أزهريا ضريرا والثاني 'مودرن' حليقِ لكن الفرق الأهم هو الفترة الزمنية التي لم تفصل بين الرجلين فحسب وإنما فصلت بين المصريين ومصر كذلكِ ومثلما كان خطاب الشيخ كشك يعكس حالة الاحباط و'أزمة الهوية' التي مرت بها مصر في السبعينات، فإن نجومية عمرو خالد، فضلا عن إمكاناته الشخصية، لا يمكن فهمها بمعزل عن مصر الثمانينات والتسعينات التي تكونت خلالها هذه الشخصية، وتكون خلالها جمهورهِ
ولادته سنة النكسة
ولد عمرو خالد في 1967 بثلاثة أشهر فقط بعد هزيمة ناصر ونكبة العرب النفسيةِ وشهدت مصر بعد رحيل زعيمها القومي في 1970 مرحلة انفتاح جديدة استفاد منها التيار الإسلامي الذي شكل رافدا من روافد تكوين خالدِ لكن قبل ذلك شكل جده لأمه الرافد الأول في حياته وذلك من خلال القصص الإسلامية التي كان يحكيها له بالتفصيل مما عمق من خيال الطفل وعاطفتهِ واستكمل عملية البناء العاطفي عند خالد شخصية ربما لم تكتسب شهرة واسعة مثل كشك هي الشيخ إبراهيم عزت الذي يقال إنه كان عضوا في حركة الاخوان المسلمين ثم انفصل عنها لأسباب غير معروفة وانضم لجماعة الدعوة والتبليغ مطلع الستيناتِ لم يكن تحول الشيخ عزت من الاخوان إلى التبليغ قرار عبثيا وإنما رغبة في الابتعاد من 'الإسلام السياسي' أو 'الإسلامي التنظيمي' إلى 'الإسلام الوجداني' في سوق تدين تلك الفترة، وهو تحول شاع بصورة متكررة لدى جيل من الدعاة فيما بعدِ واستثمر الشيخ إبراهيم عزت مناخ الانفتاح الذي بدأه السادات وظل يخطب من 1975 إلى أن وافته المنية في 1983ِ كان خالد صغيرا في ذلك الوقت، لكنه تعرف على خطب الشيخ من خلال أشرطة الكاسيت، التي مثلت وقتئذ أحدث تكنولوجيا الاتصال في نقل الوعي الديني للجيل الجديدِ
اتسمت خطب الشيخ عزت بعاطفة شديدة ونأي واضح عن السياسة، أو على الأقل مقارنة بخطب الشيخ كشكِ واتمست شخصيته بمرونة وانفتاح على بقية الإسلاميينِ فعلى الرغم من تركه الإخوان فإن ملامح التأثر بهم ظلت معه، ولم يكن يجد غضاضة في ان يرى دوره التبليغي متوائما مع مساعي الحركة في تجنيد اعضاء جدد لهاِ وشاع عنه انه كان يقول لبعض شباب الاخوان دون مواربة: 'انا انتشل الناس من المقاهي الى المسجد وانتم بعد ذلك يمكن ان تستقطبوهم الى صفوفكمِ' لم يعتبر الشيخ عزت نفسه خصما او منافسا لاحدِ
وتأثر خالد ايضا بشيخ آخر ، هو الشيخ محمد الغزالي، الذي كانت له مسيرة مشابهة الى حد ما بمسيرة الشيخ عزت، مع فروق، فقد انضم الشيخ الغزالي للاخوان منذ فترة مبكرة لكنه انفصل عن الجماعة لاسباب تنظيميةِ لكن علاقته بالاخوان لم تنقطع الى ان وافته المنية في 1996، وظلت كتبه مصدرا اساسيا من مصادر تثقيف وتربية اعضاء الحركةِ لم يتقمص خالد شخصية الشيخ الغزالي صاحب المزاج الحاد في تعاطيه مع خصومه (لاسيما سلفيي الخليج، الذين كان ينعتهم بأنهم اصحاب فقه بدوي) لكنه تأثر بعاطفة الغزالي، التي افرزت كتابيه ' الجانب العاطفي في الاسلام'ِ و'فن الذكر والدعاء'ِ
جيل السبعينات
لقد شكلت أشرطة الشيخ عزت، وكتب شيوخ الاخوان مثل الغزالي والقرضاوي أهم مصادر التثقيف الديني بالنسبة لجيل السبعينات في مصر، وهو الجيل الذي احتك به خالد وشكل الرافد الثالث في تكوين بداية وعيه الدينيِ ولنتصور أهمية هذا الرافد، لا بد ان نتعرف أولا على طبيعة هذا الجيل وأهم شخوصه، ولنبدأ منذ الآن بذكر أهم الشخوص لان اسماءهم ستكون جزءا من فهم ملامح هذا الجيل، وهم عصام العريان (القاهرة)، وعبدالمنعم أبو الفتوح (القاهرة)، وإبراهيم الزعفراني (الاسكندرية) وأبو العلا ماضي (المنيا) وباستثناء أبو العلا الذي خرج من الاخوان المسلمين في أعقاب أزمة حزب 'الوسط' في التسعينات، فإن جميع هؤلاء قيادات حالية معروفة في الجماعةِ
وتأثر جيل السبعينات بحالة الوعي الديني الذي كرسه نظام السادات لضرب الشيوعيين كعربون لصداقته الجديدة مع الولايات المتحدة، وأفرج عن تراث الاخوان المكتوب بما في ذلك كتاب سيد قطب المثير للجدل 'معالم في الطريق'، وأفرج عن قيادات الاخوان الذين اعتقلهم ناصر منذ 1964، وقتئذ، كان العريان وحلمي الجزار وأبو الفتوح يدرسون الطب في الجامعة، وناشطون في اتحاد الطلبة باسم 'الجماعة الإسلامية'ِ ولم تكن 'الجماعة الإسلامية' سوى نعت لهوية هؤلاء الطلاب ولم يكن للنعت ولا لأصحابه علاقة بأي صيغة تنظيميةِ كانت هوية 'الجماعة الإسلامية' هوية عامة تعبر عن مساعي الجيل الجديد للبحث عن خلاص من هزيمته النفسية بعد 1967، يقول أبو الفتوح عن سمات هوية 'الجماعة' تلك الفترة:
'ثقافتنا نحن جيل السبعينات كانت هي الثقافة الإسلامية السائدة في المجتمع المصري، واحنا دخلنا في 1973 اتحاد الطلبة وما كناش إخوانِِ كان عندنا خلطة فكرية، إخوان على جهاد، على سلفية، الخلطة دي كلها كانت الفكر بتاعنا في هذه الفترة'ِ
لكن يمكن القول انهم كانوا يستبطنون فكر الإخوان من خلال كتب الجماعة وشيوخهم، الذين كانوا يدعون ضيوفا محاضرين في أنشطة اتحاد الجامعة، وبعد خروجه من المعتقل مستهل السبعينات، بدأ مرشد الإخوان المسلمين عمرو التلمساني في اعادة تنظيم جماعته، للساحة بعد غياب، واستقطاب كوادر جدد، مثل شباب جيل الجامعة وطلائعهاِ وفي 1978 التقى مصطفى مشهور (مرشد الجماعة) والشيخ صلاح أبو اسماعيل، ممثلين عن الاخوان، مع قيادات الجماعة الإسلامية الطلابية في جامعات القاهرة والاسكندرية والمنيا (الصعيد) وعرضوا عليهم في لقاء خاص الانضمام للجماعة، ووافقت غالبية القيادات على ذلك، فكما أشار أبو الفتوح لم يكن فكر الاخوان غريبا تماما عن هذا الجيل، وانما تعرفوا عليه، بجانب اتجاهات أخرى، من خلال كتب الجماعة وشيوخهاِ
كانت معظم قيادات هذا الجيل تنتمي للطبقة الدنيا، وان مكنتها فيما بعد مجانية التعليم ودخول كليات القمة (الطب والهندسة) من تحقيق حراك اجتماعي، في ظروف انفتاح اقتصادي وفرص عمل في الخليج والعراقِ كان هذا الجيل يعتبر ان بلورة الوعي الديني تتم من خلال الانتماء الى تنظيم يستوعب هذه الطبقةِ وهذا يفسر استعداد قيادات هذا الجيل، اصحاب 'الخلطة الفكرية'، لقبول دعوة الاخوان بالانضمام اليهمِ وسنرى فيما بعد، ان كلا السمتين، سمة الوضع الاجتماعي وقبول العضوية في 'الاسلام السياسي الحركي'، تغيرت لدى الجيل الجديد الذي يخاطبه عمرو خالدِ
وبحلول عقد الثمانينات، ومجيء الرئيس مبارك للسلطة في 1982، بدأ يكون للاخوان تواجد ملحوظ في جامعات مصر المهمة، القاهرة والاسكندرية واسيوط، وهو تواجد جاء بعد فترة كمون من سنة 1981 - 1983 نتيجة الظروف الامنية التي ترتبت على اغتيال السادات في 1981، والتضييق على الحركة الطلابية عموماِ بعدها، وفي 1984 تحديدا، استعاد العمل الطلابي في الجامعات حيويته، اثر الانفراج الذي سمح به النظام لتكريس شرعيته الديموقراطيةِ وبالطبع استفاد الاخوان من هذه الفرصة، وتمكنوا من السيطرة على اتحادات الطلبة تحت مسمى جديد هو 'التيار الاسلامي' (وذلك بعد ان ارتبطت تسمية الجماعة الاسلامية' بتيارات العنف)ِ كان معروفا لدى بقية الاتجاهات الطلابية، مستقلين ويسارا، ان 'التيار الاسلامي' هو الواجهة الطلابية للاخوان المسلمين، ولم يعد مجرد مجموعة من الطلبة ذات اتجاه ديني عام، كما كانت الحال في السبعيناتِ
ولم يكن اسم 'التيار الاسلامي' هو الذي تغير فقط في جيل اسلاميي الثمانينات، وانما تغيرت اشكالهم وخطابهم عن جيل السبعيناتِ فطبقا لحلمي الجزار، احد القيادات المهمة في العمل الطلابي تلك الفترة:
'كنا في السبعينات لنا لحية، ونلبس الجلاليب، وخطابنا يغلب عليه الخطاب الاسلامي المباشر، فكنا مهتمين بالزي الاسلامي، وبيع الكتب الاسلامية واقامة المعارض الاسلاميةِ ومن بداية 1984، عندما نزل الاخوان بقوة في انتخابات اتحادات الطلبة، لم يكن يوجد احد تقريبا من الاخوان له لحية، وكان الجميع يلبس بدلة او بنطلونا وقميصا والخطاب في تلك الفترة لم يكن اسلاميا مباشرا، وكان فيه كلام عن اهمية الحرية والديموقراطيةِ
ويوعز الجزار التحول في ملامح الاخوان الشكلية من حلق للحية وارتداء للملابس العصرية الى الترصد الامني، الذي كان يستهدف اصحاب المظهر الاسلامي، ويتيح حرية اكبر لطلبة الجماعة من اقامة انشطتهم وترتيب معسكرات خارج الجامعة دون عراقيل امنيةِ لكن فعلا كان للتغيير الذي حصل مزايا اهم من مجرد التورية الامنيةِ فبالنسبة للطلبة المستجدين، الذين لم تكن لهم اي انتماءات بعد، كان الوجه العصري للاسلاميين اكثر مقبولية من مظاهر التدين التقليدية لجيل السبعينات، وبالتالي كانت فرص التجنيد اوسع، ومن هؤلاء الطلبة المستجدين كان عمرو خالد، الذي بدأ دراسته بجامعة القاهرة، قسم تجارة، وتحدر من طبقة عليا متوسطة، تختلف عن جيل الطبقات الدنيا التي أتى منها العريان وماضي، وفي الوقت الذي كان فيه العريان يلبس الجلباب ويطلق لحيته لما كان اميرا للجماعة الاسلامية في 1978، فإن عمرو خالد كان حليقا ويلبس البنطلون والقميصِ