مقاوم
03-22-2006, 10:04 AM
حسن نافعة - الحياة
كاتب مصري
«المسألة الشرقية» مصطلح ذائع الصيت صكته أوساط النخبة الثقافية في الغرب واستخدم على نطاق واسع اعتباراً من منتصف القرن الثامن عشر للدلالة على أوضاع الإمبراطورية العثمانية المتدهورة التي كان ينظر إليها كرجل أوروبا المريض الذي تتصارع القوى الطامعة لابتزازه في حياته ولوراثته بعد مماته. وعلى رغم ندرة استخدام هذا المصطلح، خصوصاً بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى وتقسيم تركتها بين الدول المنتصرة، إلا أن الصراع بين الورثة الأوروبيين، وأصحاب الحق الشرعيين، ما زال قائماً، لم ينته بعد، وإن اتخذ قوالب وأشكال جديدة.
تجدر الإشارة إلى أن مشروع محمد علي الكبير، الذي انطلق من مصر وكاد ينجح في تجديد شباب الإمبراطورية العثمانية من داخلها، كان فاجأ القوى الأوروبية المتربصة وكاد يبدد أحلامها. لذلك فعندما حانت اللحظة الحاسمة، وراحت القوى الطامحة في الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط تتهيأ لتسديد ضربتها الأخيرة في نعش الإمبراطورية المتداعية، بدت حينئذ شديدة الحرص على اتخاذ التدابير اللازمة لإجهاض ولادة أي مشروع نهضوي محتمل في المنطقة والحيلولة دون تكرار تجربة محمد علي. ولذلك لم يكن غريباً أن تتبنى القوى الغربية مشروع إنشاء دولة لليهود في فلسطين في نفس لحظة انهيار الإمبراطورية العثمانية وأن تتعهد برعاية هذه الدولة لتصبح الوكيل المعتمد لحراسة مصالحها الحيوية في المنطقة والضامن الأساسي لإجهاض أي مشروع لقيام دولة موحدة في هذا «الشرق» العجيب! ولتمكين هذا المشروع الصهيوني لم تتردد القوى الغربية من استخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لتفتيت المنطقة وتقطيع أوصالها وزرع الفتنة في كل درب من دروبها: فاستخدمت العروبة ضد الإسلام، واليهودية ضد العروبة والإسلام معاً، وكل الطوائف والفرق والملل والنِّحل ضد بعضها بعضاً.
غير أن الرياح لم تأت دائماً بكل ما اشتهته الدول الأوروبية الطامحة في وراثة الإمبراطورية العثمانية المتداعية، فبدخول هتلر إلى حلبة المنافسة اضطرت القوى الأوروبية الأخرى إلى دفع ثمن باهظ جداَ قبل أن تتمكن من تحطيمه والقضاء على طموحاته، وخرجت من الحرب العالمية الثانية مهيضة الجناح، وتحولت منطقة الشرق الأوسط بعدها إلى ساحة للصراع على النفوذ بين قطبين دوليين جديدين من خارج القارة الأوروبية كلها هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. وفي سياق الصراع المحتدم بين قطبي النظام الدولي الجديد, تمكنت دول المنطقة وشعوبها من الحصول على استقلالها السياسي وتوفرت شروط ومقومات أفضل لانطلاق مشروع نهضوي جديد للمنطقة قاده جمال عبد الناصر تحت شعارات قومية هذه المرة. غير أن هذا المشروع ما لبث أن تعثر بدوره، خصوصاً بعدما تمكن منه التحالف الأميركي الإسرائيلي ووجه إليه ضربته القاصمة في 1967.
هنا تجدر ملاحظة أن الدول الطامحة للهيمنة على المنطقة ظلت حريصة، ومنذ تجربة محمد علي الكبير، على أن تستند في تنفيذ مخططاتها إلى حليف محلي قوي. ونظراً إلى التناقضات الهائلة التي تعج بها المنطقة، لم يكن العثور على مثل هذا الحليف بالأمر العسير، ثم تنفض يدها عنه بعد ان تستنفد أغراضها منه وتشرع في البحث عن حليف آخر تنطبق عليه بصورة أفضل مقاييس المراحل التالية.
فحين كانت الخلافة الإسلامية هي العقبة الرئيسية أمام طموحات الهيمنة البريطانية، سهل على المملكة المتحدة أن تعثر في التيار القومي على الحليف الذي تبحث عنه. وكان من الطبيعي أن تشجع, بالتالي، اندلاع الثورة العربية بقيادة الشريف حسين، والي مكة في ذلك الوقت، وتحولها إلى شوكة في خاصرة الإمبراطورية العثمانية التي كانت تخوض الحرب ضدها وتستعد لتوجيه الضربة القاصمة لها. لكن ما إن وضعت الحرب أوزارها حتى نكصت بريطانيا بوعودها للحركة القومية واكتفت باسترضاء الأسرة الهاشمية وتعويضها ببعض العروش الهزيلة. وحين أصبح التيار القومي الراديكالي بقيادة عبد الناصر مصدر التهديد الرئيسي لطموحات الهيمنة الأميركية في الخمسينات والستينات، سهل على الولايات المتحدة استخدام تيار الإسلام التقليدي كوسيلة لحصاره وإنهاكه قبل أن تقرر الاعتماد على إسرائيل مباشرة في توجيه ضربة قاصمة له في 1967.
وها هي تبدو الآن كأنها تكرر اللعبة القديمة نفسها، بعدما تحول تيار الإسلام الأصولي أو الراديكالي ليصبح مصدر التهديد الرئيسي للمشروع الأميركي للهيمنة على العالم وللمشروع الإسرائيلي للهيمنة على المنطقة. فالقوى الطامحة للهيمنة تتصرف كأنها واثقة بأن بوسعها الاعتماد على التيار القومي تارة وعلى تيار الإسلام المحافظ تارة أخرى في مخططاتها الرامية لإضعاف تيار الإسلام الأصولي, وتبدو الآن كأنها تستعد لجولة المواجهة الحاسمة معه بالعمل على إسقاط النظام الإيراني الذي تعتبره مصدر قوته ومنبع إلهامه. عنوان هذه الجولة هو «ملف إيران النووي» والذي يبدو لي الآن كأنه الطبعة المعاصرة أو التطور الطبيعي للملف المعروف تاريخياً باسم «المسألة الشرقية».
والواقع أن الورقة الأولى في هذا الملف بدأت عقب انتصار الثورة الإسلامية التي قادها الإمام الخميني في إيران في العام 1979، ثم راحت أوراقه تتراكم تدريجاً مع ثبات أقدام هذه الثورة وتحولها إلى دولة قابلة لأن يتمحور حولها مشروع نهضوي جديد في المنطقة أكثر خطراً على الغرب من كل ما سبقه من مشاريع. فمن الواضح أن صدام الثورة الإيرانية مع إسرائيل، القوة الإقليمية الطامحة في الهيمنة على المنطقة، ومع الولايات المتحدة، القوة الإمبراطورية الطامحة في الهيمنة على العالم، بدأ منذ اللحظات الأولى للثورة. جسّد هذا الصدام حدثان، الأول: طرد البعثة الديبلوماسية الإسرائيلية من طهران وتحويل مقرها إلى مقر لمنظمة التحرير الفلسطينية، والثاني:
استيلاء الطلاب الغاضبين على مقر البعثة الديبلوماسية الأميركية واحتجاز العاملين فيها كرهائن لمدة 444 يوماً! غير أن دخول الولايات المتحدة وإسرائيل في صدام مباشر وشامل مع الثورة الإيرانية في تلك المرحلة المبكرة كان أمراً مستبعداً لسببين, الأول: حاجة الولايات المتحدة إلى دعم القوى الإسلامية (بشقيها الراديكالي والمحافظ) وحشدها في مواجهة الاتحاد السوفياتي الذي كان يشكل مصدر التهديد الأكبر في نظام دولي ثنائي القطبية، خصوصاً بعد احتلاله أفغانستان. الثاني: وجود بدائل أخرى لخوض حرب غير مباشرة ضد إيران بواسطة طرف أو أطراف ثالثة، إذ سعت الولايات المتحدة لتشجيع صدام على دخول الحرب ضد إيران وأعطت الدول الخليجية ضوءاً أخضر لدعمه سياسياً وتقديم مساعدات مالية سخية له. ثم, وبعدما نجحت في إشعال الحرب، عمدت إلى تغذيتها وإطالتها إلى أقصى مدى ممكن وذلك بتقديم المساعدة للطرفين المتحاربين علناً وسراً (فضيحة إيران-كونترا). وحين انتهت الحرب بعد ثمان سنوات برجحان كفة العراق كانت إيران تبدو ضعيفة وفاقدة لزخمها الثوري وأكثر ميلاً للتحول إلى دولة عادية والانشغال بالأمور الداخلية.
المفارقة هنا أنه بينما كانت إيران تعمل على إعادة ترتيب بيتها من الداخل وتركز على تعبئة وحشد طاقاتها على طريق التنمية كان أعداؤها المتربصون يرتكبون من الحماقات ما يكفي لحصولها على جوائز مجانية على صعيد السياسة الخارجية لم تكن تحلم بالحصول عليها بجهودها الذاتية. فحين أراد عراق صدام، خصم إيران الإقليمي العتيد وبوابته المطلة على العالم العربي، أن يصبح القوة الإقليمية الأولى في المنطقة بضم الكويت وابتلاعها، تكفلت الولايات المتحدة، خصم إيران العالمي, بتحجيم طموحاته ووضعه «في القفص». وحين قرر بن لادن، حليف نظام طالبان المعادي لإيران وخصمها الفكري العتيد، توجيه ضربة قاسية للولايات المتحدة في أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 كانت إيران هي المستفيد الأول من فعل بن لادن الأحمق ومن رد الفعل الأميركي الأكثر حمقاً، فتم إسقاط نظام طالبان المعادي. وحين اعتقد اليمين الأميركي المحافظ أن اللحظة باتت مناسبة لتنفيذ «مشروع القرن الأميركي الجديد»، انطلاقاً من غزو العراق، كانت إيران مرة أخرى هي أكبر المستفيدين.
فمن ناحية، تكفلت الولايات المتحدة هذه المرة بإزاحة نظام صدام حسين نهائياً، ومن ناحية أخرى تكفلت المقاومة العراقية وفلول تنظيم القاعدة الهارب من أفغانستان إلى العراق باستنزاف القوات الأميركية، لينتهي الأمر بتدمير العراق كدولة. وبينما كان المحافظون الجدد في إدارة جورج بوش يخططون لكي يصبح العراق نقطة ارتكاز تنطلق منها القوات الأميركية لتطهير المنطقة من النظم والقوى المعادية لها، وعلى رأسها النظامان الإيراني والسوري وقوى المقاومة المسلحة في فلسطين ولبنان، إذا بسياساتهم تؤدي إلى انغراس الولايات المتحدة حتى أذنيها في الوحل العراقي.
ومن الواضح أن الولايات المتحدة باتت تعتقد أن إيران أصبحت القوة الإقليمية الأكبر في منطقة الشرق الأوسط وربما في العالم الإسلامي كله. ولأن هذه القوة هي بطبيعتها قوة معادية لها، أو لا يمكن أن تكون حليفة على الأقل، فمن المتوقع أن ترسم الولايات المتحدة سياستها على أساس استحالة التعايش مع إيران في ظل استمرار نظامها الإسلامي الراهن، خصوصاً أن نفوذها مرشح للتزايد في المرحلة المقبلة وليس للانكماش أو الانحسار. فبسقوط نظام طالبان في أفغانستان أصبح النفوذ الإيراني مفتوحا على شرق العالم الإسلامي كله، وبسقوط نظام صدام حسين في العراق اصبح نفوذها مفتوحا على غرب العالم الإسلامي كله، فضلاً عن أن لها حلفاء أقوياء في سورية ولبنان وربما في فلسطين أيضاً.
وفي اعتقادي أن الولايات المتحدة تدرك تمام الإدراك أن معركتها ليست مع إيران كدولة وإنما مع ما تجسده وبالتالي مع التحالف الذي تشكل إيران نواته الصلبة، أي التحالف الإيراني السوري المدعوم من جانب المقاومة الفلسطينية وحزب الله اللبناني. ولذلك لا أشك لحظة في أن معركة إعادة ترتيب الأوراق على الساحة اللبنانية، والذي بدأت بأزمة التمديد للسيد إميل لحود التي بلغت ذروتها باغتيال الرئيس رفيق الحريري، كانت هي البداية الحقيقية لسلسلة معارك على طريق الحرب لتغيير النظام في طهران، وهي لن تكون سهلة على أي حال، بالنظر إلى الأوراق التي يملكها الطرفان، خصوصاً الطرف الإيراني. وليس ملف إيران النووي سوى واحدة من هذه المعارك، أو بالأحرى ذريعة من ذرائعها.
الأوراق التي تملكها إيران كثيرة. فهناك ورقة النفط، وهي من أهم الأوراق في مرحلة تبدو فيها أسعار هذا الخام الثمين مرشحة للارتفاع أكثر، على رغم تشغيل محطات استخراج وتكرير النفط بأقصى طاقاتها الإنتاجية. وهناك ورقة العراق، حيث يبدو النفوذ الإيراني قادراً على تحويل الساحة العراقية إلى جحيم حقيقي لقوات أميركية يصل تعدادها إلى نحو مئة وخمسين ألفاً. فمن المتوقع أن تتحول هذه القوات إلى رهائن إذا ما أشهر الشيعة سلاح المقاومة في وجهها. وهناك ورقة «حزب الله» القادر على توجيه ضربات موجعة إلى إسرائيل إذا ما تعرضت حليفته إيران للأذى. وهناك أخيراً المقاومة المسلحة الفلسطينية التي يمكن لإيران مدها بالمال والسلاح، بما قد يزيد من فاعلية عملياتها.
غير أن هذه الأوراق الإيرانية الكثيرة قد لا تكون كافية لردع الإدارة الأميركية الحالية. فهذه الإدارة التي ترسم سياستها استناداً إلى قناعات إيديولوجية يصعب تغييرها، تعتقد أن في وسعها الاعتماد على «أنظمة الحكم العربية السنية الصديقة في المنطقة». ولا شك أنها ستحاول استغلال المخاوف التي عبر عنها بعض المسؤولين الأردنيين في معرض حديثهم عن «الهلال الشيعي»، أو بعض المسؤولين السعوديين الذين عبروا عن قلقهم من أن السياسات الأميركية في المنطقة تصب في مصلحة إيران وتضاعف من نفوذها. غير أنه لا توجد، في تقديري، مصلحة عربية على الإطلاق في التحالف مع الولايات المتحدة ضد إيران، أو حتى في الوقوف على الحياد في أي مواجهة محتملة بين الطرفين.
المصلحة العربية تكمن أولاً في منع حدوث مثل هذه المواجهة، إن أمكن، وثانيا: في تقديم الدعم لإيران إذا استحال منع حدوثها. ولو كان بيدي الأمر لنصحت القادة العرب بإجراء حوار فوري مع إيران. لكن شروط هذا الحوار لا تبدو متوافرة. فجميع النظم العربية تبدو مشغولة بواقعها اليومي التعس على نحو يبدو وكأنه يحجب عنها رؤية الأوضاع الاستراتيجية في المنطقة وفي العالم. وهي لذلك تبدو سائرة معصوبة العينين نحو كارثة جديدة. نسأل الله لشعوب المنطقة السلامة وأن يزيل الغشاوة من فوق أعين نظمها الحاكمة.
كاتب مصري
«المسألة الشرقية» مصطلح ذائع الصيت صكته أوساط النخبة الثقافية في الغرب واستخدم على نطاق واسع اعتباراً من منتصف القرن الثامن عشر للدلالة على أوضاع الإمبراطورية العثمانية المتدهورة التي كان ينظر إليها كرجل أوروبا المريض الذي تتصارع القوى الطامعة لابتزازه في حياته ولوراثته بعد مماته. وعلى رغم ندرة استخدام هذا المصطلح، خصوصاً بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى وتقسيم تركتها بين الدول المنتصرة، إلا أن الصراع بين الورثة الأوروبيين، وأصحاب الحق الشرعيين، ما زال قائماً، لم ينته بعد، وإن اتخذ قوالب وأشكال جديدة.
تجدر الإشارة إلى أن مشروع محمد علي الكبير، الذي انطلق من مصر وكاد ينجح في تجديد شباب الإمبراطورية العثمانية من داخلها، كان فاجأ القوى الأوروبية المتربصة وكاد يبدد أحلامها. لذلك فعندما حانت اللحظة الحاسمة، وراحت القوى الطامحة في الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط تتهيأ لتسديد ضربتها الأخيرة في نعش الإمبراطورية المتداعية، بدت حينئذ شديدة الحرص على اتخاذ التدابير اللازمة لإجهاض ولادة أي مشروع نهضوي محتمل في المنطقة والحيلولة دون تكرار تجربة محمد علي. ولذلك لم يكن غريباً أن تتبنى القوى الغربية مشروع إنشاء دولة لليهود في فلسطين في نفس لحظة انهيار الإمبراطورية العثمانية وأن تتعهد برعاية هذه الدولة لتصبح الوكيل المعتمد لحراسة مصالحها الحيوية في المنطقة والضامن الأساسي لإجهاض أي مشروع لقيام دولة موحدة في هذا «الشرق» العجيب! ولتمكين هذا المشروع الصهيوني لم تتردد القوى الغربية من استخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لتفتيت المنطقة وتقطيع أوصالها وزرع الفتنة في كل درب من دروبها: فاستخدمت العروبة ضد الإسلام، واليهودية ضد العروبة والإسلام معاً، وكل الطوائف والفرق والملل والنِّحل ضد بعضها بعضاً.
غير أن الرياح لم تأت دائماً بكل ما اشتهته الدول الأوروبية الطامحة في وراثة الإمبراطورية العثمانية المتداعية، فبدخول هتلر إلى حلبة المنافسة اضطرت القوى الأوروبية الأخرى إلى دفع ثمن باهظ جداَ قبل أن تتمكن من تحطيمه والقضاء على طموحاته، وخرجت من الحرب العالمية الثانية مهيضة الجناح، وتحولت منطقة الشرق الأوسط بعدها إلى ساحة للصراع على النفوذ بين قطبين دوليين جديدين من خارج القارة الأوروبية كلها هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. وفي سياق الصراع المحتدم بين قطبي النظام الدولي الجديد, تمكنت دول المنطقة وشعوبها من الحصول على استقلالها السياسي وتوفرت شروط ومقومات أفضل لانطلاق مشروع نهضوي جديد للمنطقة قاده جمال عبد الناصر تحت شعارات قومية هذه المرة. غير أن هذا المشروع ما لبث أن تعثر بدوره، خصوصاً بعدما تمكن منه التحالف الأميركي الإسرائيلي ووجه إليه ضربته القاصمة في 1967.
هنا تجدر ملاحظة أن الدول الطامحة للهيمنة على المنطقة ظلت حريصة، ومنذ تجربة محمد علي الكبير، على أن تستند في تنفيذ مخططاتها إلى حليف محلي قوي. ونظراً إلى التناقضات الهائلة التي تعج بها المنطقة، لم يكن العثور على مثل هذا الحليف بالأمر العسير، ثم تنفض يدها عنه بعد ان تستنفد أغراضها منه وتشرع في البحث عن حليف آخر تنطبق عليه بصورة أفضل مقاييس المراحل التالية.
فحين كانت الخلافة الإسلامية هي العقبة الرئيسية أمام طموحات الهيمنة البريطانية، سهل على المملكة المتحدة أن تعثر في التيار القومي على الحليف الذي تبحث عنه. وكان من الطبيعي أن تشجع, بالتالي، اندلاع الثورة العربية بقيادة الشريف حسين، والي مكة في ذلك الوقت، وتحولها إلى شوكة في خاصرة الإمبراطورية العثمانية التي كانت تخوض الحرب ضدها وتستعد لتوجيه الضربة القاصمة لها. لكن ما إن وضعت الحرب أوزارها حتى نكصت بريطانيا بوعودها للحركة القومية واكتفت باسترضاء الأسرة الهاشمية وتعويضها ببعض العروش الهزيلة. وحين أصبح التيار القومي الراديكالي بقيادة عبد الناصر مصدر التهديد الرئيسي لطموحات الهيمنة الأميركية في الخمسينات والستينات، سهل على الولايات المتحدة استخدام تيار الإسلام التقليدي كوسيلة لحصاره وإنهاكه قبل أن تقرر الاعتماد على إسرائيل مباشرة في توجيه ضربة قاصمة له في 1967.
وها هي تبدو الآن كأنها تكرر اللعبة القديمة نفسها، بعدما تحول تيار الإسلام الأصولي أو الراديكالي ليصبح مصدر التهديد الرئيسي للمشروع الأميركي للهيمنة على العالم وللمشروع الإسرائيلي للهيمنة على المنطقة. فالقوى الطامحة للهيمنة تتصرف كأنها واثقة بأن بوسعها الاعتماد على التيار القومي تارة وعلى تيار الإسلام المحافظ تارة أخرى في مخططاتها الرامية لإضعاف تيار الإسلام الأصولي, وتبدو الآن كأنها تستعد لجولة المواجهة الحاسمة معه بالعمل على إسقاط النظام الإيراني الذي تعتبره مصدر قوته ومنبع إلهامه. عنوان هذه الجولة هو «ملف إيران النووي» والذي يبدو لي الآن كأنه الطبعة المعاصرة أو التطور الطبيعي للملف المعروف تاريخياً باسم «المسألة الشرقية».
والواقع أن الورقة الأولى في هذا الملف بدأت عقب انتصار الثورة الإسلامية التي قادها الإمام الخميني في إيران في العام 1979، ثم راحت أوراقه تتراكم تدريجاً مع ثبات أقدام هذه الثورة وتحولها إلى دولة قابلة لأن يتمحور حولها مشروع نهضوي جديد في المنطقة أكثر خطراً على الغرب من كل ما سبقه من مشاريع. فمن الواضح أن صدام الثورة الإيرانية مع إسرائيل، القوة الإقليمية الطامحة في الهيمنة على المنطقة، ومع الولايات المتحدة، القوة الإمبراطورية الطامحة في الهيمنة على العالم، بدأ منذ اللحظات الأولى للثورة. جسّد هذا الصدام حدثان، الأول: طرد البعثة الديبلوماسية الإسرائيلية من طهران وتحويل مقرها إلى مقر لمنظمة التحرير الفلسطينية، والثاني:
استيلاء الطلاب الغاضبين على مقر البعثة الديبلوماسية الأميركية واحتجاز العاملين فيها كرهائن لمدة 444 يوماً! غير أن دخول الولايات المتحدة وإسرائيل في صدام مباشر وشامل مع الثورة الإيرانية في تلك المرحلة المبكرة كان أمراً مستبعداً لسببين, الأول: حاجة الولايات المتحدة إلى دعم القوى الإسلامية (بشقيها الراديكالي والمحافظ) وحشدها في مواجهة الاتحاد السوفياتي الذي كان يشكل مصدر التهديد الأكبر في نظام دولي ثنائي القطبية، خصوصاً بعد احتلاله أفغانستان. الثاني: وجود بدائل أخرى لخوض حرب غير مباشرة ضد إيران بواسطة طرف أو أطراف ثالثة، إذ سعت الولايات المتحدة لتشجيع صدام على دخول الحرب ضد إيران وأعطت الدول الخليجية ضوءاً أخضر لدعمه سياسياً وتقديم مساعدات مالية سخية له. ثم, وبعدما نجحت في إشعال الحرب، عمدت إلى تغذيتها وإطالتها إلى أقصى مدى ممكن وذلك بتقديم المساعدة للطرفين المتحاربين علناً وسراً (فضيحة إيران-كونترا). وحين انتهت الحرب بعد ثمان سنوات برجحان كفة العراق كانت إيران تبدو ضعيفة وفاقدة لزخمها الثوري وأكثر ميلاً للتحول إلى دولة عادية والانشغال بالأمور الداخلية.
المفارقة هنا أنه بينما كانت إيران تعمل على إعادة ترتيب بيتها من الداخل وتركز على تعبئة وحشد طاقاتها على طريق التنمية كان أعداؤها المتربصون يرتكبون من الحماقات ما يكفي لحصولها على جوائز مجانية على صعيد السياسة الخارجية لم تكن تحلم بالحصول عليها بجهودها الذاتية. فحين أراد عراق صدام، خصم إيران الإقليمي العتيد وبوابته المطلة على العالم العربي، أن يصبح القوة الإقليمية الأولى في المنطقة بضم الكويت وابتلاعها، تكفلت الولايات المتحدة، خصم إيران العالمي, بتحجيم طموحاته ووضعه «في القفص». وحين قرر بن لادن، حليف نظام طالبان المعادي لإيران وخصمها الفكري العتيد، توجيه ضربة قاسية للولايات المتحدة في أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 كانت إيران هي المستفيد الأول من فعل بن لادن الأحمق ومن رد الفعل الأميركي الأكثر حمقاً، فتم إسقاط نظام طالبان المعادي. وحين اعتقد اليمين الأميركي المحافظ أن اللحظة باتت مناسبة لتنفيذ «مشروع القرن الأميركي الجديد»، انطلاقاً من غزو العراق، كانت إيران مرة أخرى هي أكبر المستفيدين.
فمن ناحية، تكفلت الولايات المتحدة هذه المرة بإزاحة نظام صدام حسين نهائياً، ومن ناحية أخرى تكفلت المقاومة العراقية وفلول تنظيم القاعدة الهارب من أفغانستان إلى العراق باستنزاف القوات الأميركية، لينتهي الأمر بتدمير العراق كدولة. وبينما كان المحافظون الجدد في إدارة جورج بوش يخططون لكي يصبح العراق نقطة ارتكاز تنطلق منها القوات الأميركية لتطهير المنطقة من النظم والقوى المعادية لها، وعلى رأسها النظامان الإيراني والسوري وقوى المقاومة المسلحة في فلسطين ولبنان، إذا بسياساتهم تؤدي إلى انغراس الولايات المتحدة حتى أذنيها في الوحل العراقي.
ومن الواضح أن الولايات المتحدة باتت تعتقد أن إيران أصبحت القوة الإقليمية الأكبر في منطقة الشرق الأوسط وربما في العالم الإسلامي كله. ولأن هذه القوة هي بطبيعتها قوة معادية لها، أو لا يمكن أن تكون حليفة على الأقل، فمن المتوقع أن ترسم الولايات المتحدة سياستها على أساس استحالة التعايش مع إيران في ظل استمرار نظامها الإسلامي الراهن، خصوصاً أن نفوذها مرشح للتزايد في المرحلة المقبلة وليس للانكماش أو الانحسار. فبسقوط نظام طالبان في أفغانستان أصبح النفوذ الإيراني مفتوحا على شرق العالم الإسلامي كله، وبسقوط نظام صدام حسين في العراق اصبح نفوذها مفتوحا على غرب العالم الإسلامي كله، فضلاً عن أن لها حلفاء أقوياء في سورية ولبنان وربما في فلسطين أيضاً.
وفي اعتقادي أن الولايات المتحدة تدرك تمام الإدراك أن معركتها ليست مع إيران كدولة وإنما مع ما تجسده وبالتالي مع التحالف الذي تشكل إيران نواته الصلبة، أي التحالف الإيراني السوري المدعوم من جانب المقاومة الفلسطينية وحزب الله اللبناني. ولذلك لا أشك لحظة في أن معركة إعادة ترتيب الأوراق على الساحة اللبنانية، والذي بدأت بأزمة التمديد للسيد إميل لحود التي بلغت ذروتها باغتيال الرئيس رفيق الحريري، كانت هي البداية الحقيقية لسلسلة معارك على طريق الحرب لتغيير النظام في طهران، وهي لن تكون سهلة على أي حال، بالنظر إلى الأوراق التي يملكها الطرفان، خصوصاً الطرف الإيراني. وليس ملف إيران النووي سوى واحدة من هذه المعارك، أو بالأحرى ذريعة من ذرائعها.
الأوراق التي تملكها إيران كثيرة. فهناك ورقة النفط، وهي من أهم الأوراق في مرحلة تبدو فيها أسعار هذا الخام الثمين مرشحة للارتفاع أكثر، على رغم تشغيل محطات استخراج وتكرير النفط بأقصى طاقاتها الإنتاجية. وهناك ورقة العراق، حيث يبدو النفوذ الإيراني قادراً على تحويل الساحة العراقية إلى جحيم حقيقي لقوات أميركية يصل تعدادها إلى نحو مئة وخمسين ألفاً. فمن المتوقع أن تتحول هذه القوات إلى رهائن إذا ما أشهر الشيعة سلاح المقاومة في وجهها. وهناك ورقة «حزب الله» القادر على توجيه ضربات موجعة إلى إسرائيل إذا ما تعرضت حليفته إيران للأذى. وهناك أخيراً المقاومة المسلحة الفلسطينية التي يمكن لإيران مدها بالمال والسلاح، بما قد يزيد من فاعلية عملياتها.
غير أن هذه الأوراق الإيرانية الكثيرة قد لا تكون كافية لردع الإدارة الأميركية الحالية. فهذه الإدارة التي ترسم سياستها استناداً إلى قناعات إيديولوجية يصعب تغييرها، تعتقد أن في وسعها الاعتماد على «أنظمة الحكم العربية السنية الصديقة في المنطقة». ولا شك أنها ستحاول استغلال المخاوف التي عبر عنها بعض المسؤولين الأردنيين في معرض حديثهم عن «الهلال الشيعي»، أو بعض المسؤولين السعوديين الذين عبروا عن قلقهم من أن السياسات الأميركية في المنطقة تصب في مصلحة إيران وتضاعف من نفوذها. غير أنه لا توجد، في تقديري، مصلحة عربية على الإطلاق في التحالف مع الولايات المتحدة ضد إيران، أو حتى في الوقوف على الحياد في أي مواجهة محتملة بين الطرفين.
المصلحة العربية تكمن أولاً في منع حدوث مثل هذه المواجهة، إن أمكن، وثانيا: في تقديم الدعم لإيران إذا استحال منع حدوثها. ولو كان بيدي الأمر لنصحت القادة العرب بإجراء حوار فوري مع إيران. لكن شروط هذا الحوار لا تبدو متوافرة. فجميع النظم العربية تبدو مشغولة بواقعها اليومي التعس على نحو يبدو وكأنه يحجب عنها رؤية الأوضاع الاستراتيجية في المنطقة وفي العالم. وهي لذلك تبدو سائرة معصوبة العينين نحو كارثة جديدة. نسأل الله لشعوب المنطقة السلامة وأن يزيل الغشاوة من فوق أعين نظمها الحاكمة.