المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سيرة جديدة تكشف حياة مارك توين بتفاصيلها



مقاوم
03-22-2006, 09:57 AM
ميسيسبي تدفق في أعماله حتى الرمق الأخير ...

جاد الحاج


في كانون الأول (ديسمبر) عام 1900 ألقى ونستون تشرشل محاضرة في فندق وولدورف أستوريا في نيويورك قدّمه لها الكاتب الأميركي مارك توين بقوله: «السيد تشرشل انكليزي لجهة والده، أميركي لجهة أمه، ما يجعله رجلاً كاملاً» أو هكذا نقل العبارة كاتب سيرة تشرشل روي جينكينز. الا ان بقية كلام توين لم تكن في نطاق المديح المداهن نفسه، اذ كان توين مناوئاً لتورّط بريطانيا في حرب أفريقيا الجنوبية وحرب أميركا في الفيليبين، وعن هاتين الحربين لم يخف توين امتعاضه واعتراضه ولو في عبارات بالغة الفطنة.

وفي سيرة جديدة تتناول حياته وأعماله بقلم رون باورز صادرة عن دار «سكريتبنر» في 722 صفحة، يبذل باورز جهداً كبيراً ليبرهن أن توين هو أوّل الكتّاب الأميركيين المتحررين من التركة الانكليزية: «الانكليزي في نظره يفعل الأشياء لأنها حدثت من قبل، أما الأميركي فيفعلها لأنها لم تحدث». وينقل باورز الكثير من الأقوال المأثورة عن توين، خصوصاً ذات الطرفة الأميركية بامتياز: «عندما تأتي نهاية العالم أتمنى أن أكون في سينسيناتي لأنهم متأخرون هناك عشرين سنة عن بقية العالم».

نشأ مارك توين (اسمه الحقيقي صاموئيل كليمنز) في أسرة جنوبية في ميسوري وسط مجتمع متعصب للرق وأسرة ملكت عبيداً، لكن الصبي كان متمرّداً حدّ العصيان منذ طفولته. بل كان ساديّاً في بعض «فصوله» وعنصرياً في مواقفه المستمدة من نشأته، خصوصاً تجاه السكان الأصليين، أو الهنود الحمر. ويتبدى هذا المنحى في رسائله الباكرة الى أهله لدى زيارته شرق البلاد: «الأفضل أن يدهن المرء وجهه أسود لأن العبيد هنا أفضل حظاً من البيض». وفي كتابه الشهير «هكلبيري فين» تتردد كلمة «نيغر» مئات المرّات، وعلى رغم التعاطف اللطيف بين هكلبيري والزنجي جيم، بقيت لغة الكتاب مهينة نسبة الى زنوج كثيرين وحظره مستمرّاً في بعض الولايات. أما بالنسبة الى النساء فكان توين ضد حق المرأة في التصويت. ورسم لنفسه صورة ذكورية خشنة ذات طبيعة اقتحامية سرعان ما سقطت لدى اندلاع الحرب الأهلية الأميركية حين فرّ مع فرقته الجنوبية من مواجهة المعارك واختبأ في صحراء نيفادا حتى نهاية الحرب.

وفي كتابه «الأبرياء في الخارج» هاجم توين بضراوة الأميركيين المتعلقين بأوروبا القديمة، مصدر ثقافتهم ومحتدهم، وذلك عبر نقله وقائع رحلة قام بها مع حفنة من الأميركيين الى أوروبا والبحر الأبيض المتوسط والأراضي المقدسة عام 1867. ولما وصلت الباخرة الى مرفأ بيريوس أمرت السلطات اليونانية ركابها وطاقمها بالبقاء على متنها بسبب تفشي وباء الكوليرا، إلاّ ان توين ورفاقاً له كانوا عاثوا فساداً وفوضى في الرحلة تسللوا ليلاً من السفينة وأكملوا «رحلتهم» تخريباً للبساتين الى ان وصلوا الى الأكروبوليس حيث رشوا حارسها ودخلوا... ولا يرى باورز في كل ذلك مدعاة للتعليق، إلا أن كبير نقاد «التايم» البريطانية جون كاري قرأ في ذلك اسلوب قلّة الاحترام الأميركي لبلدان الغير وثقافاتهم وقوانينهم، مما سيظهر لاحقاً في سياسة الولايات المتحدة تجاه العالم.

المفارقات المتناقضة بدأت عندما التقى توين بليفي لانغدون ابنة أسرة ثرية ليبرالية متحمسة لمنع الرّق، بل مرتبطة بما كان يسمى «حركة سكة الحديد السرية» نسبة الى تهريب الزنوج من الجنوب الى الشمال. وكان كاهن رعيتهم شقيق هارييت بيتشر ستو مؤلفة «كوخ العم طوم» أشهر الروايات التحريرية في زمن ما بعد الحرب الأهلية الأميركية. طلب توين يد ليفي فطلب منه والدها ان يزوده أسماء معارفه وعناوينهم، لكن معظم هؤلاء حذّروا الأب من مغبة تزويج ابنتهم بسكّير، عربيد، فوضوي، كاره للزنوج. مع ذلك وثق الأب برأي ابنته ووافق على الزيجة، فكان أن نقلت ليفي زوجها مارك توين الى قلب العالم الأوروبي الذي طالما انتقده، فإلى جانب الأثاث وأسلوب الحياة المرفّه ارستقراطياً تحوّل «مقتحم» الأكروبوليس الى مناهض للامبريالية الأميركية الوليدة، ومعارضاً للرّق وداعية لحقوق المرأة!

كتب تي. إس. اليوت ان مصدر إلهام مارك توين كان نهر ميسيسيبي حيث عمل ردحاً قبطاناً لزورق تجاري، فالنهر الكبير نضح فكاهة ومغامرات ومآسي، اذ أغرق أخاه الأصغر هنري، وشغل مخيلة ملايين القراء عبر مغامرات طوم سويير وهكلبيري فين. ويقول إليوت: «ان وجه الماء، مع الوقت، أصبح كتاباً رائعاً، ربما اعتبره بعضهم لغة ميتة، لكنه أعارني عقله بلا تردد، وسلّمني أغلى أسراره كأنه يبوح بها في صوت جليّ». ويكتب باورز «يبدو ان النهر أصبح ملاذ حياته وذاكرته ليس فقط في سنوات سكناه قرب ضفافه، بل تراه تدفق فيه طوال حياته من دون أن يترك أثراً لطميه الشهير، فحتى في سنواته الأخيرة بقيت ذاكرته متوقدة حافلة بموحيات ميسيسبي».

توفي توين عام 1910 عن 75 عاماً وتعرّضت مؤلفاته بعد موته، كما في حياته، الى كثير من النقد بسبب لغتها البسيطة و «العفرتات» الشهيرة عن أبطالها وضربها عرض الحائط أخلاقيات التربية التقليدية المستندة الى مجتمع «توراتي» صارم.

سئل توين مرّة عن رأيه في نزع السلاح حول العالم بعدما كان قيصر روسيا أعرب عن استعداده لتسليم سلاح بلاده في ذلك النطاق، فقال: «اذا سلّم القيصر سلاحه، أنا أيضاً أسلّم سلاحي. أجمعوا الباقي، لن تكون المسألة صعبة!».