المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الرئيس المولع بجسده المقدس...



فاطمي
03-16-2006, 12:37 AM
هوشينك الوزيري


نقلا عن صحيفة "النهار" اللبنانية


في الثاني والعشرين من تموز 1979، أي بعد خمسة أيام فقط من ازاحته الرئيس العراقي أحمد حسن البكر، عقد الرئيس العراقي الجديد صدام حسين اجتماعا عاجلا للقيادات البعثية ودُعي التلفزيون العراقي آنذاك لتصوير الاجتماع وبثه. ظهر الرئيس العراقي جالسا على كرسي في وسط منصة المسرح يدخن سيكاره الكوبي صارخا بوجوه الحاضرين ومشيرا باصبعه الى عدد من الجالسين الذين يتم جرهم مباشرة من جانب رجال الحماية بشكل عنيف الى خارج قاعة الاجتماع دون اعطائهم اية فرصة للكلام.

كان الاجتماع عرضا قاسيا لسلطة رجل واحد. فقد جُرجر 19 قيادياً أمام الكاميرات الى خارج القاعة حيث تم اعدامهم واحدا واحدا ... السيكار الكوبي، البكاء الدرامي– بكى صدام في هذا الاجتماع- الانفعالات الغاضبة وشخصية مركزية واحدة، شكلت كل هذه العناصر مشهدا تدشينيا لعرض تراجيدي عنيف مليء بالموت والرعب استمر حوالى ربع قرن.

تجلت محاولات الاستعراض الشكلي بالافراط في نشر الصور الفوتوغرافية للرئيس المولع بجسده وفي أوضاع مختلفة وبأزياء متنوعة. وفي مهنته هذه كان الرئيس أقرب الى موديل وعارض أزياء منه الى رئيس دولة . وكان لكل زي يرتديه الرئيس ويتم تصويره لينشر على الملأ إحالة دلالية سلطوية الى حقل أو اختصاص أو رمز، فهو يمثل الأب الحنون بين أفراد عائلته والقائد الشجاع الصارم بين جنوده والمؤمن شديد الورع في بيت الله والمتخرج الجامعي حاملا شهادته بيده والمحارب التأريخي ممتطيا الحصان شاهرا سيفه الخ... من مجالات اجتماعية وحقول مهنية ورموز تاريخية حاول صدام حسين التماهي معها عبر الاستيطان الصوري فيها. لم تكتف ذات صدام بوجودها بل حاولت تمثل الوجود كله، واختزاله باعتبارها الذات الشاملة والرمز الكامل.

لم يكن الحضور المطلق لجسد صدام حسين وصورته نهاراً عبر الآلاف من الجداريات الضخمة التي تظهر أدق تفاصيل الوجه وملامحه واحتلاله شاشة التلفزيون ليلاً لاطول فترة ممكنة، إلا عملية رمزية لتقديسه وجعله وثناً يجب اطاعته من خلال تقزيم الآخر وإلغائه. وبما ان صورة جسد الرئيس كانت تتضخم وهي تنمو رمزياً باستمرار (اكتساب صفات والقاب واسماء ذات رأسمال رمزي) كان لا بد من بحث دؤوب عن حلبات صراع قادرة على تأدية وظيفتين في آن واحد: وظيفة عرض ذات السلطة في اقوى صورها ووظيفة تفريغ قيح كل هذا التضخيم الذي هو بأمس الحاجة الى ممارسة القسوة. لهذا اتجه النظام بكل ثقله العسكري نحو كردستان العراق وباتت قرى كردستان وجبالها أفضل حلبة عرض والكردي، ومن ثم الشيعي، أفضل خصم لتلقي القسوة المفرطة.

ان مراجعة سريعة لبعض سلوكات الرئيس وأفعاله كفيلة بتشخيص أعراض هذا المرض منذ بدايات نشوئه السياسي، وتأريخه الشخصي والسياسي يفضح وبسهولة نزعة قوية لمحاولات استعراض الذات أمام الاخرين في صدام حسين الطفل الذي يفقأ أعين الابقار والماشية في قرية عوجة والمراهق المشاكس الذي يعيش عند خاله الغني خير الله طلفاح ويدخل السجن بتهمة قتل قريب له معلم المدرسة الابتدائية سعدون التكريتي والسياسي الشمولي الذي يحاول التحول الى وثن يعبده أكثر من عشرين مليون شخص. وجذور هذه النزعة ترجع الى المراحل الاولى من حياته التي تميزت بالحرمان والنبذ والتهميش خصوصا بعد وفاة والده وزواج امه من رجل آخر (ابرهيم حسن).

وبما انه تتعذر علينا قراءة كل تاريخه وحصر كل سلوكاته الاستعراضية فسنقتصر هنا على ذكر بضعة أمثلة ذات دلالات سيكولوجية مهمة. في ليلة محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم الفاشلة التي قادها حزب البعث العراقي في تشرين الأول 1959 والتي شارك فيها عبد الوهاب الغريري وفاتك الصافي وصدام حسين وآخرون، كان الواجب المكلف به صدام في تلك المهمة هو البقاء داخل السيارة وحراستها ومراقبة الوضع حتى يكون مستعدا لعودة العناصر المهاجمة والانطلاق بالسيارة. ونستطيع القول إن هذا الواجب كان عبارة عن دور ساكن، لكن صدام لم يرض بالبقاء في الخطوط الخلفية حيث لا أحد يستطيع ان يراه لهذا، وفي خضم العملية خالف الخطة المرسومة كلها، ودفعت به نزعة الاستعراض الى اختراق خطوط الحدث الامامية - كما أشاعت الرواية الرسمية لدولة صدام حسين- ليطلق النار على موكب الزعيم قاسم.

وفي أواسط السبعينات بدأ "السيد النائب" صدام بتحركات واسعة للعب دور الرئيس والقائد، وكان حضوره المتكرر في كل مكان وبيت من أقصى الجنوب الى أبعد قرية في كردستان العراق دلالة حيوية على حضور الذات في كل العراق وسلطتها على كل العراق. وفيما كان الرئيس أحمد حسن البكر يقضي معظم أوقاته في الفترات الاخيرة من حكمه في الضحك البليد أمام المسلسل العراقي الكوميدي التهريجي "تحت موسى الحلاق"، كان العراقيون منشغلين بأمر آخر، بأمر النائب الصاعد ومفاجآته وسيناريواته وهو يزور المواطنين ويفتح ثلاجاتهم ويتحدث معهم عن همومهم ومشاكلهم. وكانت صورته تعلق على جدران الدوائر والمؤسسات الحكومية الى جانب صورة أحمد حسن البكر.

وعبر حضوره هذا حاول صدام ان يكون ذا سلطة كلية حتى قبل تسلم مهمات الرئاسة. وبعد عملية ازاحة البكر عام 1979 أخذت الصورة تنتشر لتحتل كل الزوايا وتحشر في كل الاماكن ( الصفحة الاولى من الكتب المدرسية - اغلفة الدفاتر - جدران البيوت - جدران الملاهي - داخل الميداليات والساعات... الخ).

وهكذا خلق صدام حلبات متعددة لعرض الجسد المقدس، أمام المتفرج العراقي وفرض السلطة والقوة اللتين تشعان منه في أجمل وأقسى اشكالهما، وهو هنا يشبه أي وثن أو طوطم وقوتهما على الأتباع الذين يؤمنون بهما. وربما قوة إرهاب الصورة وعلاقة الوثن بالتابع تفسران خروج عدد قليل جدا من العراقيين من الحشد المتجمع في ساحة الفردوس لضرب تمثال صدام حسين بعد سقوطه على الارض، ويجب ألا ننسى بأن الأميركيين هم الذين أسقطوا التمثال.

كان هناك خبراء فنيون مختصون في مجال تجميل وجه صدام حسين وجسده، فازالة التجاعيد والبثور من وجه الرئيس هي اعطاء النضارة الى قوام السلطة وقوتها، كما كان هناك متخصصون بعملية "مَنْتَجَة" الصورة التلفزيونية لابراز الرئيس دائما أعلى الاشخاص وأكثرهم رشاقة وفتوة. انها رشاقة السلطة وفتوتها وعلوها، سلطة الصورة والوثن.

امتلكت استعراضات السلطة التي كانت تجري في الحلبات الداخلية خطابها الايديولوجي الخاص والذي كان يوجه حصرا الى جمهور من المتفرجين - الشعب العراقي - يُجبرون على أداء وظيفتين: أولا، رؤية أجساد السلطة وهي في أوضاع مختلفة. وثانيا، إظهار التأثرات والانفعالات المختلفة وصولا الى حالة الاندماج مع التعبيرات المختلفة لـ"عضلات السلطة" وقوتها وذكورتها وجمالها وهيبتها . وتكتمل عناصر العرض وفضاء الحلبة بوجود خصم مسبق حيث غالبا ما يكون أضعف من السلطة . أو بصيغة اخرى كانت العروض بحاجة دوما الى انتاج عدو، ويُحبذ ان يكون مختلفا قومياً مثلاً الكردي، أو مختلفا مذهبياً مثلا الشيعي، وصولا الى اختلافات قبلية ومناطقية.

لكن الأمر كان يختلف كليا مع الاستعراضات الموجهة الى العالم الخارجي. فلإقامة عرض كان لا بد من اثارة ازمة أولا. واثارة الازمات هذه لم تكن سوى البحث عن رقعة مناسبة لنصب الحلبة، وعدو يليق بالنزاع وقادر على اكمال معادلة العرض. وكثيرا ما كانت الازمات هذه تنتهي على شكل الحرب، والحرب في أحد تعاريفها هي الحلبة او ساحة العرض التي تذهب اليها مستنفرا كل قدراتك محاولا إظهار كل قواك ولابسا كل عدتك. والحرب الدائمة التي خاضها العراق منذ تسلم صدام حسين الرسمي لمهمات الرئاسة أقوى دلالة على عملية الاستعراض المتواصلة للذات بشقيها السياسي والعسكري. كان مولعاً بزيه العسكري الأنيق.

أما خطاب عروض الحرب فخطاب جحيمي يطالب بالمزيد دائما. مثلاً الحرب العراقية – الايرانية كان لها خطابها الخاص الذي يطالب بتسليم قيادة الوطن العربي الى الذات الضخمة عسكريا وسياسيا والقادرة على حماية البوابات كلها. وإذا كانت حرب الثماني سنوات مع ايران خلفت حالة من الانبهار عند المتفرجين العرب بسبب من خطابها القومي العروبي بل حتى المذهبي وخروج ذات النظام او جسد صدام من الحرب مكسوة بالنياشين وأوسمة البطولة فإن أزمة الخليج الثانية، حرب 1991، قد هشمت هذه الذات على الاقل على المستوى السياسي والعسكري وجردتها تماما من قدرتها على القيام باستعراضات خارجية. كما طرأ تطور في غاية الاهمية بعد تناثر اشلاء الذات في ساحة الحرب في "عاصفة الصحراء" تَمثَل في تدنيس الوثن - تهشيم صورة الجسد المقدس بعد ان وجه أحد الجنود العراقيين فوهة دبابته الى احدى الجداريات الضخمة لصدام حسين وهشم القوام الرشيق المقدس حيث انطلقت الشرارة الاولى لانتفاضة 1991 . يجب الاشارة هنا الى ان أول ما اقدمت عليه السلطة بعد قمع انتفاضة 1991 كان ترميم الصورة. فقد صدر أمر إداري فوري باعادة ترميم وجه السيد الرئيس وجسده على جدران شوارع المدن العراقية كافة (ترميم الجداريات).


الصورة المعاكسة

في الاول من تموز 2004 حضر صدام حسين يرافقه حارسان وهو مكبل اليدين –تم فك اغلاله بعد فترة قصيرة من دخوله الغرفة- جلسة توجيه الاتهام اليه. بدا صدام مرتبكاً مرتجف اليدين محولاً بصره باستمرار من زاوية الى اخرى محاولا تحدي قاضي التحقيق رائد الجوحي بإشهار سبّابته مرددا لأكثر من مرة "أنا صدام حسين رئيس العراق". كان صدام هزيلا بجسده المرتبك وهندامه غير المرتب، غير قادر بالمرة على انتاج اي نوع من استعراضات القوة والبطولة.

بعد اختفاء طويل من حياة المواطن العراقي دام حوالي ثمانية أشهر يظهر صدام حسين ثانية لكن ليس في عروضه بل في عروض اميركية حيث الجسد الهزيل يتقلص متمنيا ان يحتل اصغر حيز ممكن في مساحات صورية عالمية في حجمها وامتداداتها. تهتز الصورة المقدسة تماما، وخصوصا في الشارع العربي، وعند التابع المعجب الذي لطالما اعتبره البطل العربي الوحيد الذي قصف اسرائيل بالصواريخ، وهو يرى مذهولا صورا لبطله ومنقذه يخرج ذليلا من جحر تحت الارض في قرية الدور الواقعة في مدينة تكريت دون إبداء اية مقاومة ليُطرح أرضا من قبل بضعة جنود أميركيين ويتم تقييده واعتقاله رسمياً.

والذهول هذا يتحول الى صدمة كارثية حين تظهر صورة الديكتاتور على شاشات الفضائيات العالمية وهو في حالة مزرية بلحية طويلة كثة وملابس رثة فاتحا فمه على آخره أمام أحد الاطباء الاميركيين ليأخذ منه عينة من لعابه لاجراء فحوصات D.N.A . وأخيرا تأتي عملية استجوابه ومحاكمته لتمثل العملية النقيضة لتاريخ طويل من تراكمات صورية واستعراضات قوة، ارهابية في قدرتها الرمزية. يلجأ جسد الشيخ الهزيل في بدلة غير مرتبة الى أكسسوار آخر ليستمد منه القوة وبناء رمزية اخرى، يلجأ الى القرآن ويطلب في محاكمته من القاضي ايقاف الاجراءات والتوجه الى الصلاة. وفي حين يرفض القاضي طلبه يقوم صدام بحركة في غاية الرمزية اذ يحرك كرسيه قليلا ليكون في اتجاه الكعبة ويقوم بأداء الصلاة جالساً. تتغير العروض والازياء من صرامة البزات العسكرية الى دشاديش (جلابيات) وكوفيات وعُقل كما تتغير معانيها من القوة والقسوة الى الامراض والانكسار والضعف.

ربما آخر ما قام به صدام حسين من استعراضات قوة كان ظهوره الهزيل الخاطف صبيحة سقوط نظامه، حيث قدم عرضاً هزيلا وسريعا على خلاف كل عروضه الاخرى، وقف الرئيس ببزته العسكرية على مستوى مرتفع عن الارض في مدينة الشعب ببغداد ولوح بيديه الى بضع عشرات من العراقيين بينما كانت الدبابات الاميركية على بعد امتار فقط من قلب العاصمة. وعلى النقيض تماما من صورة القائد البطل والمحارب الشجاع التي كان يطرحها ويحاول فرضها على الآخر، وخصوصا العربي، طوال عقود لم يحارب الديكتاتور ولم يقد اية معارك تُذكر وحتى انه لم يلق خطابه الأخير كما فعل هتلر قبيل انتحاره، بل دخل سيارته المرسيدس وانطلق الموكب الرئاسي الى الجهة الاخرى بدل ان ينطلق الى خطوط القتال.

ربما لم يكن الديكتاتور العراقي السابق إلا ممثلاً نجح في تأدية بعض أدواره المتحولة احياناً وفشل في ادواره الاخرى.