زهير
03-13-2006, 12:03 AM
أحمد عبد الحسين
التناقضُ سمةُ كلّ ديكتاتور. كان صدام ينام عروبياً قائداً للاشتراكيّة العربيّة ليستيقظ إسلاميّاً قائداً للحملة الإيمانيّة، يحلم بفلسطين حرّة من النهر إلى البحر فيضلّ طريقه ويتجه شرقاً لتحرير إيران، ثمّ ما ان يُكرّس حارساً للخليج حتى يجد نفسه غازياً الخليج.
وفي كلّ ذلك كان حشدٌ كبير من الناس، بعضهم مثقفون، يتبعونه من هاوية لأخرى، تتغيّر أحلامهم وآمالهم تبعاً لأحلامه وآماله، وتشتدّ حماستهم نهاراً إذا اشتدّتْ حماسة القائد للبعث، ثمّ تتلبسهم ليلاً تقوى هي رجع صدى للتقوى التي أمر بها عبدُ الله المؤمن.
لا رأيَ لهم، ولهذا كانوا بحاجة إلى صاحب رأيٍ قويّ يأمر ليُطاع. لكنّ حاجتهم تلك هي عين حاجة صدام إليهم، فبدونهم أين سيجد صدام أناساً يتقلّبون مع حركات وسكنات شفتيه؟
في الأدب العراقيّ القديم حواريّة ذات مغزى عميق بين سيّد وعبد، يكشف السيّدُ عن آرائه فيصادق العبدُ على هذه الآراء بحماسة شديدة، يرى السيّد ضرورة الزواج فيوافقه العبد سريعاً معدّداً محاسن الحياة الزوجية، ثم يبدو للسيّد أنه لن يتزوج لأن مشاكل الزواج كثيرة فيردّ العبد موافقاً ذاماً الزواج والمتزوجين. يرى السيّد أهمية الإيمان والتقرّب للآلهة فيتلبّس العبدَ خشوعٌ وهو يصف طمأنينة المتقين، ثمّ يظهر للسيّد أنْ لا فائدة من العبادة ولا جدوى من التمسّك بالأرباب، فيروح العبد شاتماً الآلهة ... وهكذا يستمرّ الحوار بينهما إلى أن يقرّر السيّد قتلَ عبده، وحينها فقط تظهر قوّة العبد الحقيقيّة، قائلاً لسيّده: إذا قتلتني فمن أين لك بعبدٍ يوافقك على آرائك المتناقضة هذه؟
قوّةُ من لا رأيَ لهم هي هذه القوّة الارتكاسيّة التي تجعلهم فاعلين بمقدار افتقادهم للفعل، وضروريين بالقدر الذي يثبتون فيه كلّ حين عدم ضرورتهم. فليس العبدُ سوى إنسان لا رأي له ولا يمكن (بل لا يريد) أن يكون له رأي، لكنّه مع ذلك لا يستشعر في نفسه ضعفاً، بل يجد انه فاعلٌ بذات القدر الذي يكون فاعلاً فيه كلُّ ذي رأي.
يتناقض السيّدُ في قوله وفعله، فيتناقض العبد وهو يعلم أن لا فكاك له عن هذا التناقض لأنه المؤكِد لوظيفته والمكرّس لأهميته وضرورته لدى سيّده. وحين يظنّ السيّد انه أتعبَ عبده بآرائه المتناقضة سيفاجَأ أنه هو الآخر أصابه التعبُ بسبب قوّة الطاعة التي يتسلّح بها هذا العبد، وسيعلم في قرارة نفسه أنْ لا غنى له عن تحمّل هذه الأخلاق "أخلاق العبيد" التي لا مقدس فيها سوى الطاعة.
السياسةُ ـ منذ الإغريق ـ جاءتْ للانقلاب على هذه الحواريّة الأبديّة بين سادةٍ وعبيد، فكان النظامُ الديمقراطيّ الذي عبّر عنه أفلاطون بقوله (في المدينة يخدم الرجالُ الأحرارُ الرجالَ الأحرارَ)، ففي المدينة " أيْ في الحاضرة السياسيّة" لا يتطلّب نظامُ الحكمِ وجودَ أناسٍ لا رأيَ لهم، بل المدينة كلّها ليست سوى مجمع أحرارٍ، أيْ أصحاب رأيٍ ، حاكمين كانوا أم محكومين.
كم من الزمن سيمرّ قبل أن نشهد معجزة الإغريق قد حلّتْ بيننا، لتختفي من المشهد العراقيّ الحشود الهاتفة "نعم" حين تكون كلمة السيّد "نعم"، و"لا" حين ينطق "لا"؟ كم من الوقت سننتظر ليحين ذلك اليوم الذي لا نعود فيه بحاجة إلى "السيّد"؟ اليوم الذي يكشف الإنسان العراقيّ فيه عن قوّته الحقيقيّة الفاعلة التي لا تشبه بأية حالٍ من الأحوال هذه القوّة الارتكاسيّة التي هي رجع صدى لآراء "السادة". يوم قيامة العراق هو اليوم الذي سيكون فيه كلّ عراقيّ سيّداً ... صاحبَ رأي.
التناقضُ سمةُ كلّ ديكتاتور. كان صدام ينام عروبياً قائداً للاشتراكيّة العربيّة ليستيقظ إسلاميّاً قائداً للحملة الإيمانيّة، يحلم بفلسطين حرّة من النهر إلى البحر فيضلّ طريقه ويتجه شرقاً لتحرير إيران، ثمّ ما ان يُكرّس حارساً للخليج حتى يجد نفسه غازياً الخليج.
وفي كلّ ذلك كان حشدٌ كبير من الناس، بعضهم مثقفون، يتبعونه من هاوية لأخرى، تتغيّر أحلامهم وآمالهم تبعاً لأحلامه وآماله، وتشتدّ حماستهم نهاراً إذا اشتدّتْ حماسة القائد للبعث، ثمّ تتلبسهم ليلاً تقوى هي رجع صدى للتقوى التي أمر بها عبدُ الله المؤمن.
لا رأيَ لهم، ولهذا كانوا بحاجة إلى صاحب رأيٍ قويّ يأمر ليُطاع. لكنّ حاجتهم تلك هي عين حاجة صدام إليهم، فبدونهم أين سيجد صدام أناساً يتقلّبون مع حركات وسكنات شفتيه؟
في الأدب العراقيّ القديم حواريّة ذات مغزى عميق بين سيّد وعبد، يكشف السيّدُ عن آرائه فيصادق العبدُ على هذه الآراء بحماسة شديدة، يرى السيّد ضرورة الزواج فيوافقه العبد سريعاً معدّداً محاسن الحياة الزوجية، ثم يبدو للسيّد أنه لن يتزوج لأن مشاكل الزواج كثيرة فيردّ العبد موافقاً ذاماً الزواج والمتزوجين. يرى السيّد أهمية الإيمان والتقرّب للآلهة فيتلبّس العبدَ خشوعٌ وهو يصف طمأنينة المتقين، ثمّ يظهر للسيّد أنْ لا فائدة من العبادة ولا جدوى من التمسّك بالأرباب، فيروح العبد شاتماً الآلهة ... وهكذا يستمرّ الحوار بينهما إلى أن يقرّر السيّد قتلَ عبده، وحينها فقط تظهر قوّة العبد الحقيقيّة، قائلاً لسيّده: إذا قتلتني فمن أين لك بعبدٍ يوافقك على آرائك المتناقضة هذه؟
قوّةُ من لا رأيَ لهم هي هذه القوّة الارتكاسيّة التي تجعلهم فاعلين بمقدار افتقادهم للفعل، وضروريين بالقدر الذي يثبتون فيه كلّ حين عدم ضرورتهم. فليس العبدُ سوى إنسان لا رأي له ولا يمكن (بل لا يريد) أن يكون له رأي، لكنّه مع ذلك لا يستشعر في نفسه ضعفاً، بل يجد انه فاعلٌ بذات القدر الذي يكون فاعلاً فيه كلُّ ذي رأي.
يتناقض السيّدُ في قوله وفعله، فيتناقض العبد وهو يعلم أن لا فكاك له عن هذا التناقض لأنه المؤكِد لوظيفته والمكرّس لأهميته وضرورته لدى سيّده. وحين يظنّ السيّد انه أتعبَ عبده بآرائه المتناقضة سيفاجَأ أنه هو الآخر أصابه التعبُ بسبب قوّة الطاعة التي يتسلّح بها هذا العبد، وسيعلم في قرارة نفسه أنْ لا غنى له عن تحمّل هذه الأخلاق "أخلاق العبيد" التي لا مقدس فيها سوى الطاعة.
السياسةُ ـ منذ الإغريق ـ جاءتْ للانقلاب على هذه الحواريّة الأبديّة بين سادةٍ وعبيد، فكان النظامُ الديمقراطيّ الذي عبّر عنه أفلاطون بقوله (في المدينة يخدم الرجالُ الأحرارُ الرجالَ الأحرارَ)، ففي المدينة " أيْ في الحاضرة السياسيّة" لا يتطلّب نظامُ الحكمِ وجودَ أناسٍ لا رأيَ لهم، بل المدينة كلّها ليست سوى مجمع أحرارٍ، أيْ أصحاب رأيٍ ، حاكمين كانوا أم محكومين.
كم من الزمن سيمرّ قبل أن نشهد معجزة الإغريق قد حلّتْ بيننا، لتختفي من المشهد العراقيّ الحشود الهاتفة "نعم" حين تكون كلمة السيّد "نعم"، و"لا" حين ينطق "لا"؟ كم من الوقت سننتظر ليحين ذلك اليوم الذي لا نعود فيه بحاجة إلى "السيّد"؟ اليوم الذي يكشف الإنسان العراقيّ فيه عن قوّته الحقيقيّة الفاعلة التي لا تشبه بأية حالٍ من الأحوال هذه القوّة الارتكاسيّة التي هي رجع صدى لآراء "السادة". يوم قيامة العراق هو اليوم الذي سيكون فيه كلّ عراقيّ سيّداً ... صاحبَ رأي.