يعد وضع الطائفة الشيعية في مصر الأكثر غرابة وتفرداً بين الطوائف في أنحاء العالم ... فعلى الرغم من أن مصر هي أحد أهم القواعد الأولى التي نشأ فيها التشيع، كما شهدت على أرضها أكبر التجارب السياسية الشيعية الممثلة في الدولة الفاطمية، فإن الغالبية العظمى من الشيعة لا يرجعون في أفضل الأحوال إلا إلى أب شيعي ونادراً جداً ما يكون الجد هو أول من اعتنق المذهب .. وتبقى نسبة قليلة هي التي ترجع بجذورها إلى أصول إيرانية أو عراقية أو لبنانية شيعية .

ومن الغريب أن السلطات السياسية التي حكمت مصر عقب سقوط الدولة الفاطمية حاولت الايحاء بأن التشيع محي من مصر على الرغم من أن القرارات التي اتخذتها ربما تشير إلى أنه ظل يمثل قوة لا يستهان بها، فقد كان الشيعة يمثلون الغالبية السكانية في عدة مدن مهمة في الصعيد كإسنا وأسوان وقفط حتى قدوم العثمانيين سنة 1517 م ، إلا أن الملاحظ هو مدى حرص السلطات الحاكمة على إلغاء التواجد والحضور الشيعي في مصر إلى درجة التنبيه على المعلمين في المساجد والكتاتيب بعدم إلقاء أي من الأشعار الشيعية في مدح آل البيت ع، الأمر الذي يشير إلى ضخامة التواجد الشيعي والذي أخاف السلطات المملوكية إلى هذه الدرجة .

وعلى الرغم من أن أواخر العهد العثماني شهد قدراً من الحرية والانفتاح بما سمح للتجار الايرانيين الشيعة بإنشاء جمعية لهم في حي الحسين ع والاحتفال بيوم عاشوراء والذي كان المصريين يطلقون عليه اسم (زفة العجم)، كما شهد أيضاً بعض حالات اعتناق المذهب من أبناء الطبقة التجارية التي اختلطت بالتجار الايرانيين والعراقيين بكثافة، مما استفز الروائي نجيب محفوظ لاستعراض هذه القضية في ثلاثيته المشهورة بطريقة مشوهة عندما صرح في الجزء الثالث (السكرية) بأن بطل الثلاثية (سيد أحمد عبد الجواد) كان شيعياً، ومثلت فترات الخمسينات والستينات والسبعينات ذروة نشاط المذهب والتي تمثلت في انشاء عدد من الهيئات والجمعيات ودور النشر، كدار النجاح للمطبوعات للسيد مرتضى الرضوي الكشميري والتي قامت بطباعة العديد من أمهات الكتب الشيعية، وجمعية اهل البيت الشيعية والتي كانت تحظى برعاية سماحة المرحوم المرجع السيد ابو القاسم الخوئي (قده)، فقد شهدت الفترة منذ قيام الثورة الايرانية سنة 1979 م وحتى الآن نوع من التآمر المتنوع على الشيعة المصريين قام به جهاز الأمن المصري والذي استغل كون الطائفة مازالت في حالة النشوء والتكون لدس العديد من العناصر الموالية له سعياً لتدجين الطائفة وإلحاق الموالين لأهل البيت ع بباقي العناصر المهمشة في مصر .

وبعيداً عن التنظيمات الملفقة والتي اعتادت اجهزة الأمن فبركتها طوال الثمانينات والتسعينات وحتى في بدايات القرن الجديد سنة 2003 م والتي استهدفت نوع من الاثارة الإعلامية ليس إلا، فإن الوسيلة الأكثر خطورة كانت سعي الأمن لإيجاد ممثلين للطائفة تكون مهمتهم الأساسية هي الحفاظ على مصالح السلطة .

لقد كان إنشاء (المجلس الأعلى لرعاية أهل البيت) برئاسة محمد الدريني أحد هذه الوسائل التي لم تفقد بريقها ولا قدرتها على إحداث نتائج مذهلة لدى أبناء طائفة يتوقون لأي متنفس يسمح لهم بالإعلان عن عقائدهم دون مطاردة أمنية .

ربما لا يعرف الكثير من الشيعة المصريين أي معلومات عن شخصية محمد الدريني ولا ظروف دخوله المفاجئ والكثيف في أوساط الشيعة المصريين إلى درجة سعيه لزعامة الطائفة .

من المعروف أن محمد الدريني وحتى سنة 1999 لم يكن له أي علاقة بالشيعة، حيث اقتصرت نشاطاته على ممارسة بعض المشاغبات في نقابة الأشراف التي يحظى بعضويتها ضد رئيسها محمود كامل ياسين ، وإصدار جريدة شبه ناصرية (صوت يوليو) وذات منحى بعثي موالي للرئيس العراقي صدام حسين، وقد اعتادت توجيه اتهامات وطعون للامام الخميني (قده) ووصفه بالعميل للصهيونية ولعل مجرد مطالعة الصفحة الأولى من العدد الثالث لهذه الجريدة يمثل دليلاً دامغاً على هذا التوجه، إلا أن الدليل الأكثر وضوحاً تمثل في قيامه بزيارة تأييد للرئيس العراقي صدام حسين أثناء حرب الخليج الثانية سنة 1990 ومنحه شهادة تثبت نسبه النبوي .

لقد شهد العدد الرابع نوع من التغير مع بروز مقال لشخص مجهول يدعى ابو حمزة يتحدث فيه عن النسب النبوي لصدام حسين والامام الخميني (قده) ، كما بدأت تظهر مقالات تتحدث عن أهل البيت لبعض الأشراف الذين أيدوا تحركاته ضد نقيب الأشراف .

لم يكن أبو حمزة سوى أحد الشخصيات المعتنقة لمذهب أهل البيت وفق رؤيتها الخاصة التي تقوم على العصبية القبلية لكل من كان منسباً مهما كانت ممارساته وسلوكياته، وقد سعى هذا الشخص لاستمالة محمد الدريني كي يفسح له المجال لكتابة المقالات التي تعبر عن فكره الضحل مع وعود بالعديد من الأموال التي ستنهمر عليه من المرجعيات التي ستمول نشاطه إذا ما سمح لهذه المقالات بالظهور .

بناء على هذا الوعد تحولت صوت يوليو فجأة إلى صوت آل البيت وتم توزيعها أثناء معرض القاهرة الدولي للكتاب في يناير 2001 م والذي يتميز بكثرة زواره من الشيعة المصريين، وكذلك كثرة دور النشر الشيعية المتواجدة به سعياً لكسب التأييد والشهرة خاصة أن بعض دور النشر على اتصال بمرجعيات دينية، وهو ما حدث بالفعل فيما بعد .

لقد كانت بداية تأسيس هذا المجلس ككيان يعبر عن الأشراف المعارضين للنقيب محمود كامل ياسين، وغالبيتهم - في الواقع - ليسوا من الشيعة وإنما من الطرق الصوفية، وإن اعتاد محمد الدريني اعتبارهم شيعة كنوع من الدجل الإعلامي للإيحاء بشعبية وهمية لمجلسه .

لقد كان تغير وضع المركز مرتبط ببعض المشروعات التي سعى للتكسب منها، وعلى رأسها موضوع السياحة الإيرانية وطريق أهل البيت ع ، والذي سعى فيه محمد الدريني تحقيق بعض المكاسب المالية لمجلسه مما أدى به للاصطدام ببعض رجال السياحة الكبار بالإضافة لصدامه مع نقيب الأشراف (وهو صهر أحمد عز صاحب شركات حديد عز - الدخيلة، وأحد كبار أعضاء الحزب الحاكم وعضو لجنة السياسات حالياً) الأمر الذي أدى إلى تكتل هذه المجموعات ضده وتدبير أمر اعتقاله، وفيما بعد تحول المجلس فجأة من هيئة ناطقة باسم الأشراف إلى هيئة تتحدث باسم الشيعة المصريين، وأصبح من حق محمد الدريني (البعثي) أن يعتبر نفسه زعيماً للشيعة المصريين .

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتكسب فيها أحد المجهولين بادعاء الانتماء لمذهب أهل البيت خاصة بعد أن أدرك الكثيرين أن هذا الادعاء يمثل أحد أسرع الوسائل للثراء والنفوذ والزعامة الدينية على طائفة ليس لها زعيم .

لقد شهدت فترة الثمانينات بروز شخصية رجب هلال حميدة عضو البرلمان المصري المعروف والذي بدأ حياته مجرد بائع سندويتشات ، إلا أنه تظاهر لفترة بادعائه التشيع وقامت مرجعية السيد الشيرازي بتمويل نشاطاته في مصر رغم شكوك العديد من المخلصين الشيعة في عمالته للأمن خاصة المرحوم سعيد أيوب الذي لم يخفي شكوكه فيه وحمله مسئولية قيام الأمن بالقبض على الشيعة المصريين في الثمانينات، وتحول فجأة إلى أحد كبار رجال الأعمال والممول المالي لحزب الأحرار اليميني، واستخدم هذه التمويلات التي بلغت مليون دينار كويتي لتمويل حملته الانتخابية ونجح بالفعل في اجتياز الانتخابات، وفيما بعد عندما أدرك الممولون حجم الخدعة التي تعرضوا لها قاموا برفع دعوى في القضاء المصري ، وكما هو متوقع حكم القاضي برفض الدعوى لأن القانون لا يحمي المغفلين .

وأخيرا لم يجد غضاضة في أن يعلن أنه ليس شيعيا وإنما كان فقط متعاطفا مع الجمهورية الإسلامية في إيران ، كما أعلن تحالفه مع جماعة الإخوان المسلمين والتي يعرف الجميع أنها العدو الأول للشيعة في مصر بالتساوي مع السلفيين .

ربما تكمن الإيجابية الأساسية في عزوف نسبة كبيرة من الشيعة المصريين - خاصة في الأقاليم - لهذا المجلس المزعوم خاصة بعد كثرة حالات النصب والثراء باسم المذهب والتي أدت للعديد من المشاجرات والاتهامات المتبادلة بين بعض من اعتادوا المتاجرة بالمذهب والصراع العلني على احتكار الكعكة الشيعية، إلى درجة استغلال وسائل إعلام غير الحيادية ولا الشريفة التي قامت بكل سعادة بعرض مثل هذه المشاجرات لاظهار الشيعة كمجموعة من الانتهازيين .

إن جزء من المسئولية عن هذا الوضع يقع على عاتق المرجعيات والهيئات الشيعية التي اعتادت على منح الأموال لكل طالب لها بحجة السعي لنشر المذهب في مصر دون البحث عن الكيفية التي تنفق بها هذه الأموال، الأمر الذي أدى لإيجاد حالة من الانتهازية لدى بعض ممن يعتنقون المذهب ظنا منهم بأن العديد من مشاكله - سواء من ناحية المال أو القيمة - سوف تكون في طريقها للحل عن طريق أموال الشيعة في الخارج .

إن الشيعة المصريين لن يحصلوا على حقوقهم بالاستقلال عن بقية الطوائف المصرية والتي تعاني كلها من الاضطهاد بطريقة أو بأخرى، ومن الواجب أن يكون نضال الشيعة المصريين لنيل حقوقهم في إطار نضال الشعب المصري عموما كونهم جزء أصيل من نسيج هذا الشعب، وأي محاولة لفصل التحرك الشيعي عن باقي الحركة الوطنية المصرية لن يكون سوى على حساب الشيعة أنفسهم وإكساب المصداقية لمحاولات الإعلام السلطوي والسلفي إظهارهم كعناصر أجنبية منعزلة وإظهار المذهب كفكرة إيرانية دخيلة على الإسلام والتدين المصري .


باباك خورمدين