لم يكن من المستغرب أن تشهد منطقة الشرق الأوسط العديد من المتغيرات مع بداية العقد الأخير من القرن الماضي والذي حفل بالكثير من الأحداث الدولية لعل أهمها سقوط الاتحاد السوفيتي سنة 1991 م وسعي الولايات المتحدة الأمريكية لترتيب الأوضاع في العالم بما يناسب مصالحها وسيطرتها كقوة عظمى وحيدة ما أطلق عليه في ذلك الوقت " النظام العالمي الجديد " .
كانت منطقة الشرق الأوسط تمثل الأولوية في السياسة الأمريكية التي سعت إلى تثبيت وضع الكيان الصهيوني ودمجه بين دول المنطقة في محاولة للقضاء على حالة المقاطعة الاقتصادية والشعبية المفروضة عليه عربياً، عن طريق بعض المعاهدات الاقتصادية بما يقضي على حالة العداء الجماهيري التي تمثل تهديداً لبقاء هذا الكيان([1])، وبالتالي كان على الأمريكيين إحداث بعض التغيرات في منطقة الشرق الأوسط تتناسب مع مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي طرحه رئيس الوزراء الصهيوني بيريز في التسعينات والتي سعت الولايات المتحدة لتطبيقه(2).
وعلى الرغم من أن التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تبدو دائماً ملحوظة وواضحة بالنسبة للمحللين، فإن أحداً منهم لم يلتفت إلى إسقاطاتها على الوضع الديني في الشرق الأوسط، وما يمكن أن تحمله التغيرات الدينية من دلالات ونتائج على التطورات السياسية بالمنطقة والتي تتميز بنفوذ ضخم ومتصاعد للولاء الديني والمذهبي .
لقد تزامن مع هذه الأحداث ظهور تيار جديد داخل الحوزات الدينية الشيعية يتبنى أطروحة تاريخية وعقائدية تحظى بالكثير من الرواج في أوساط الفئات الاجتماعية المهمشة سياسياً وتعد في حقيقتها إفرازاً سلبياً لحالة الاضطهاد والظلم التي عانى منها الشيعة طوال العهود السالفة.
لم يكن هذا النوع من الأفكار جديداً أو مستحدثاً على الأوساط الشيعية وقد سبق لها أن شهدت رواجاً ضخماً في عهود الانحطاط الصفوية والقاجارية، إلا أنها ظلت دائماً ومنذ انتصار المنهج الأصولي في الحوزات الدينية قاصرة على القاعدة الشعبية البسيطة وأنصاف المتعلمين الدينيين، ولم تحظ في الغالب بأي نفوذ في الأوساط العلمائية الكبيرة التي اصطدمت بها أحياناً، لعل أكثر هذه الصدامات شهرة الموقف من ممارسات عاشوراء الذي أثاره المرجع الأعلى للطائفة الشيعية في هذه الفترة السيد محسن الأمين العاملي(3) .
على أن مرحلة التسعينات شهدت صعوداً مدوياً وصاخباً لهذا التيار إلى حد إعلان مرجعين دينيين تأييدهم وتبنيهم الكامل لأفكاره، واعتبارها تمثل الحقيقة المطلقة لمذهب آل البيت(ع)، بما يجعلها مقياس لمدى التزام الطروحات الشيعية الأخرى بالمذهب بناء على اقترابها أو ابتعادها عن هذه الأفكار .
إن الملاحظ على المؤلفات والكتابات التي يصدرها المؤلفين المنتمين للتيار الجديد هو استخدامهم لنفس الوسائل والأساليب السلفية سواء في طرح أفكارهم أو في تناولهم للآخر، بما يمكن بناء عليه إطلاق إسم (السلفية الشيعية) كتسمية غير متجاوزة سواء لطروحات هذا التيار أو لأساليبه في الترويج لها والتي تقوم في الأساس على إسقاط المخالف أكثر مما تقوم على إثبات مصداقيتها .
إن هذه الدراسة تعتمد في تحليلها لنشأة تيار (السلفية الشيعية) ونقدها لما يطرحه من أفكار وعقائد على مناقشة عدة نقاط أساسية
الأولى : دراسة الظروف السياسية التي ساهمت في نشأة وصعود بعض التيارات والفرق الدينية المماثلة بالعالم الإسلامي في العصر الحديث، وعلاقة السياسات والطموحات الاستعمارية بهذه النشأة.
الثانية : صعود التيار السلفي الشيعي ومدى ارتباطه بالظروف السياسية المعاصرة والتطورات التي ساعدته على الوصول إلى أوج ازدهاره في سنة 1997 م .
الثالثة : المقارنة بين السلفية الشيعية ونظيرتها السنية من حيث المنهج والأسلوب والهدف .
لقد لجأت في هذه الدراسة إلى النماذج الأكثر تعبيراً عن أفكار هذا التيار، ككتابات ومحاضرات المرجعين الشيخ الوحيد الخراساني، والشيخ ميرزا جواد التبريزي، بالإضافة إلى مؤلفات بعض الباحثين كالسيد جعفر مرتضى العاملي، الذي برز اسمه مؤخراً عقب صدور أكثر مؤلفاته شهرة (مأساة الزهراء .. شبهات وردود) في جزئين، و(خلفيات مأساة الزهراء) في ستة أجزاء، تناول فيهما بعض الأفكار والرؤى العقائدية للتيار الحركي الشيعي مشككاً في مصداقية إلتزامه بمذهب آل البيت(ع).
وأيضاً كتابات الشيخ جلال الدين علي الصغير، والتي ارتبطت بنقض بعض الآراء العقائدية والتفسيرية للتيار الحركي، بالإضافة إلى العديد من الكتب والوثائق المنشورة في موقعي ضلال نت، والميزان على شبكة الانترنت .
بالنسبة للتيار الحركي في التشيع وهو الخصم الأساسي للسلفية الشيعية، فقد استعنت بالعديد من المؤلفات المعبرة عنه، وخاصة مؤلفات المرجع السيد محمد حسين فضل الله، والسيد حسين الشامي والسيد محمد الحسيني، والشيخ جعفر الشاخوري البحراني، وكذلك بعض الوثائق المنشورة في موقع بينات على الإنترنت.
إن تحليل صعود السلفية الشيعية، ونقد ما تطرحه من آراء ومواقف، هو محاولة لقراءة التطورات الاجتماعية والسياسية الأخيرة التي تشهدها المنطقة، والتي من الواضح أنها ستعتمد في المرحلة القادمة على استغلال الدين لاحتواء الحركات الثورية والجماهيرية المعادية للمخططات الأمريكية والصهيونية في الشرق الأوسط .

باباك خورمـدين


1 - هذه المواقف للنظام المصري لا تعدو أن تكون مواقف إعلامية لإرضاء الشعور العدائي المتزايد للشعب والنخب المصرية تجاه الدولة العبرية، فالواقع أن هذه العلاقات كانت موجودة بالفعل – وإن كانت على استحياء - خاصة في أعقاب حرب الخليج الثانية عام 1991 م، وقد وصل حجم التبادل التجاري بين مصر والدولة العبرية إلى 48.6 مليون دولار (وهو نصف حجم التبادل التجاري بينهما قبل الانتفاضة)، كما أعلن وزير التجارة الخارجية المصري أثناء المناقشات التي تمت في البرلمان بعد توقيع الاتفاقية أن حجم التجارة بين مصر وإسرائيل قد وصل إلى 50 مليون دولار.
د / إبراهيم العيسوي – الاقتحام الإسرائيلي الرابع للسوق المصري – مقال بجريدة الأهالي – نسخة إلكترونية - العدد 1205 بتاريخ (15 / 12 / 2004) – القاهرة - موقع www.al-ahaly.com ، الكويز بين التأييد والمعارضة – تقرير بموقع الجسر – بتاريخ 23 / 1 / 2005 – موقع www.aljesr.nl، د / إلياس عاقلة – اتفاقية الكويز ... اختراق اقتصادي – مقال بجريدة الحقائق – نسخة إلكترونية – بتاريخ (1 / 2 / 2005) – لندن – موقع www.alhaqaeq.net .
2– يضم الشرق الأوسط الكبير إلى جانب الدول العربية والكيان الصهيوني إيران وتركيا .
الكويز بين التأييد والمعارضة – م . س.
3– هذا لا يعني رفض مراجع الشيعة لكل هذه المنظومة الفكرية والعقائدية، لكن كان اجتماع هذه المنظومة لدى أحد العلماء يعد حالة نادرة .