تمهيد :-
شهدت المرحلة الأولى من صعود الأسرة العباسية للسلطة والتي استمرت من (132 - 232 هـ) قيام العديد من الثورات والانتفاضات الاجتماعية التي خضعت (من ناحية المعتقد والقيادة) لأفكار وبرامج المذاهب الثورية المعارضة وخاصة المذهبين الشيعي، والخارجي، وقد ارتبطت الثورات الشيعية عموماً - من وجهة نظر المؤرخين - بخضوعها لقيادة علوية أو هاشمية، أما الثورات الخارجية فقد ارتبطت بالشعارات التقليدية للفكر الخارجي، إلا أن صعود العباسيين إلى السلطة واعتمادهم على العناصر الأرستقراطية الفارسية أدى إلى انزواء المذاهب الخارجية في الشرق ودخولها في حالة خمول ثوري، وتركز اهتم علماء الفرق الخارجية - الإباضية على وجه الخصوص - بالتنظير العلمي لمذهبهم(1)، ومع تبني السلطة العباسية للمذاهب السنية في الأصول والفروع، فقد تبنت الحركات المعارضة الدينية والاجتماعية المذهب الشيعي والولاء لآل البيت(2)، على أن بعض هذه الثورات الاجتماعية - وخاصة التي قامت في الشرق - وجدت حول أفكارها الأيدلوجية والعقائدية العديد من علامات الاستفهام، والتي نتجت عن الاضطراب الواضح في المعلومات التي توردها المرويات المؤرخة لهذه الانتفاضات، بالإضافة إلى حرص السلطة العباسية المنتصرة على محو أي نص معبر عن الآراء الدينية لقياداتها، لوضع الرأي العام الإسلامي تحت السيطرة الكاملة لإعلامياتها، والتي حرصت بالطبع على إفقاد هذه المحاولات الثورية لشرعيتها الإسلامية، عن طريق توجيه التهم إلى قادتها بالسعي للقضاء على الإسلام وإحياء المجد الساساني والديانات الفارسية القديمة وخاصة المذهب المزدكي(*1)، بالإضافة إلى اتهامها بالترويج للإباحية وشيوعية النساء والأموال، مستغلة كون هذه القيادات تنتمي من الناحية العنصرية إلى العناصر الفارسية والتركية، وهي الاتهامات التي لم تكن تجرؤ على توجيهها للقيادات العلوية أو الخارجية المنتمية للعنصر العربي.
وقد نجحت إعلاميات السلطة في إجبار مؤرخي المعارضة على الخضوع لآرائها تجاه هذه الانتفاضات بعد أن استطاعت - بواسطة إمكانياتها الهائلة - ترسيخها في ذهن الجماهير المسلمة مما يجعل أي محاولة لإظهار الحقيقة تفسر على أنها نوعاً من التأييد لمحاولات القضاء على الإسلام والترويج للإباحية(*2).
الواقع أن هذا النجاح امتد ليشمل حتى المستشرقين والباحثين المعاصرين رغم كل التطورات التي حققها علم التاريخ في الفترات الأخيرة، وعلى الرغم من تظاهر معظم هؤلاء الباحثين بكونهم على دراية بمحاولات التشويه التي يقوم بها مؤرخو البلاط العباسي فإنهم يخضعون لها بكيفية ما سواء كلياً أو جزئياً، وقد اكتفى معظمهم برفض الاتهامات الأخلاقية الموجهة لهذه الانتفاضات مع قبولهم بكل ارتياح الاتهامات الخاصة بالهرطقة(*3).
إن أول ملاحظة تستحق الانتباه هو إجماع كل كتاب ومؤرخي السلطة العباسية على نشوء كل قيادات هذه الانتفاضات في الوسط الشيعي، ثم تطورها للدعوة إلى ديانات ومذاهب الفرس القديمة، أو إلى الإباحية والاشتراك في النساء والأموال(3)، وبالتالي فسوف تتناول هذه الدراسة مناقشة مبحثين :

1 - وضع الشيعة في فترة قيام هذه الانتفاضات
2 - علاقة الثورات الاجتماعية بالتشيع
هوامش
1 - د. محمود إسماعيل - الحركات السرية في الإسلام - بيروت 1997 - ص 22، 23.
2 - بطروشوفسكي - ترجمة وتعليق د. السباعي محمد السباعي - القاهرة 1999 - ص 118، 119.
(*1) ينسب المذهب المزدكي إلى مزدك الذي ظهر في عهد الملك الفارسي قباذ، ويبدو أنه كان أحد المثقفين الإيرانيين حيث يصفه الفردوسي بقوله : " واتصل بقباذ رجل فصيح اللسان غزير العلم ذو رأي وعقل يسمى مزدك "، ويبدو من رواية الفردوسي أن سبب تأسيسه لهذا المذهب هو الأزمة الاقتصادية التي تعرضت لها الإمبراطورية الفارسية في عهد قباذ، فقام هو بتحريض العامة على استباحة الغلات التي في أيدي التجار وأملاك الأثرياء، ومن الواضح أنه كان ثائراً على الوضع الطبقي الذي عانت منه الإمبراطورية الفارسية مما دفعه لتأسيس هذا المذهب، والواضح أنه لم يناقش كثيراً المعتقدات الزرادشتية الرئيسية، ولكنه ناقش في أسباب الوضع الاقتصادي والأخلاقي المتردي، وهو ما يظهر من مناقشته لقباذ : " الذي يمنع الناس عن سلوك طريق السداد منحصر في خمسة أشياء لا غير : وهي الغيرة والحقد والغضب والحرص والفقر . وإذا قمعت هذه الأخلاق الشيطانية استقام لك طريق الحق . ومنشؤها كلها من شيئين : المال والنساء . فينبغي أن يجعلا على الإباحة بين الخلق أجمعين حتى نأمن الآفات الخمس "، ويبدو أن الغرض الحقيقي من كلمة الإباحة التي استخدمها الفردوسي هو العدالة والمساواة بين الناس في الملكية والثروة والزوجات، ومن غير الممكن أن تردف هذه الموعظة الأخلاقية بدعوة لإباحية النساء، وأعتقد أن المزدكية هي مجرد مذهب زرادشتي، ولكن مصادر السلطة اعتادت على أن تتهم أي مذهب أو تفسير للدين خارج عن تفسير السلطة بمثابة الهرطقة، أو الردة ومحاولة إنشاء دين جديد، وقد اتفقت المصادر التاريخية على أن الملك قباذ اعتنق هذا المذهب لفترة، ثم اضطر للارتداد عنه وتم تدبير مذبحة للمزدكيين شملت ثلاثة آلاف منهم إضافة إلى مزدك نفسه، وقام ابنه أنوشروان (النفس السعيدة) بحملة اضطهاد ضخمة ضد أتباعه، ويبدو أن مزدك لم يتح له الوقت الكافي للدعوة إلى مذهبه أو لتأليف أي كتب تعبر عن آرائه بل قامت الأرستقراطية بالقضاء عليه فوراً مما يفسر نجاح أنوشروان في حملته ضد المزدكيين(*).
(*) الفردوسي - شاهنامه - ترجمة الفتح بن علي البنداري - تحقيق د / عبد الوهاب عزام - القاهرة 1993 - ج 2 - من ص 118، إلى ص 121، نظام الملك - سياست نامه - القاهرة 1975 - ص 242.
(*2) في رده على كتاب " فضائح الباطنية " لأبي حامد الغزالي، لم يستطع الداعية الشيعي الإسماعيلي المطلق علي بن الوليد أن يرفض آراء أبو حامد وافتراءاته على الخرمية بصراحة واضطر إلى استخدام عبارة " إن كان ما حكاه هذا الملحد (أبو حامد الغزالي) عمن نكرهم حقاً، فحسبهم خزياً ما اكتسبوه من العار في العاجل، واحتقبوه مما يوجب الأليم من عذاب النار في الأجل، ونحن إلى الله تعالى منهم وممن يفعل شيئاً مما حكاه من أفعالهم براء، وحسب المارق (أبو حامد الغزالي) جهنم وبئس المصير، إن كان مان في قوله عليهم وافترأ "(*).
(*) علي بن الوليد - دامغ الباطل وحتف المناضل - تحقيق / د. مصطفى غالب - بيروت 1982 - ج 1 - ص 67 .
(*3) للاضطلاع على معظم هذه الآراء يراجع الكتاب الذي صدر مؤخراً عن دار المدى في دمشق بعنوان ( " البابكية " " الانتفاضة ضد الخلافة العباسية " ) للباحث " حسين قاسم العزيز "، وعلى الرغم من أن الباحث تميز باضطلاعه على العديد من المصادر إلا أنه - مثل معظم الباحثين اليساريين في العالم العربي - يعتبر أن أي ثورة اجتماعية ضد الإقطاع تمثل نوعاً من الهرطقة الدينية، وفي هذه الدراسة حاول بكل قوة إثبات هذا التصور، وقد دفعه ذلك إلى الانتقائية في مناقشته لأقوال كتاب الفرق والمؤرخين عن هذه الانتفاضات، فرفض آرائهم حول الانحلال الخلقي لها، وقبل آرائهم حول هرطقتها دون مناقشه، بل أنه اضطر إلى افتراض غريب جداً وهو أن الخرمية دين متطور عن المزدكية ولم يوضح الكيفية التي قام بها هؤلاء المنتفضين بالحصول على كتب وآراء المزدكية الحقيقية، أو ما هو نوع التطوير الذي تم عليها، ونلاحظ نفس هذا التصور المراهق في أبحاث هادي العلوي وحسين مروه وطيب تزيني، وتعد أبحاث الدكتور محمود إسماعيل والدكتور عبد الجليل حسن في التاريخ الإسلامي - والتي تتميز بالنضج في تناولها للمنهج المادي - بمثابة الاستثناء في أوساط اليسار.
3 - ابن حزم الظاهري - الفصل في الملل والأهواء والنحل - القاهرة 1348 هـ - تحقيق عبد الرحمن خليفة - ج 5 - ص 143، الشهرستاني - الملل والنحل (بهامش الفصل في الملل والأهواء والنحل) - القاهرة 1348 هـ - ج 1 - ص 156، 157، عبد القاهر البغدادي - الفرق بين الفرق - بيروت 1987 - من ص 241 إلى ص 250.