لقد تناول إخوان الصفا في رسائلهم – كتبت في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري(61) – عقائد الخرمية بالنقد، وقد ربطوا بين الخرمية وبين طائفة شيعية إمامية هي " المُخَمّسة "(62)، وتبدو أهمية نص إخوان الصفا في قربه من الحدث وتناوله لعقائد الخرميين بشيء من التفصيل، ويبدو أن هذه العقائد اعتمدت على وجود قدر من القدسية للرقم خمسة وقد استدلوا على ذلك بعدة دلائل كالخمسة أولوا العزم من الرسل نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، والخمسة أصحاب الكساء من آل البيت النبوي، والصلوات الخمس، والزكوات الخمس، وشرائط الإيمان الخمس، والحروف المستعملة في أول سور القرآن من واحد إلى خمسة، والخمس كواكب المتحيرة زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد، والأجسام الطبيعية الخمس(*17)، والخمسة أجناس من الحيوان(*18)، والحواس الخمس لدى الحيوان(*19)(63)، وقد استنتجوا من هذه المظاهر أنها ترمز إلى خمسة ملائكة هم صفوة الله من خلقه، خلقهم الله لحفظ عالمه، وجعلهم سكان سماواته، ومدبري أفلاكه، ومسيري كواكبه، ومنهم السفراء بينه وبين أنبيائه من بني آدم، فمنهم يقع الوحي والنبوات، مع كل واحد منهم خمسة آلاف من الملائكة، إلى خمسين ألفاً، إلى خمسمائة ألف، وقد اعتقدوا بأن الآيات التالية من القرآن الكريم تشير إليهم : " تنزل الملائكة والروح "، " وما ننزل إلا بأمر ربك "، " وما منا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون "، كما رووا حديثاً عن النبي يشير إلى هؤلاء الملائكة : " حدثني جبريل، عليه السلام، عن ميكائيل عن إسرافيل عن اللوح عن القلم "(64)، وهي نوع من التأثر بالفلسفة الفيثاغورية، والتي تعتمد على أن الموجودات متأثرة بطبيعة العدد(65)، وقد روت المصادر الشيعية عقائد أخرى للمخمسة حول وجود خصوصية لبعض المقربين من علي كسلمان الفارسي، والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر وأبو ذر الغفاري، وعثمان بن مظعون(66)، وادعت أن هذه الطائفة تؤمن بأن الله فوض لهؤلاء الخمسة حكم الكون(67)، إلا أن الواضح أن هؤلاء الخمسة ليسوا سوى رموزاً للملائكة الخمس الذين ذكرهم إخوان الصفاء، وقد استمرت هذه الطائفة حتى اختفاء الإمام الثاني عشر وانتشرت في العديد من مناطق النفوذ الشيعي وخاصة في كرخ بغداد وقم وكاشان(68).
إن نص أخوان الصفاء يشير بوضوح إلى كون الخرمية والمخمسة طائفة واحدة مع احتمال وجود بعض الاختلافات التي حدثت في فترة لاحقة نتيجة لبعض التطورات في النظرة للعقيدة، وقد تطورت تعاليم المخمسة حتى تحولت عقب اختفاء الإمام الثاني عشر إلى ما يسمى بالفرقة النصيرية في الشام(69)، أما في إيران وآذربيجان فقد تطورت تطوراً مختلفاً بعض الشيء في صورة طائفة أهل الحق (العليلاهية)(70)، وتتفق الطائفتان في المقولات الأساسية السالفة الذكر إلا أنهما تختلفان في بعض التفاصيل الأخرى، ومن الواضح أن فرقة العليلاهية هي المعبرة أكثر عن آراء الخرميين.
ثانياً : إن تأكيد المرويات التاريخية لتعرض الأئمة من آل البيت لمضايقات السلطة العباسية والتي قامت باغتيال بعضهم يؤكد بالفعل علاقتهم وفعاليتهم في تلك الثورات، فقد واجه الإمام جعفر بن محمد الصادق العديد من الاستفزازات في الفترة من 137 إلى 148 هـ، وقد أشارت المرويات إلى أن الخليفة العباسي أقسم على قتله أكثر من مرة(71) بسبب اتهامه بالتحريض على قيام انتفاضات ضده، كما أشارت إلى قيام السلطة العباسية باغتيال النشطين من أتباعه(72)، وقد اضطر الإمام الصادق إلى اشهاد رجال السلطة العباسية على وفاة ابنه اسماعيل 145 هـ، ويبدو أنه كان نشطاً في مواجهة العباسيين ومتصلاً ببعض الثورات التي قامت ضد العباسيين، وقد ذكرت المرويات الشيعية بالفعل تحريض الإمام جعفر للخراسانيين على الثورة ضد الحكم العباسي(73)، إن هذه المرويات تلقي الضوء على بعض الجوانب الخفية من حياة هؤلاء الأئمة والتي يبدو أنها لم تكن سلبية كما يحلو لمؤرخي السلطة تصويرها، على أن التساؤل الأساسي يرتبط بالثورات التي اتهم الإمام جعفر بالتحريض عليها، فالعلويين لم يقوموا في عهد أبو جعفر المنصور سوى بانتفاضتين سنة 145 هـ الأولى بقيادة محمد النفس الذكية في المدينة، والثانية بقيادة أخيه إبراهيم بباخمرى، وقد تمكن المنصور من القضاء على الثورتين، وقام بقتل الكثيرين من أبناء البيت العلوي الحسني(74)، ومع تأكيد المرويات التاريخية واتفاقها على عدم اشتراك جعفر الصادق في هذه الثورة، فإن تعرضه للمضايقات طوال عهد أبو جعفر المنصور يدلل على أنه كان على صلة بثورات أخرى، ولم تقم أي انتفاضات ذات اتصال بالتشيع في عهد المنصور (136 – 158 هـ) سوى الثورات موضوع البحث، وقد ذكرت المرويات أن المنصور عندما علم بوفاة جعفر الصادق أمر واليه على المدينة بقتل الإمام الذي أوصى إليه(75)، وفي عهد الخليفة العباسي الثاني محمد المهدي (158 – 169 هـ)، تعرض الإمام التالي وهو موسى الكاظم (128 – 183 هـ) لنفس المضايقات والتي وصلت في النهاية إلى حد الحبس(76)، وهو ما يجعل الرابطة بين هذه الانتفاضات التي استمرت - في عهد المهدي – من سنة 159 إلى سنة 163 هـ، وبين الإمام الكاظم واضحة، وهي إن لم تكن صلة تتسم بالتحريض المباشر على الثورة، فإنها على الأقل صلة روحية على أساس معرفة الخليفة المهدي بأن قادة الانتفاضات من المتشيعين له، والواقع إن إحجام الخليفتين العباسيين أبو جعفر المنصور والمهدي عن قتل الإمامين جعفر الصادق وموسى الكاظم رغم اتسامهما بالقسوة مع المخالفين، ربما يدلل على انتشار التشيع ومدى الجماهيرية التي تمتع بها الإمامين وخاصة في مناطق الشرق الإسلامي والعراق.
ثالثاً : بالنسبة للانتفاضة التي قام بها بابك (الحسن بن إبراهيم)(*20)، فقد ارتبطت أساساً بالمجاعة التي وقعت في الشرق الإسلامي وخاصة بمناطق خراسان وأصفهان والري سنة 201 هـ(77)، واعتمدت على قطاعات الفلاحين وسكان الجبال من الرعاة في أران وأذربيجان(78)، وقد دعا إلى تقسيم الاقطاعات الكبيرة وتوزيع الأرض، وهي دعوة ترتبط بالتشيع إلى حد كبير، ويبدو تأثرها بفترة حكم علي بن أبي طالب (35 – 40 هـ)(79)، ويذكر المسعودي أن سنة 204 هـ هي البداية الحقيقية للانتفاضة الخرمية(80) ربما لأن هذه السنة شهدت المواجهة الأولى بين الخليفة العباسي المأمون والانتفاضة البابكية(81) التي انتقلت من مرحلة الدعوة إلى مرحلة التهديد العسكري للخلافة العباسية، لقد ارتبطت هذه الفترة أيضاً بإعلان المأمون الإمام علي بن موسى الرضا (203 هـ) ولياً لعهده في سنة 201 هـ، على أن بعض المرويات التاريخية تذكر أن الهدف الحقيقي للمأمون كان تهدئة العلويين الذين قاموا بالعديد من الانتفاضات في مناطق متفرقة من العالم الإسلامي، كما تشير المرويات الشيعية إلى ثورات شيعية قامت في خراسان – عاصمة الخلافة – الأمر الذي أجبر المأمون على اتخاذ هذا الإجراء(82)، ويقول غياث الدين خواندمير عن بيعة علي الرضا كولي للعهد "وقد سعد جميع ساكني المعمورة واغتبطوا لسماع هذا الخبر باستثناء جماعة من بني العباس "(83)(*21)، وتشير المرويات الشيعية إلى أن الرضا كان مدركاً لأغراض المأمون، وقد قام باستدعاء أقاربه من العلويين للإقامة معه في خراسان، إن الطريقة التي تحرك بها هؤلاء العلويين من الحجاز إلى فارس تثير التساؤل عن الغرض الحقيقي لاستدعائهم، فعندما تحرك العلويين من الحجاز في أواخر سنة 201 هـ لم يتجاوز عددهم مع أتباعهم ثلاثة آلاف، وتذكر المرويات أن عددهم عند وصولهم قرب شيراز وصل إلى خمسة عشر ألفاً وهو رقم ضخم بكل تأكيد، وقد اضطر المأمون إلى أن يطلب من والي شيراز وقف هذا الزحف، وقد استعان والي شيراز بجيش مكون من أربعين ألف جندي لوقف هذا الزحف، إلا أنه هزم في المعركة التي دارت بين الطرفين خارج المدينة، وتذكر المرويات أن سبب تراجع معظم هذا الجيش كان بسبب وصول أنباء وفاة الإمام الرضا، ومن الواضح أن خطة الرضا كانت تعتمد على قيام هؤلاء العلويين بتجميع قطاعات مسلحة من الشيعة تنضم إليهم أثناء طريقهم إلى خراسان بحيث يصل هذا الزحف إلى خراسان بأعداد ضخمة تكون مؤهلة للقضاء على العباسيين خاصة أنها كانت ستمر على مناطق شيعية متعددة وتتميز بكثافة سكانية كبيرة ككاشان وقم والري بالإضافة إلى الشيعة الخراسانيين، وتشير معركة شيراز التي انتهت بهزيمة العباسيين إلى أن هذا الجيش كان معداً بطريقة جيدة كما أن قيادته كانت على قدر كبير من الحنكة العسكرية مكنتها من هزيمة 40 ألف مقاتل عباسي، ويبدو أن المأمون أدرك أهداف هذا التصرف أو أن هزيمة جنوده في معركة شيراز المبكرة كشفت هذا المخطط فدبر اغتيال الإمام الرضا في سنة 203 هـ، مما أدى إلى هزيمة هذا الجيش في النهاية وتفككه(84)، فهل كانت الانتفاضة البابكية جزء من هذا التحرك الشيعي للقضاء على الخلافة العباسية ؟، لا يبدو هذا التصور مستبعداً فالثورة البابكية – التي قامت في أذربيجان – ترافقت مع بداية التحرك الشيعي، وكان من الممكن أن تلتقي مع هذا التحرك الشيعي في نقطة مشتركة لو قدر له مواصلة الطريق وتجاوز شيراز، وشهدت بداياتها الفعلية عقب وفاة علي الرضا، على أن الصلة ما بين هذه الانتفاضة والتشيع تبدو أكثر وضوحاً في انضمام أهالي مدينة قم الشيعية إلى الثورة وقيامهم بانتفاضتين متضامنتين معها في سنة 210 بقيادة يحيى بن عمران القمي، وفي سنة 216 هـ بقيادة جعفر بن داود القمي(85)، فمن المعروف ارتباط القميين بالتشيع للأئمة الإثنى عشر(*22)، ومن غير الممكن اشتراكهم في هذه الثورة دون توجيه من الإمام محمد بن علي الجواد (220 هـ) أو على الأقل من كبار أتباعه، إضافة إلى انتفاضة محمد بن القاسم بن علي العلوي سنة 219 هـ والتي شملت منطقة خراسان وهي أحد المناطق الفاعلة في الثورة البابكية، ويبدو أن انتفاضة محمد بن القاسم العلوي كانت جزءاً من الانتفاضة البابكية(86)، وهي لم تخرج عن الولاء لهذا الإمام – الجواد - حيث تذكر المرويات أنها دعت للرضا من آل محمد(87)، وقد عاصرت بالفعل انتفاضة أخرى في خراسان سنة 218 هـ بقيادة "علي مزدك"، وقد نسبت هذه الأخيرة إلى الخرمية، ومن الواضح أن اسم قائدها الذي يجمع بين "علي"، و "مزدك"، مفتعل لإثارة الشكوك حول تعاون ما بين الشيعة والمزدكيين لإحياء تعاليم مزدك المنادية – حسب ادعاءات هؤلاء المؤرخين - بالإباحية والانحلال(88) والواقع أن وفاة الجواد في سن صغيرة (25 عاماً) وعقب استدعاء المعتصم له للقدوم إلى بغداد تثير الشك في وجود مؤامرة لقتله، على أن المصادر الشيعية تؤكد أنه لقى مصرعه مسموماً على يد الخليفة المعتصم(89).
رابعاً : أشار نظام الملك إلى بعض معتقدات الخرمية قائلاً : " كان أول كلامهم التفجع على قتل أبي مسلم صاحب الدولة ولعن من قتله والصلاة على المهدي وفيروز وهارون بن فاطمة بنت أبي مسلم الذي يقولون له " كودك دانا " أي الطفل العالم "(90)، وللأسف لم يُعرف نظام الملك من المقصود بالمهدي، فهذا المعتقد مختص فقط بالإثنى عشرية، أما فيما يخص فيروز أو هارون بن فاطمة بنت أبي مسلم، فهو غير صحيح وقد نقل البغدادي عن محمد بن عبد المطلب بن فهم بن محرز، وهو من أحفاد أبي مسلم (من ابنته أسماء) أن فاطمة لم تنجب بينما أنجبت شقيقتها أسماء(91)، ومن الواضح أن المقصود بالمهدي هو الإمام الثاني عشر، الذي اختفى وهو في الخامسة من عمره(92)، مما يجعل عبارة " الطفل العالم " التي يستخدمها الخرميين – حسب دعوى نظام الملك – منطبقة عليه.