مما لا شك فيه أن الاهتمام الذي نالته حادثة كربلاء واستشهاد الامام الحسين (ع) ومعة مجموعة من أسرته وأتباعه لدى المسلمين – بمختلف طوائفهم - كان متوقعاً، وربما كان النسب النبوي للحسين (ع) كافياً في حد ذاته كي يحتكر – بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى – عواطف المسلمين وتأييدهم.
إلا أن هذا السبب رغم وجاهته في حينه فإنه غير كافي لأن يكون السبب الوحيد في بقاء هذه المشاعر متقدة في الضمائر الإسلامية عموماً والشيعية على وجه الخصوص، إلى درجة أن الحرص على الاحتفال بها طوال أربعة عشر قرناً، حيث يصل الجموح العاطفي بالبعض إلى الرغبة في إيلام الجسد كتعبير حي وعملي عن ألم النفس.
إن بقاء هذه الذكرى وخلودها في الضمير الاسلامي يخضع لعدة عوامل تراكمت على مدار التاريخ الإسلامي وتدخلت فيها عوامل حضارية ونفسية توارثتها الشعوب الإسلامية في المراحل التي سبقت إعتناقها للإسلام، وربما يتمثل العامل الأول في التباين الواضح بين شخصية القاتل والتي تميزت بالعبث والظلم بالإضافة إلى التاريخ غير النظيف لأسلافها في معاداة النبي (ص) ودعوته، في مقابل شخصية المقتول المعروفة بالطُهر والوعي والبسالة (من وجهة نظر مجموع المسلمين) بالإضافة لاعتقاد الشيعة بكونه إماماً معصوماً، هذا التباين الواضح لم يترك أي مجال لمحاولات الموالين للحكم الأموي المساواة بين الشخصيتين أو التعمية على صاحب الحق في النزاع، مما ساهم في إثارة أكبر قدر من العواطف البكائية والشعور بالذنب والندم تجاه الحسين (ع) سواء من جهة الكوفيين الذين تخاذلوا عنه أو ممن لم يشارك في ثورته من المسلمين عموماً، حيث فشلت كل المبررات التي حاول أي من الفريقين سوقها لتبرير تخاذله عن نصرة الحسين وهو – أي الشعور بالذنب – ما استمر مع الأجيال اللاحقة والتي كانت ناقمة على موقف أجدادها السلبي وفي ذات الوقت ترغب في التعبير عن رغبتها في تغيير الظلم الذي وقع على الحسين (ع).
فيا ليتني إذاك كنت شهدتــه فضاربت عنه الشانئين الأعاديا

وهذه الرغبة الشديدة في التغيير كانت هي الوقود الذي استخدمته التيارات السياسية الشيعية لإشعال الثورات والانتفاضات التي رفعت شعارات أهل البيت (ع) والتي اعتمدت في دعاياتها على الثأر للحسين (ع)، كما أنها كانت أيضاً أحد أهم عوامل الجموح العاطفي لدى البعض من الشيعة الذين يلجأون لتعذيب أنفسهم في ذكرى عاشوراء كمحاولة لإقناع النفس أو الغير بمدى ألمهم لاستشهاد الحسين (ع) والأهم إظهار مدى استعدادها للتصرف بطريقة مختلفة لو كان قد كتب لهم حضور هذه المواجهة.
وقد تمثل العامل الثاني في تواصل عمليات الاضطهاد لأئمة أهل البيت (ع) والعلويين عموماً في العهدين الأموي والعباسي حيث لم تتوقف المذابح التي أقامتها السلطات الحاكمة للعلويين وأنصارهم، كما تقاربت أزمانها وتوزعت المناطق الجغرافية التي وقعت فيها بين الأقطار الإسلامية وبالتالي فقد تحولت حوادث إستشهاد كل هؤلاء العلويين المقدسين في مكانتهم لدى المسلمين بمثابة تذكير لهم بمأساة إستشهاد الحسين (ع).
إرتبط العامل الثالث بتلك المواجهات الساذجة من الناحية السياسية التي شنتها السلطات الأموية والعباسية ضد مرقد الحسين (ع) في كربلاء، فقد عمد الأمويون لمنع زيارته بالقوة، أما العباسيون فقد تعرض المرقد في عهودهم المختلفة لأكثر من محاولة تدمير كان أبرزها المحاولات التي تمت في عهد هارون الرشيد وفي عهد المتوكل، ومع كل محاولة لإهانة مرقد الحسين (ع) فإن الضمير المسلم - المتعاطف تقليدياً مع الحسين - كان يعدها حرباً جديدة ضد الحسين (ع) وإغتيالاً آخر له، وهو ما عبر عنه الشاعر دعبل الخزاعي بقوله :
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا في قتله فتتبعوه رميمـــــا

أما العامل الرابع فقد ارتبط بوجود كثير من نقاط الالتقاء بين مأساة كربلاء وبين التراث الحضاري للشعوب الإسلامية التي شعدت على أرضها حضارات سابقة على الإسلام حيث يعرف تراث كل منها أسطورة ترمز إلى ذلك الصراع الدائم بين الخير المتمثل في الحسين (ع) والشر الذي احتل يزيد صورته، وتكاد التراثيات الشرقية تتفق في أحداثها والتي تصور الانتصار المؤقت للشر وعدم استسلام الخير حتى تحقيقه للانتصار النهائي.
في مصر كمثال إحتلت مأساة الإمام الحسين (ع) نفس المكانة التي لمأساة الإله أوزيريس، حيث تجسدت في الملحمتين عقيدة المظلومية التاريخي، وقد ساعد إنتشار المذهبين الشيعيين الإثنى عشري والإسماعيلي في مصر بكثافة في القرنين الرابع والخامس والسادس الهجري، وإقتراب بعض الأفكار الشيعية من التراث الحضاري المصري على رسوخ مكانة الحسين (ع) في العواطف الدينية المصرية بشكل غير قابل للتعديل، حيث قلدته الطبقات الشعبية المصرية رئاسة محكمة العالم الآخر المسئولة عن العدل وهو ذات المنصب الذي أناطه المصريون سابقاً للإله أوزيريس مع وجود بعض الاختلافات التي فرضتها طبيعة العقائد والتشريعات الإسلامية، لذلك فليس من المستغرب أن يجد الزائر لمرقد الحسين (ع) بالقاهرة الكثير من المسيحيين المصريين بين الزوار الذين تتوحد عقليتهم في تلك النقطة مع نظرائهم من المسلمين.
إن التراث الحضاري يمثل أحد أهم الأسباب – إن لم يكن أكثرها أهمية – في ممارسات إيلام الجسد التي يقوم بها بعض الشيعة، فهذه الوسيلة في التعبير عن الحزن تمثل مشترك حضاري بين شعوب الهلال الخصيب وغيرهم من الأسيويين والأوربيين(1).
وتوضح لنا التوراة أن بني إسرائيل تأثروا في بعض مراحل تاريخهم بهذه العادات، فكانوا يقطعون أجزاء من أجسامهم كتعبير عن الجزع(2)، ففي سفر حزقيال يتنبئ الأخير بغزو البابليين لأرض الميعاد (حسب الفكر التوراتي) فيقول : " ويتنطقون بالمسح ويغشاهم رعب وعلى جميع الوجوه خزي وعلى جميع رؤوسهم قرع "(3)، ويبدو أن هذه العادات كانت منتشرة بين جميع العناصر التي تواجدت في تلك المنطقة، حيث يظهر من تحريم التوراة لهذه العادات فيما بعد أنها حاولت استثناء بني إسرائيل من ممارساتها لأنهم – حسب النص التوراتي – شعب الرب، فيقول سفر التثنية : " أنتم أولاد الرب إلهكم . لا تخمشوا أجسامكم ولا تجعلوا قرعة بين أعينكم لأجل ميت لأنك شعب مقدس للرب إلهك، وقد اختارك الرب لكي تكون له شعباً خاصاً فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض "(4).
كما انتشرت هذه العادات لدى شعوب أخرى كالأشوريين والأرمن والهون(5)، وهو ما يفسر انتشار هذه الظاهرة بين الشيعة الأسيويين.
أما في مصر والتي تدين حضارتها لجذورها الإفريقية بالكثير، فلم تجد هذه العادة أي أنصار لها بين الرجال، واقتصرت المراسم الجنائزية على بعض التصرفات النسائية مثل البكاء والعويل واللطم وتلطيخ الرأس بالطين، بينما اكتفى الرجال بإطالة لحاهم وإرسال شعورهم كأنهم يلعنون بذلك تجنب السعداء من الناس(6)، ولهذا فليس من المستغرب أن يستنكر بعض المصريين الذين سافروا للعمل في مناطق عربية يدين أهلها بالتشيع عادات إيلام الجسد عند الحزن على الحسين (ع) وكذلك عدم وجود أنصار لهذه الظاهرة بين الشيعة المصريين الذين يرفض تراثهم الحضاري هذه الطريقة في التعبير عن الحزن.
لقد ساهمت كل هذه العوامل في بقاء العزاء الحسيني كأحد أساليب التوحد والتحدي والغضب الذي تعلنه الطوائف المقهورة في مواجهة الظلم الواقع عليها، وأصبح مرقدي الحسين (ع) في كربلاء والقاهرة هما قبلة كل الثوار بمختلف إتجاهاتهم المذهبية في محاولة لاستلهام الرمز الحسيني كنموذج للثورة والغضب.

هوامش

(1) جيمس فريزر – الفولكلور في العهد القديم – القاهرة 1998 جـ 3 ص 76 حتى ص 112.
(2) م . س جـ 3 ص 76.
(3) الكتاب المقدس – القاهرة 1983 – سفر حزقيال الأصحاح 7 آية 18، م . س – ص 78.
(4) م . س – سفر التثنية الاصحاح 14 آية 1 وما بعدها، م . س ص 79.
(5) م . س جـ 3 ص 84.
(6) إدولف إرمان – ديانة مصر القديمة – ت / د . عبد المنعم أبو بكر – د . أنور شكري – القاهرة 1997 – ص 327
باباك خورمدين