يقع معظم الباحثين في التاريخ الإسلامي - في نقدهم لرؤية الشيعة في الإمامة - في خطئ المقارنة الساذجة بين صلح الامام الحسن مع معاوية وثورة الامام الحسين ضد يزيد غير عابئين تقريباً بمدى التغيرات التي تمت بين المرحلتين في محاولة لاثبات وجود تعارض في الممارسة السياسية بين الامامين كدليل على عدم عصمتهما معاً.
إن تحليل أي حدث تاريخي لابد أن يعتمد على رصد الأوضاع والتطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المعاصرة له والتي تمثل العوامل الضاغطة والدافعة لحدوثة.
وبالتالي فليس من السليم المقارنة ما بين صلح الإمام الحسن مع معاوية من ناحية ، وثورة الإمام الحسين على يزيد بن معاوية من ناحية الأخرى دون رصد هذه الخلفيات.
لقد تولى الإمام الحسن الخلافة عقب استشهاد الإمام علي عن طريق مؤامرة إشترك فيها معاوية بن أبي سفيان مع الإقطاع الكوفي بقيادة الأشعث بن قيس، وقام بتنفيذها أفراد من الخوارج.
ومن الملاحظ أن الأطراف الثلاثة كانوا من الطبقات والفئات المتضررة من القرارات الاقتصادية والدينية التي أصدرها الإمام علي بن أبي طالب أثناء توليه الخلافة.
فالإقطاع تضرر من قرارات الإمام بإلغاء الإمتيازات التي حصل عليها أقطابه في عهد عثمان بن عفان، كما أن القرارات الاقتصادية للإمام كانت منحازة للطبقات الكادحة والفقيرة الأمر الذي هدد زعماء القبائل والإقطاعيين بضياع نفوذهم.
أما الخوارج والذين مثلت زعاماتهم طبقة كبار التجار فقد تضرروا من ذات الإجراءات ومن قيام الإمام بإصدار عملة رسمية وتحديد الموازين والمكاييل ، وإلغاء الاحتكار، ومن ناحية أخرى تضررت فئة القراء – وهي إحدى فئات هذه الطبقة – من قرار الإمام بإعادة رواية السنة، فقد كانت هذه الطبقة تستحوذ على الوجاهة الدينية والاجتماعية والمالية في عهد عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان على أساس حفظها للقرآن الكريم، وعلى هذا الاساس كانت تصرف لها العديد من المكافآت المالية، على أن هذا الحفظ كان خلوا من أي معرفة بالسنة، وبالتالي فلم تكن لهم أي دراية بتفسير القرآن أو أسباب النزول وغيرها من العلوم المرتبطة بالقرآن، وقد أدى هذا القرار إلى كشف حقيقة هذه الفئة التي خسرت ما كانت تناله من مكافآت مالية وخسرت وجاهتها الدينية كذلك.
ولعل الدليل على هذه المؤامرة الثلاثية ما رواه ابن أبي الحديد حيث ذكر أن معاوية بن أبي سفيان دفع أربعمائة ألف درهم لسمرة بن جندب كي يروي أن الآية القرآنية (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) (البقرة / 207) نزلت في عبد الرحمن بن ملجم، وهي مروية ربما تشير بوضوح إلى هذا التحالف الذي تم بين معاوية وبعض جماعات الخوارج، وقد نقل ابن الأثير مروية مهمة أيضاً توضح هذه العلاقة بين معاوية والخوارج، فقد حاول شبيب بن بجرة – أحد الخوارج الذي اشتركوا مع ابن ملجم في التحضير لقتل علي – التقرب من معاوية في أثناء وجوده بالكوفة – عقب الصلح بينه وبين الحسن – عن طريق إخباره علناً أنه كان مع ابن ملجم أثناء قتل علي بن أبي طالب، وتذكر المروية أن معاوية ترك مجلسه مذعوراً وأمر بنفي شبيب خارج الكوفة وعدم السماح له بالتواجد أمام بابه أو الدخول عليه مرة أخرى، ويبدو من الأسلوب الذي واجه به معاوية شبيب بن بجرة أنه أدرك مدى خطورة كشف تفاصيل هذه المؤامرة أمام الكوفيين.
ورغم أن أنصار الإمام الحسن من الشيعة المخلصين له إستطاعوا تنصيبه كخليفة إلا أنه كان يدرك مدى سعي الإقطاع الكوفي للقضاء على حكمه بعد بدا وضاحا أنه سيستمر في إتباع نفس المنهج الذي سار عليه الإمام علي، وقد ظهر ذلك بوضوح عندما كشفت الأجهزة الأمنية التابعة للإمام رسائل من بعض زعامات القبائل تحرض معاوية على غزو الكوفة وتعده بتسليم الحسن له أثناء الحرب ، كما بدأ بعض هذه الزعامات في إلقاء العثرات أمام الإمام الحسن لتعطيله عن مواجهة معاوية بن أبي سفيان.
من ناحية أخرى فقد واصل الخوراج دورهم التخريبي حيث أشاعوا أن الإمام ينوي الصلح مع معاوية وقام أحدهم بمحاولة فاشلة لاغتياله.
لقد كان من الواضح أن الأوضاع في الكوفة ليست في صالح الإمام الحسن، وقد استطاع الخوارج وزعامات الإقطاع إثارة الاضطرابات فيها بين الجماعات المختلفة.
ورغم ذلك فإن الامام الحسن لم يكن لديه أي نية للصلح ولعل الدليل على أنه كان يعد للحرب هو قيامه بزيادة عدد أفراد كتائب الجيش وهي سنة إتبعها الخلفاء من بعده عند توليتهم للخلافة، كما أرسل مقدمة جيشه إستعدادا لمواجهة حاسمة مع معاوية، لكن في هذه الأثناء قام عبيد الله بن العباس بترك قيادة مقدمة الجيش والانضمام لمعاوية وهو تصرف يبدو أنه كان معداً له من قبل وبالتأكيد فقد أدى لبلبة في صفوف الجيش كما أثر على وضع الإمام في الكوفة تأثيراً سلبياً.
لقد بدا ظاهراً أن أي مواجهة عسكرية ربما تؤدي إلى إبادة للشيعة المخلصين للإمام الحسن وبالتالي فقد اضطر الإمام الحسن للدخول في مفاوضات مع الأمويين.
من ناحية أخرى كان معاوية رغم كل هذه الاضطرابات في الكوفة يخشى مواجهة الإمام بسبب إدراكه لحقيقة أن الإمام الحسن هو حفيد الرسول (ص) وهو في الأعراف العربية التقليدية يعد أكثر أحقية بالسلطة منه، كما أنه لم يكن على ثقة تامة بقدرته على هزيمة الشيعة في هذه المعركة بالإضافة لرغبته في ألا يستنزف قواته في مواجهة ضخمة مع الإمام الحسن قد بحيث يصبح غير قادر على السيطرة على الكوفة فيما بعد حتى في حالة انتصاره.
لقد بالغت المصادر الإسلامية والسلفية منها بصفة خاصة في تصوير الحسن كمسالم غير راغب في الحرب، ورويت في سبيل ذلك الكثير من الأحاديث المنسوبة للنبي والتي تتنبأ بأن الله سيصلح بالحسن بين فئتين من المسلمين، من منطلق الدفاع عن معاوية بن أبي سفيان وشرعية الدولة الأموية التي أسسها، وقد تأثر معظم الباحثين بهذا الاتجاه سواء المسلمين أو المستشرقين الذين اتهموا الحسن بالسلبية وعدم القدرة على الكفاح، وهي مواصفات غير حقيقة إطلاقا ومن غير الممكن الاستسلام لها مع دراسة الأسباب الموضوعية للاتفاق بين الجانبين.
أن الاتفاق بهذه الشروط لا يمكن اعتباره تنازلاً أو صلحاً بل هو فض اشتباك مؤقت بين القوتين العسكريتين، ولعل الدليل على هذا التصور هو تضمن الاتفاق للبند السالف – ينص على عدم مناداة الإمام الحسن لمعاوية بأمير المؤمنين وهو اللقب الرسمي للخلافة - مما يعني أن الإمام الحسن لم يبايع معاوية كخليفة ولم يعتبر نفسه من رعايا السلطة الأموية أو داخل تحت سيطرتها، كما أن اشتراطه عودة الخلافة إليه، أو إلى الإمام الحسين، بعد وفاة معاوية دليلاً كبيراً على أنه لم يكن يسعى إلى إنهاء الصراع أو أنه اعتبر الاتفاق صلحاً أو تنازلاً عن حقه في الخلافة، بل يشير – بالإضافة لنصوص أخرى – إلى اعتقاد يقيني بهذا الحق، إضافة إلى أنه أفقد الخلافة الأموية أي شرعية مدعاة بعد وفاة معاوية بن أبي سفيان.
والواقع أن الإمام الحسن لم يعتبر أن هذا الاتفاق هو نهاية الصراع مع الأمويين، بل مرحلة اضطرته إليها الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي حكمت الصراع، ويبدو أنه فضل العودة إلى العمل السري مرة أخرى بعد أن أدرك مدى عداء الزعامات الأرستقراطية في الكوفة له والتي يخضع لها أفراد القبائل، بالإضافة إلى الخوارج، وهو تصور تؤكده بعض المرويات التاريخيةوقد ذكر السيوطي إحدى المرويات التي تشير إلى أن نفوذ الإمام الحسن في الكوفة لم يتأثر كثيراً برحيله إلى المدينة، بل تؤكد أن أنصاره في العراق قد بقوا في حالة استنفار عسكري تحسباً لأي مواجهة مع معاوية في حالة عدم وفائه بتعهداته، وقد روت على لسان جارية بن قدامة - أحد أهم الشخصيات الشيعية العراقية المقربة من الإمام الحسن – قوله لمعاوية : " إن قوائم السيوف التي لقيناك بها بصفين في أيدينا ... إنك لم تملكنا قسرة، ولم تفتتحنا عنوة، ولكن أعطيتنا عهوداً ومواثيق، فإن وفيت لنا وفينا، وإن ترغب إلى غير ذلك فقد تركنا وراءنا رجالاً مداداً، وأدرعاً شداداً، وأسنة حداداً، فإن بسطت إلينا فتراً من غدر، زلفنا إليك بباع من ختر"والواقع أن الإمام الحسن ظل حتى وفاته هو الحاكم الحقيقي للإقاليم التي كان يحكمها قبل الاتفاق بينه وبين معاوية إلا أن الظروف الاجتماعية والسياسية إضطرته للتحول إلى العمل السري حفظاً لحياة أنصاره على أساس السعي لتكوين الجبهة الموالية له من جديد بعد أن تمكن الإقطاعيين من تفخيخها وتخريبها.
إن كلا من الإمام الحسن والإمام الحسين كانا متفقين على العداء للنموذج الأموي وعلى الإيمان بحقهما في الإمامة لكن رد فعل كل منهما كان مختلفا نظراً لإختلاف الظروف الموضوعية (إجتماعية وسياسية) التي عاصرها كل منهما.
باباك خورمدين