كانت الأحوال في المدينة في وقت وفاة النبي تنذر بالصدام فعلا ، حيث كانت التطورات الاجتماعية وما أفرزته من تشكيلات سياسية تشير إلى وجود صراع طبقي وإن لم يستطع الظهور بسبب وجود الرسول (ص) على قيد الحياة.
فقد تطورت المدينة بشكل كبير عقب وصول النبي إليها واتخاذها كمقر دائم للدعوة الاسلامية، كانت المدينة تتميز بنمط انتاجي يتشابه كثيراً مع نمط الانتاج الزراعي حيث اعتمدت على زراعة البساتين ، وعلى الرغم من كون اليهود اقلية في يثرب فقد كانوا مسيطرين على الحياة الاقتصادية فيها وكانوايملكون معظم البساتين بها (1)، كما دخلوا في تحالفات وشراكات مع القبائل اليهودية المقيمة وخاصة قبيلتي بنو النضير وبنو قريظة اللتان تحالفتا مع الأوس (2).
عقب وصول الرسول (ص) إلى المدينة (يثرب) مع المهاجرين تغيرت الأمور قليلاً فقد كان الكثير من المهاجرين ينتمون إلى الطبقة التجارية وعلى الأخص أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان(3) وقد مارس هؤلاء التجارة بالمدينة ، وقد انتقضت الآيات القرآنية بعض ممارساتهم التجارية خاصة في سورة الجمعة : " ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِفَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنكُنتُمْ تَعْلَمُونَ* فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأرْضِوَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْتُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَاوَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَالتِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَزِقِينَ)" الجمعة / 9 - 11) ، هذا التغير أدى إلى وجود صراعا طبقيا خفيا بين ملاك الأراضي من قادة الأوس والخزرج وبين التجار من المهاجرين، بالإضافة إلى الغالبية من المهاجرين والأنصار والمسلمين من غير العرب كسلمان الفارسي الذين كانوا يمثلون الطبقة الكادحة وكانوا يمثلون غالبية المسلمين.
ومن الواضح أن كبار الملاك من الأنصار كانوا يخشون إن سيطر المهاجرين التجار على الوضع في المدينة عقب وفاة النبي (ص) أن يكون ذلك مقدمة إلى سيطرة الارستقراطية القرشية على الأوضاع بالمدينة وقد ظهر ذلك بوضوح في عبارة الحباب بن المنذر لأبي بكر حيث قال له : " ما نحسدك ولا أصحابك . ولكنا نخشى أن يكون الأمر في أيدي قوم قتلناهم، فحقدوا علينا"(4) وبالتالي فقد لجأ ملاك الأراضي إلى التجمع تحت راية سعد بن عبادة سيد الخزرج ، ومع ذلك فقد كان هذا التجمع به أكثر من نقطة ضعف، فالخزرج كانوا منقسمين ما بين زعامة سعد بن عبادة وزعامة بشير بن سعد ، كما كان هناك الخلاف القديم بين الأوس والخزرج حيث نظر الأوس بقيادة أسيد بن حضير بريبة وتحفظ إلى تولية سعد بن عبادة الخلافة بعد النبي (ص)(5) وقد اتضح ذلك من تعاون بشير بن سعد الخزرجي ومعن بن عدي وعويم بن ساعدة الأوسيان مع المهاجرين فالأول كان هو أول من بايع أبي بكر والآثنان كانا من أبلغ عمر باجتماع الانصار(6)، كما أن أبو بكر استطاع اللعب على هذا الوتر بذكاء في مقولته للانصار : " إن هذا الأمر إن تطاولت إليه الخزرج لم تقصر عنه الأوس وإن تطاولت إليه الأوس لم تقصر عنه الخزرج ، وقد كانت بين الحيين قتلى لا تنسى وجراح لا تداوى ، فان نعق منكم ناعق جالس بين لحيي أسد يضغمه المهاجري ويجرحه الانصاري "(7) .
من ناحية أخرى فقد كانت القبائل العربية التي اعتنقت الاسلام في فترة متأخرة تترقب ما سيحدث عقب وفاة النبي (ص) ويبدو أنها أيضاً كانت تخشى سيطرة قريش على الدولة الاسلامية فالعرب اليمنيين لن يتقبلوا هذه السيطرة بسبب المشاكل التقليدية بينهم وبين العرب الشماليين بالإضافة إلى الحساسيات الموجودة بين العرب الشماليين أنفسهم وخاصة بين ابناء مضر ومنهم قريش وابناء تميم(8)، ويبدو من كلمة عمر بن الخطاب في السقيفة أن تلك القبائل لم تكن قد خرجت على الدولة بعد : " والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم ، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم "(9)، على أن هذه القبائل لم تفرق كثيرا بين الشخصية التي ستتولى الأمر بعد النبي حيث من الواضح أن الارستقراطية الحاكمة في هذه القبائل كانت تنوي الاستقلال السياسي مع احتفاظها بالاسلام كدين خشية أن تؤدي المساواة التي أعلنها القرآن والنبي (ص) إلى أن تخسر مكانتها ونفوذها في القبائل وبالتأكيد كان هذا سيؤدي إلى قيامها بتحريفات ضخمة في التشريع الاسلامي.
كان من الواضح أن المواجهة بين تجار المهاجرين والانصار ستنتهي بانتصار تجار المهاجرين الذين كانوا يكونون جبهة متماسكة وقاموا بالاستعانة بقبيلة اسلم البدوية التي كانت تقطن خارج المدينة للإطمئنان على قدرتهم الكاملة على حسم المعركة لصالحهم(10).
ويبقى في النهاية وضع بني هاشم وخاصة الامام علي بن أبي طالب من هذا الموقف السياسي فقد أصبح من الواضح أن فريق كبير من الأنصار لا يرغب في وصوله للحكم بسبب وجود ارتباطات في المصالح بينه وبين ابي بكر ورغبتهم في توليته الخلافة خشية سيطرة سعد بن عبادة على الأوضاع ، كان هذا الفريق يخشى من تولي الامام علي ربما أكثر من خشيته تولي سعد بن عبادة بسبب قوة شخصية الامام علي بن ابي طالب والتزامه بنهج النبي (ص) إضافة لانحيازة للكادحين (11) ومع ما كان سيضع مصالحهم التجارية والزراعية في خطر، ويضاف إلى هذا السبب تاريخ الامام علي مع الدعوة ومكانته من النبي بالإضافة إلى كونه من نفس أسرة النبي(ص) ، وبالتالي فرغم كثرة أنصار الامام علي وشعبيته كما يؤكد في حواره الذي رواه محمد بن الحنفية مع أحد اليهود : " ولو لم أتق هذه الحال يا أخا اليهود ثم طلبت حقي لكنت أولى ممن طلبه لعلم من مضى من أصحاب محمد (ص) ومن بحضرتك منهم إني كنت أكثر عدداً وأعز عشيرة وأمنع رجالاً وأطوع أمراً وأوضح حجة "(12) إلا أن التوانات السياسية لم تكن في صالحه، وعلى الرغم من أن الامام كان قادراً على الدخول في صراع عسكري مع الخليفة الاول إلا أن هذا الصراع لم يكن سيؤدي إلا لانفراط عقد الدولة الاسلامية خاصة مع قيام القبائل العربية بالتمرد على الخليفة ، وهو ما كانت ستفعله ضد أي خليفة قرشي آخر، ولعل هذا يفسر لنا كلمة الامام علي : " وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير. ويشيب فيها الصغير. ويكدح فيها المؤمن حتى يلقى ربه "(13) وهناك مقولة أخرى للإمام علي توضح سبب عدم دخوله في مواجهة عسكرية مع السلطة : " فإن القائم بعد النبي (ص) كان يلقاني معتذراً في كل ايامه ويلزم غيره ما ارتكبه من اخذ حقي ونقض بيعتي ويسألني تحليله فكنت أقول تنقضي أيامه ثم يرجع إلي حقي الذي جعله الله لي عفواً هنياً من غير أن أحدث في الاسلام مع حدثه وقرب عهده بالجاهلية حدثاً في طلب حقي بمنازعة . لعل قائلا يقول فيها : نعم وقائل يقول : لا فيؤول ذلك من القول إلى الفعل "(14) .
وعلى الرغم من وجود إشارات في بعض المرويات على التفاف مجموعة من المهاجرين والانصار خلف علي فإن الامام لم ير تصويب فكرة اللجوء للحل العسكري لاسباب أخرى لعل أهمها أن بعض الملتفين حوله من الانصار لم يكونوا من المؤمنين بإمامته بالفعل بل من الذين غضبوا على السلطة بسبب الطريقة التي تولت بها الخلافة، كما أن بعضهم الآخر وخاصة من بني هاشم كانوا منحازين له بسبب قرابتهم له ، وعلى الرغم أن هذه الاعتبارات لا تعني السياسي التقليدي إلا أنها ذات تأثير بسبب ما تؤدي إليه من تكوين صراعات داخلية بين الاطراف المختلفة (15).
لقد خدمت الظروف الاجتماعية والسياسية تجار المهاجرين الذي استطاعوا الانتصار بسبب الخلافات الداخلية بين القوى العربية المختلفة التي فضلت أن تتولى الخلافة مجموعة ضعيفة مؤقتاً حتى تستعد هي للاستيلاء على السلطة، ولعل اهم هذه المجموعات المؤلفة قلوبهم والذين حققوا هذه الغاية بالفعل على يد معاوية بن أبي سفيان.

هوامش

1 - ابن الأثير – الكامل في التاريخ – نسخة كومبيوترية – صـ 16، 19، 21 / جعفر السبحاني – السيرة المحمدية – ترجمة / جعفر الهادي – نسخة كومبيوترية – صـ 98.
2 - ابن الاثير - م . س - صـ 16.
3 - هشام بن محمد بن السائب الكلبي – مثالب العرب – تحقيق / محمد طي – بيروت 1998 – صـ 39.
4 - أحمد بن يحيى البلاذري _ أنساب الأشراف _ تحقيق / محمد حميد الله - القاهرة 1987 _ جـ 1 صـ 583، ابن أبي الحديد – شرح نهج البلاغة – نسخة كومبيوترية – جـ 2 صـ 44.
5 - أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري - السقيفة وفدك - جمع وتحقيق / محمد هادي الاميني - نسخة كومبيوترية - www.rafed.net/books/aqaed/saqifa-fadak/02.html - طهران - صـ 58 / محمد رضا المظفر - السقيفة - قم 1415 هـ - صـ 103 إلى 108.
6 - الجوهري - م . س - صـ 55 / المظفر - م . س - صـ 120، 121.
7 - المظفر - م . س - صـ 108.
8 - من الملاحظ أن معظم القبائل المتمردة كانت تميمية ، كما أن دعوة الخوارج انتشرت أكثر في وسط بني تميم حيث أن زعمائها الأساسيين كانوا من هذه القبيلة : د / عامر النجار - الخوارج - القاهرة 1994 .
9 - شهاب الدين النويري - نهاية الارب في فنون الادب - تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم - القاهرة 1975 جـ 19 صـ 34.
10 - محمد بن جرير الطبري - تاريخ الرسل والملوك - تحقيق / محمد أبو الفضل إبراهيم - القاهرة 1979 - جـ 3 صـ 244.
11 - عبد الحسين شرف الدين الموسوي - المراجعات - تحقيق الشيخ / حسين الراضي - قم 1416 - صـ 207.
12 - محمد بن النعمان المفيد - الاختصاص - تحقيق / علي اكبر غفاري / السيد محمود الزرندي - بيروت 1993 - صـ 172.
13 - الامام علي (ع) - نهج البلاغة - شرح / محمد عبده - بيروت 1990 - جـ 1 صـ 26.
14 - المفيد - الاختصاص - م . س - صـ 171.
15 - م . س - صـ 171. وهناك مرويات أخرى إلا أنني اعتبرت هذه المروية كنموذج.
باباك خورمدين