منذ فترة ليست بالقصيرة اعتاد الشارع الشيعي على نغمة تكفيرية جديدة لم تكن موجودة أو معروفة من قبل، وقد طالت هذه الظاهرة الجديدة علماء كبار ومناضلين قصد منها تشويه تراثهم العلمي والنضالي وعزلهم من ناحية التأثير وتطوير الوعي للجماهير المسلمة عموماً والشيعية على وجه الخصوص.
كانت الشخصية العلمائية الأولى التي ركزت عليها هذه الحملات هي شخصية سماحة السيد محمد حسين فضل الله وكان معروفاً أن سبب تركيز الحملة عليه خاصة هو موقعة من المقاومة الاسلامية في لبنان .
لقد بدأت الحملة على سماحة السيد محمد حسين فضل الله في أثناء مرض المرحوم السيد الجلبيجاني (قده) واشتدت عقب وفاته في سنة 1993 وكان من الواضح أن غرضها هو منع سماحة السيد من التفكير في المرجعية وقد نقلت مجلة الوسط اللندنية في التحقيق الذي اجراه حامد حيدر مقابلة مع شخص عرفه حامد حيدر بأنه من المقربين لسماحة السيد الجلبيجاني (قده) وصف فيها الهجوم الذي تعرض له السيد فضل الله بقوله : " إن فضل الله تعرض لمؤامرة " كما ذكر كاتب التحقيق أن السيد الشهيد محمد باقر الحكيم (قده) كان أحد من دافعوا عن السيد محمد حسين فضل الله في ايران ونقلت عنه المجلة في نفس العدد تصريح بأنه دافع عن السيد وأن ما قاله لا يتجاوز حدود البحث العلمي (1).

وهنا يبدو التساؤل ملحاً حول أسباب هذه الحملة والتي استنزفت الكثير من جهد وطاقة الشيعة كطائفة كانت تبدو إلى حد ما متماسكة وصلبة في مواجهة المشروع الامبريالي الامريكي - الصهيوني في المنطقة ؟
الملاحظ أن هذه الحملة بدأت عقب الحرب بين العراق وقوات التحالف في سنة 1991 م والتي اطلق عليها عاصفة الصحراء وبدأت أمريكا من خلالها ترتيب ما يسمى بالنظام العالمي الجديد الذي أرادت أن يكون خاضعا تماماً لها خاصة مع تزامن سقوط الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو ، في تلك الفترة استطاعت أمريكا خداع الدوتشي العراقي صدام حسين وقامت عن طريق حماقته في الكويت بإدخال قواتها للخليج العربي في محاولة للسيطرة على وسائل وطرق تصدير النفط وأيضا مراقبة الجمهورية الإسلامية في إيران، وكان لابد كي يستقر النظام العالمي الجديد تحت سيطرة أمريكا القضاء على كل عناصر الرفض والمواجهة للمشروع الأمريكي ومن ضمنها إيران وحزب الله وسماحة السيد فضل الله ، كان المفروض أن تثار معركة ضخمة داخل النطاق الشيعي في اتهامات وردود سفوسطائية لا معنى لها سوى حدوث انشقاق ضخم في الرأي العام الشيعي بحيث تضعف القوة الجماهيرية الشيعية التي تعتمد عليها إيران بالإضافة لشعبيتها في النطاق الاسلامي عموماً ، وقد تزامن مع هذه الحملة ضد السيد فضل الله حملة تكفير للشيعة قادها السلفيون في انحاء العالم الاسلامي كما تزامن معها ايضا حملة تشكيك في قدرة السيد الخامنئي على تولي المرجعية .
وبالتالي فقد أثيرت ضجة كبرى حول الآراء العلمية لسماحة السيد فضل الله في محاولة لاسقاطه في الوسط الشيعي الذي يمثل منطقة نفوذه الاساسي بالإضافة إلى شعبيته في الوسط السُني المعتدل ، وهذه الحملة لم تكن سوى مقدمات لمحاولة القضاء على نشاطه الثوري والحركي في مواجهة المشروعات الامبريالية في المنطقة ، كما أن ما حدث لسماحة السيد فضل الله أصبح سُنة معتادة الآن في الوسط الشيعي ، فقد تعرض لها السيد الخامنئي (2) كما تعرض لها الشيخ ناصر مكارم شيرازي ، والشيخ حسين الراضي وغيرهم من علماء الدين الذي كانت لهم مواقفهم الايجابية من الثورة الاسلامية في ايران ضد الاستغلال الامريكي الغرض الأساسي منها هي التغطية على تراثهم النضالي عن طريق إثارة شُبهات وهمية حول عقائدهم مما يضعف مشروعهم الكفاحي في المواجهة .
إن التركيز الأكبر على سماحة السيد فضل الله في هذه الحملة يرتبط بتواجده في منطقة تماس مع حدود الكيان الصهيوني وفي فترة سخونة الصدام بين المقاومة والاحتلال وبالتالي فقد كان التركيز على شخصه أكبر حجما من الشخصيات الأخرى لكونه أكثر خطورة في المواجهة.
الواقع أن عدم رد سماحة السيد على هذه الترهات التي أثيرت كان الحل الأمثل لمواجهة هذه المؤامرة وقد أضعف هذا الأسلوب من تأثيرها كثيراً بل أن هذه الحملة أتت بنتائج عكسية تماماً حيث أستطاع السيد القيام بأعباء المرجعية وامتد حجم مرجعيته بطريقة أثارت القلق عند هذه القوى ، كما أدى صمت سماحة السيد فضل الله إلى بقاء المقاومون في حزب الله بعيدا عن هذه المؤامرة مما سمح للمقاومة اللبنانية بالاستمرار في المواجهة وعدم السماح بوجود تمزقات داخلية بين ابنائها .
لقد كان الانتصار الذي حققه حزب الله في سنة 2000 ضربة مؤلمة لهذه المشاريع وانتصارا للتيار التقدمي الثوري في أوساط علماء الدين ، مما يبرر ازدياد عنف مثل هذه الحملات فيما بعد هذا الانتصار والتي شملت أكثر من شخصية علمائية .
ويبقى تساؤل أخير حول سبب اشتراك بعض العلماء والمراجع في هذه المؤامرة ؟ إن بعض هؤلاء المراجع كانت لهم مواقفهم السلبية من الامام الخميني والثورة الاسلامية مما يفسر مدى انفعالهم في مواجهة السيد فضل الله ، والبعض الآخر تورط في هذه المؤامرة على طريقة " تعلم الثعلب الحكمة من رأس الذئب التي طارت "، بالإضافة إلى بعض المرتبطين بمرجعيات منزوية ومنعزلة عن واقع الحياة ولم تمارس نشاطا اجتماعيا أو سياسيا بأي شكل ، وبالتالي تبقى فتاواها غير مرتبطة بالواقع الحياة الذي يعيشه المقلد وغير مدركة لما تعانية من مشاكل وصعوبات وتبدو فتاوها أقرب لفتاوى العصور الوسطى، هذه النوعية خشت على نفوذها الفقهي ومنظومتها الثقافية من الاهتزاز ، وبالتالي فقد اشتركت في هذه الحملة من هذا المنطلق حفاظاً على جماهيريتها من التضاؤل.
لقد فشلت هذه الحملة بالفعل رغم كل شيء ورغم ما تم رصده لها من أموال وإمكانات فالسيد فضل الله لم يخسر مكانته ولم يتوقف عن المرجعية ولم تشل عقول المؤمنون أو يصابوا بالذهول والارتباك ولم يتخذوا موقفاً سلبيا دون تحقق تحت تأثير الاسماء الضخمة والفخمة التي افتت بكونه ضال مضل - كما كان يخطط الذين لجأوا لهؤلاء المراجع - بل قام الكثيرين باقتناء كتابات سماحة السيد واكتشفوا هذا القدر الضخم من التزييف والتشويه المتعمد الذي مورس ضد أفكار وآراء سماحة السيد مما دفعهم للتعاطف معه عن وعي يفتقده الذين يضللون السيد دون حتى قراءة كتبه ، كما شاهدنا في الفتوى المنسوبة للمرجع الروحاني والتي اتضح بعد مقارنة بسيطة بينها وبين آراء السيد أنه لم يطلع على أي كتابات له ، ولا ندري على أي أساس أفتى السيد الروحاني - في حالة كونها فتواه بالفعل - بضلال سماحة السيد فضل الله بينما الواضح عدم اطلاعه على مؤلفاته .
هوامش
1 - حامد حيدر - مجلة الوسط - عدد 99 20 / 12 / 1993 - ص 16.
2 - رضا حائري / رياض علم الدين - مجلة الوطن العربي - عدد 927 الجمعة 9 / 12 / 1994 ص 16 إلى 18 .
باباك خورمدين