شفيق طبارة

الإثنين 26 حزيران 2023


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


وحده مخرج يتمتّع بشجاعة وعبقرية بول توماس أندرسون (1970)، يمكنه تنفيذ فيلم مثل «سيسيل دم كثير» (2007)، من دون الانهيار بسبب طول العمل، أو الإضرار بالقصة بسبب تشعّباتها النفسية والاجتماعية. بالهوس والجنون السينمائي اللذين رأيناهما في أفلامه السابقة («بوغي نايتس»/ 1997، «حب مترنح» 2002، و«ماغنوليا» /1999)، لكن بأسلوب أكثر انضباطاً ونضجاً كما في أفلامه اللاحقة («السيد» / 2012، «خيط وهمي» /2017)، أظهر لنا أندرسون أنه قادر على تجاوز أكوانه الغريبة من دون أن يخون شخصيته. في There will be blood الذي طرح أخيراً على نتفليكس، قدّم أندرسون ملحمةً سينمائية عن الجشع والأصولية الدينية والرأسمالية التي تشكّل جزءاً مؤصّلاً من «القومية الأميركية».

الفيلم دَفقٌ للأفكار والخيال والموهبة، وقفزة عملاقة لمخرجه، الذي برهن قدرته على صنع أفلام نهرية متحركة بينما كشف أسلوباً أكثر صرامةً وثباتاً من دون تردد أو نوبات خارج السياق. الفيلم يعدّ الدراسة الأكثر وحشيةً للروح المفقودة منذ «الثور الهائج» (1980)، وأعظم مرثاة للكابوس الأميركي منذ «أبواب الجنة» (1980) لمايكل تشيمينو.

نادراً ما كان الغرب الأميركي مقفراً وغير مضياف في السينما كما في الدقائق الثلاثين الأولى من فيلم «سيسيل دم كثير» الذي يدور في الأعوام الأخيرة من القرن التاسع عشر. يبدأ الشريط بلقطة لمناظر طبيعية صحراوية مقفرة، وبعض الجبال، ومقتطفات موسيقية من تأليف جوني غرينوود، تزداد شدّتها إلى درجة تقليص القلب، مانحةً إحساساً بأنّ المكان على وشك أن يشهد شيئاً مظلماً وكئيباً وشريراً...

شيئاً على وشك الانفجار. بعد ذلك، يظهر لنا دانيال بلاينفيو (دانيال داي لويس)، وهو يحفر في الأرض، بقلق شديد بحثاً عن الذهب والفضة، ثم الذهب الأسود الثمين. سيضعه النفط على درب ليتل بوسطن، بلدة تحوي نفطاً وفيراً لم يتم استخراجه بعد. لم يجد بلاينفيو النفط هناك فحسب، بل واجه أيضاً خصماً غير عادي هو الكاهن إيلاي صنداي (بول دانو). بلاينفيو وصنداي وحشان بطريقتهما الخاصة.

الأول جشع لا يمكن إيقافه، يريد أن يبتلع العالم كله من دون أن يترك شيئاً وراءه وهو مغطّى بالنفط. والثاني كاهن بروتستانتي شاب ومخادع يغلّف طمعه بالروحانيات و «كلام الله». يدخلنا الشريط في الدهاليز المعتمة للنفس البشرية، مقدماً خليطاً من الجشع والمكيافيلية، اللذين تجسّدهما هاتان الشخصيتان المدفوعتان بمصلحتهما الشخصية، وبالهيمنة على الآخرين. تتصاعد المواجهة بين الفردانية الجامحة لبلاينفيو، والأصولية المحمومة لصنداي حدّ الخيانة والانتقام والقتل. بتناسق مرير، يبرز أندرسون الصراع الأميركي الجوهري بين الرأسمالية المتوحّشة التي لا تكترث للحياة الإنسانية، والنزعة الدينية الأصولية التي تواصل تشكيل المناقشات الاجتماعية في الولايات المتحدة الأميركية حتى يومنا هذا.


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


الفيلم مقتبس بتصرّف من الثلث الأول من رواية «نفط» (1962) للكاتب السياسي الاشتراكي الأميركي أبتون سنكلير (1878 – 1968)، عن سيرة العديد من روّاد النفط في الغرب الأميركي، وخصوصاً إدوارد لورانس دوهيني (1856 – 1935)، الذي بدأ حياته في فقر مدقع. بعد البحث عن الفضة والذهب في كاليفورنيا، بدأ باستخراج النفط وأصبح ثرياً جداً. وكذلك هو بلانفيو، الذي لُعن بالذهب الأسود. لعنة تفسد روح أولئك الذين يرغبون بذلك، فتحوّلهم إلى كائنات فاسدة، مدمنة على مادة سوداء تبدو كأنها تمزقت ولُفظت من أعماق الأرض، كما قُذف بلانفيو من الأرض في أول الفيلم، وسقط سقطةً كادت أن تقتله، لكنه عاد من الموت، كما لو أنّه صار خالداً بموجب ميثاق ما مع الأرض.

لا يستطيع بلانفيو تحمّل أي شيء، يكره الجميع، يريد فقط أن ينجح بأفكاره الخاصة ويعزل نفسه، ويعيش بمفرده. لا أحد يرقى إليه، ولا أحد يستحق ثقته أو شركته. لكن بعد أن يتبنّى سرّاً طفل شريكه الأول الذي مات، يبدأ بتقديم الولد دابليو اتش (ديلون فريزر) على أنّه شريكه. يعمل الطفل كورقة مساومة عاطفية لبلانفيو في مفاوضاته مع ملّاك الأراضي الفقراء، وستكون علاقتهما محور الفيلم. بقدر ما يبدو دانيال رجلاً ميؤوساً منه بالنسبة إلينا، فإنه يشعر بالحب تجاه «ابنه»، وبالذنب تجاه الحادث الذي تعرّض له، واضطراره للتخلي عنه موقتاً ليهتم به الآخرون، ما يوضح أنّ بلانفيو يحبّ ويتألم لكن بطريقته الخاصة. سنفهم هذا أكثر عند ظهور شقيقه هنري (كيفين ج. أوكونير)، الذي اعتبره جزءاً منه من الدم نفسه. ولكن عندما يكتشف أنه ليس أخاه حقاً، فإنّ الغضب يتركه وحيداً مرة ثانية، يضاف إليه إحساس بالذنب لأنه أيضاً أب كاذب مع دابليو اتش.

لذلك عندما قام بلانفيو بدفن شقيقه في أرض تفرز النفط، فتلك حركة شاعرية للغاية. هنا ترك كل إنسانيته وراءه بشكل نهائي وأصبح ظلاً وحشياً.

يحصل كل هذا، في غياب الوجود الأنثوي على الشاشة، باستثناء البنات الصغيرات وكبار السنّ في الكنيسة.

في «سيسيل دم كثير»، يتجاهل أندرسون الطاقة النسائية. نحن لا نعرف شيئاً عن والدة دابليو اتش. يصبح دانيال شيطاناً تقريباً عندما يُسأل عنها. يظهر هنا الموضوع الرئيسي في سينما أندرسون أكثر من أي وقت مضى: اليتم وشخصية الأب كطاقة مدمّرة.

عظمة «سيسيل دم كثير» هو من عظمة دانيال داي لويس، الذي تلبّس بلانفيو وقدم لنا شخصية في غاية التعقيد والتركيب. عبّر لويس عن كل العواطف من خلال وجهه وحركة جسده ومشيته، وبصوت أعمق من المعتاد. طوّر دانيال الشخصية من خلال الإيماءات الصغيرة جداً. وإذا كان يعامل ابنه بلطف، فذلك لأنه يستخدمه كأداة، وإذا كان يتحدث بلطف، فذلك لأنه يحتاج إلى إبقاء صوته منخفضاً لتحقيق هدفه الكبير. قال داي لويس لصحيفة «نيويورك تايمز» مرةً: «لقد أزعجني السيناريو كثيراً، وهذا علامة جيدة بالنسبة إليّ. إذا كان هناك شيء ما قرأته يزعجك، فهذا يعني أنك لا ترى الشخصية من الخارج، ولكن اتخذت بالفعل خطوةً نحوها».

خليط من الجشع والمكيافيليّة يجسّده كل من المنقّب عن النفط والكاهن الشاب

وإذا كان أداء داي لويس العظيم غير مفاجئ بسبب «التمثيل المنهجي» الذي يتقنه، فالملفت هو العمل الرائع الذي قدّمه الشاب بول دانو، بشخصية تناسبه تماماً. دانو لم يكن نداً للويس فحسب بل جعلنا، في بعض الأحيان، نوليه مزيداً من الاهتمام. صوّر أندرسون الفيلم من دون استعجال وبإحساس كبير. اهتم أكثر بسبر قلوب شخصياته أكثر من رواية القصة، لأنّ الشخصيات هي التي تسيّر الفيلم. وكذلك فعل المصوّر السينمائي، روبرت إلسويت. صور شاعرية على الرغم من حدية الفيلم والشخصيات. استلهم صوره منها ومن القوة التعبيرية الهائلة للمناظر الطبيعية في كاليفورنيا وتكساس. ولا يمكن إغفال تصميم الإنتاج الذي عمل عليه الأسطوري جاك فيسك، لأنّ إعادة خلق أواخر القرن التاسع عشر والعقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين بتفاصيلها الدقيقة، تعدّ معجزة في التوثيق التاريخي والأصالة. استناداً إلى وثائق وصور فوتوغرافية، استدعى فيسك عصر ما بعد الغرب الأميركي القديم إلى الشاشة أكثر من أي وقت مضى:

عصر اختفاء المروج الكبيرة واستبدال الطبيعة بالمعامل والقصور الكبيرة. أرانا أندرسون وألسويت وفيسك كيف غيّر النفط وجه العالم والمجتمع البشري. ليس سهلاً الاقتراب من الصور الحادة لهذا الفيلم الخالد.

خلق أندرسون صورة بكل حزنها ورشاقتها وخرابها وجمالها. اتبع مسار ستانلي كوبرك في استحضار الأجواء والهدوء والصمت، وسار على درب سرجيو ليوني في المناظر الطبيعية التي تجمع لقطات تعقّب طويلة للشخصيات في مشاهد صوتية مثالية. شرح أندرسون أحلك أركان الأيديولوجيتين الرأسمالية والدينية. الفعل الأخير لبلانفيو حدّد مصيره مرة واحدة وإلى الأبد. كلمته الأخيرة «لقد انتهيت»، تشبه ما قاله يسوع على الصليب وفق انجيل يوحنا (19:30): «فلما أخذ يسوع الخلّ قال: قد أكمل، ونكس رأسه وأسلم الروح ». وبذلك، أشار بلانفيو إلى موته الروحاني الأخير!


* There Will Be Blood على نتفليكس

https://www.al-akhbar.com/Cinema/364...8A%D8%B1%D9%83