نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


عبدالله بشارة

27 سبتمبر 2020

الملك عبدالعزيز.. في الكويت


مع مرور تسعين عاماً على إعلان قيام المملكة العربية السعودية بقيادة الملك عبدالعزيز آل سعود، رأينا من المناسب الإطلال على كتاب السيدة شيماء نبيل عبدالله الملا عن حياة الملك عبدالعزيز في الكويت، منتقية أبرز محطات عبدالعزيز بن سعود منذ سيطرة الأمير عبدالعزيز بن رشيد على الرياض عام 1891، وقرار الإمام عبدالرحمن وأولاده الانسحاب من الرياض تحضيراً للمواجهة المصيرية مع بن رشيد، الذي اتسع نفوذه مع انتصاراته في المعارك التي قادها في طريقه لاحتلال الرياض. ومن أجل الاطمئنان على راحة الأسرة، أرسل الإمام عبدالرحمن ابنه عبدالعزيز إلى الشيخ عيسى الكبير حاكم البحرين، لإمكانية إقامة النساء والأطفال في البحرين، وقد كان ترحيب الشيخ عيسى عاملاً مهماً في تصاعد الثقة في النصر النهائي.

مع استقرار الأسرة في البحرين، واكتمال الاستعدادات للمواجهة الحتمية لاستعادة الشرعية، قاد الإمام عبدالرحمن معركة استعادة الشرعية في الرياض، فتحرك إلى منطقة الدلم، حيث دارت معركة حريميلاء عام 1891، التي انتصر فيها محمد بن رشيد وتقدم إلى الرياض ليمارس عملية انتقام من أهلها الذين أيدوا الإمام عبدالرحمن، وهدم سور المدينة.

لم يتقاعس الإمام في تصميمه على الإعداد لمعارك المستقبل، فأرسل ابنه عبدالعزيز إلى الأحساء لمفاوضة المتصرف العثماني عاكف باشا للإقامة في الأحساء. لم يترك المتصرف العثماني هذه الفرصة تفلت من أجل تعظيم نفوذ الدولة العثمانية في نجد، فاقترح عليه تعيين الإمام عبدالرحمن حاكماً للرياض مع دعم مالي وتسهيلات تزيد من ترابطه مع الدولة العثمانية.

رفض الابن عبدالعزيز هذا العرض، وقرر أن تكون خطوته القادمة نحو الكويت، لكن الشيخ محمد بن صباح اعتذر لكي لا يدخل في خصومة مع الدولة العثمانية، فصار الخيار نحو قطر التي رحب حاكمها الشيخ جاسم آل ثاني بالاقامة مع أسرته ومرافقيه.. كان ذلك في عام 1892...

لكن الإقامة لم تستمر سوى أربعة أشهر.. كانت الدولة العثمانية تتابع محاولات بن سعود وتراعي مصالح حليفها الأمير محمد بن رشيد، الذي كان يتخوف من تجدد الهجوم عليه. ويبدو أن الدولة العثمانية تعمل على إبعاده عن العودة إلى الرياض، اقترح الممثل العثماني على الإمام مساعدته، لاختيار موقع إقامته، فاختار الإمام عبدالرحمن الكويت، وعندها توسط متصرف الأحساء لدى الشيخ محمد بن صباح الذي رحب بإقامة الإمام ومرافقيه وأسرته.. كان ذلك في عام 1892.

هذه نبذة عن المتعرجات التي شهدت مسيرة بن سعود من الرياض إلى الكويت، مروراً بكل من البحرين وقطر، والأحساء، لم يأت اختيار الكويت من هاجس عابر، وإنما من حسابات وتقدير للمكاسب وتوازنها مع البعد الجغرافي عن الرياض. وتختار الكاتبة شيماء الملا ثلاثة مسببات جوهرية أبرزت أهمية الإقامة في الكويت، الأول لمسببات تجارية اقتصادية، فتبيع القبائل البرية بضائعها في الكويت، وتشتري منها ما تريد في نظام متعارف عليه يسمى «السابلة»، والثاني استراتيجي يعكس الموقع الجغرافي للكويت كميناء مفتوح للتصدير والاستيراد وفق قواعد خرجت من مهارة تجارية صنعتها التجارب..

والثالث وهو جغرافي، قربها من البصرة، يساعد الإمام وابنه في تواصله مع الدولة العثمانية. المؤكد أن عبدالعزيز بن سعود استحسن أجواء النسيم التي يصنعها الانفتاح السياسي والتجاري والثقافي في الكويت، وأحس بأهمية النوافذ التي تعبر منها أخبار الأحداث العالمية والتراشقات الإقليمية وما يصل عن الاهتمام الأوروبي بالمنطقة، سواء من قبل روسيا القيصرية أو ألمانيا الموحدة والتنافس مع الامبراطورية البريطانية.

كانت الكويت محطة أطماع التحالفات الألمانية - العثمانية، وكانت هدفاً للدبلوماسية البريطانية في تطويق نفوذ الدولة العثمانية الممتد إلى الأحساء. كما شهد الملك عبدالعزيز في عز شبابه التحولات في الوجود البريطاني الذي تمثل في اتفاقية عام 1899، التي أحكمت عبرها بريطانيا قطع التواصل العثماني بين البصرة والأحساء، وأدرك المعاني الاستراتيجية لتلك الاتفاقية التي عقدها الشيخ مبارك مع بريطانيا..

كانت علاقة الشيخ مبارك الصباح وعبدالعزيز بن سعود تكتسي بالخصوصية والحميمية، قريبة من ترابط الوالد بولده، فيها تبادل الاحترام، وفيها الرعاية الأبوية المدركة للاستثنائية التي يملكها الشاب عبدالعزيز، والحرص على تنميتها وتصويبها نحو تحقيق أحلام هذا الشاب الوعد، قيادياً وشجاعة، وحصافة، مع تقدير للاستقامة السلوكية وللالتزام بالقيم العالية التي تجسدها مبادئ الإسلام. كان الشاب عبدالعزيز كما نكتشف من الكتب المتنوعة التي خرجت عن مسيرته، يتصرف بشيء من الإحساس بأن الله سبحانه وتعالى نصير له في الاجتهاد، مراقب لسلوكه، يعزز حسن نواياه، وحريص على تأمين نجاحه، ويراعي استعداداته، لكنه لم يستبعد الإخفاق..

تشير المؤلفة إلى إعجاب الشاب عبدالعزيز بتقاليد الدواوين الراسخة في الكويت، التي يرى فيها منتديات للسياسة وللاجتماع والتجارة وفيها آخر الأخبار عن مستجدات الأنباء العالمية. كان الشيخ مبارك الصباح يخشى مفاجآت عدوانية من خصمه عبدالعزيز بن رشيد، حليف الدولة العثمانية، التي تحداها الشيخ مبارك، وكان يكرر على الإمام عبدالرحمن وولده بأنه سيحارب هذا الخصم حتى النهاية، وكان التلاقي في الأهداف يأخذ العلاقات بين الطرفين إلى شراكة استراتيجية إقليمية أمنية، ترسخت هذه الشراكة بعد نجاح عبدالعزيز آل سعود في استعادة السيطرة على الرياض عام 1902، وأخذت الشراكة منحى يهدف إلى إضعاف سلطة الدولة العثمانية في الجزيرة العربية تكون بدايتها في تطويق نفوذها في الأحساء ومنها الانطلاق نحو إزالة ما تبقى لها من النفوذ. كما اقترب عبدالعزيز من أهداف الامبراطورية البريطانية في هزيمة الدولة العثمانية في كل من الجزيرة العربية والعراق وإقليم الشام، ووجد منها عوناً يحتاج إليه في استرجاع القيادة السعودية في نجد وفي هزيمة خصومه من أمراء حايل.

وتكشف الكتب عن مسيرة الملك عبدالعزيز حجم التفاهم بين الملك عبدالعزيز وممثلي بريطانيا في الكويت، وفي الحجاز، كما تتواجد ظلال الشيخ مبارك في هذه العلاقات ليس دعماً فقط وإنما ترسيخ لضروراتها. ويرسم التاريخ تموجات خطوط الشراكة بين الشيخ مبارك وعبدالعزيز وتميزها بالطموح من الطرفين وبالاقتناع بأن القدر حليف لهما، وإذا كان مبارك راغباً في التوسع فإن بن سعود عازم على إعادة كتابة التاريخ بهزيمة بن رشيد باستعادة الرياض وشرعية آل سعود فيها، كما اعتمدت الشراكة على الثقة المتبادلة في الوفاء بعضهما لبعض..

وقد أوفى الملك عبدالعزيز بالعهد، واضعاً سلامة الكويت في ضميره، فلم يتآكل هذا الالتزام مع تقلبات الزمن، ولم يتأثر من اتساع مسؤوليات الملك، ولم تنحصر شحنات الوفاء للكويت في عبدالعزيز وإنما انغرست في جينات الأبناء أيضاً..

في عام 1938، يسجل قنصل بريطانيا في جدة، السير ريدر بولارد Sir Reader Bullard، في مذكراته بأنه تلقى أمراً من الديوان الملكي بالسفر إلى الرياض، لمقابلة الملك عبدالعزيز، فاستغرب القنصل الدعوة مع صعوبة المواصلات آنذاك، لكنه بعد جهد وصل إلى الرياض، واستدعاه الملك عبدالعزيز، ليطلب منه أن ينقل إلى بريطانيا قلق الملك من حشود عراقية على حدود الكويت، وأنه يطلب من لندن الضغط لسحب هذه القوات وأنه لن يتردد بالمشاركة في الدفاع عن الكويت..

ومع انحسار الخطر أرسل ابنه سعود إلى الكويت ليؤكد المشاركة ويردد الأمير سعود للكويتيين ما نقله الملك إلى القنصل البريطاني.. وفي عام 1961، مع أزمة قاسم وتهديداته، يبعث الملك سعود بألف جندي وضابط مع أسلحتهم إلى الكويت من دون انتظار قرار من الجامعة العربية، وبتخويل القائد السعودي بالمقاومة، وينفتح الملك سعود على القاهرة في تواصل مع الرئيس جمال عبدالناصر لتأييد انضمام الكويت وقبولها في الجامعة العربية.

وفي أغسطس 1990، تأتي الكارثة وللمرة الثالثة تفتح الرياض قلب الملك فهد بن عبدالعزيز وقلوب الشعب السعودي قاطبة لاحتضان الكويت؛ أميراً وشعباً، ويطلق الملك فهد صرخة التصميم، قائلاً الشيخ جابر أميرنا كلنا، يا ننتصر جميعاً أو نفشل كلنا.. عشت تلك المأساة وكنت أنقل للكويتيين المتواجدين ما أسمعه، الملك عبدالعزيز شرب حليب الكويت واستساغه، وأوصى الأبناء بالحفاظ على نقاوته، فكانوا الشهب المنقذة عند المآسي.. وشكراً لمؤلفة الكتاب الأنيق بصوره التاريخية.


عبدالله بشارة a.bishara@alqabas.com.kw

للمزيد: https://alqabas.com/article/5803552