نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
سماحة المرجع السيد محمد حسين فضل الله


كتاب نظرة اسلامية حول الغدير

تصـديـر


مما لا شكّ فيه أن مسألة الغدير، بكلّ إيحاءاتها وإشاراتها، تركت آثارها العميقة في الكيان الإسلامي العام، حيث استطاعت ـ في كل تفاعلاتها وكل المواقف السلبية والإيجابية منها ـ أن تختصر كل التاريخ الإسلامي في حركة التنوّع والاختلاف والصراع.

ومن هنا، فإننا لا نملك أن نقف منها موقفاً هامشياً، لأنها تظلّ تفرض نفسها علينا، تماماً ككل قضيّة من قضايا التاريخ التي تلقي بظلالها على الحاضر والمستقبل.

نعم، لا بدّ لنا من إبعاد المسألة عن العصبيّة المذهبية أو الطائفية، وأن تتم دراستها بطريقة موضوعية علمية، في عناصرها الداخلية، وفي الظروف المحيطة بها، في كل امتداد الواقع الإسلامي التاريخي، ومن خلال أنها تمثّل نقطة مفصلية من تاريخ الإسلام الذي لا بدّ لنا من دراسته وكشف النقاب عنه بكل تفاصيله.

وبغضّ النظر عن ذلك، فإن مسألة الغدير هي من المسائل المهمة، التي يفرض البحث العلمي أن يتمّ تناولها ـ بعلمية وموضوعية، وذلك لأن هناك تضافراً للروايات قد يبلغ حدّ التواتر، حيث يذكر العلامة الأميني في استقصاء علمي دقيق، أن مائة وعشرة من الصحابة قد رووا حديث الغدير بطرقٍ مختلفة، وكذلك الأمر في التابعين.

فقد أخرج الإمام أحمد من حديث زيد بن أرقم قال: "نزلنا مع رسول الله(ص) بوادٍ يُقال له: "وادي خم"، فأمر بالصلاة فصلاّها بهجير، قال: فخطبنا، وظلّل لرسول الله(ص) بثوب على شجرة سمرة من الشمس، فقال: ألستم تعلمون؟ أولستم تشهدون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا: بلى، قال: فمن كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم والِ مَن والاه، وعاد من عاداه"(1).

وأخرج الحاكم في مناقب علي من مستدركه عن زيد بن أرقم من طريقين صحّحهما على شرط الشيخين، وفيه: "وإني قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله تعالى وعترتي، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض"، ثم قال: "إن الله عزّ وجلّ مولاي، وأنا مولى كل مؤمن ـ ثم أخذ بيد علي فقال: ـ من كنتُ مولاد فهذا وليُّه، اللهم والِ مَن والاه وعادِ من عاداه"(2). وقد روي هذا الحديث بنفس المضمون في مصادر عدة، كالطبراني الذي أخرجه بسند مجمع على صحته، والنسائي(3) وغيرهما...

وهذا الحديث متواتر عندنا، بل قد صرّح البعض من أهل السنة بتواتره، كما نقل السيد عبد الحسين شرف الدين في مراجعاته عن بعضهم، فقال: "وصاحب الفتاوى الحامدية ـ على تعنّته ـ يصرّح بتواتر الحديث في رسالته المختصرة الموسومة بالصلوات الفاخرة في الأحاديث المتواترة"، ثم قال(ره): "والسيوطي وأمثاله من الحفاظ ينصّون على ذلك، ودونك محمد بن جرير صاحب التفسير والتاريخ المشهورين، وأحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة، ومحمد بن أحمد بن عثمان الذهبـي، فإنهم تصدّوا لطرقه، فأفرد كل منه كتاباً على حدة، وقد أخرجه ابن جرير في كتابه من خمسة وسبعين طريقاً، وأخرجه ابن عقدة في كتابه من مئة وخمسة طرق، والذهبي ـ على تشدّده ـ صحّح كثيراً من طرقه..."(4).

ولهذا ذكرنا أن الكثير من إخواننا السنّة يناقشون في دلالة حديث الغدير ولا يناقشون في السند، وليس ذلك إلا لأن هذا الحديث هو من الأحاديث المروية بشكل مكثّف من السنّة والشيعة معاً.

لمـاذا الغديـر؟!

لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو: لماذا كان الغدير؟ ولماذا عليٌّ دون غيره؟

قال الله تعالى: {يا أيّها الرّسولُ بلِّغ ما أُنزِلَ إليكَ من ربِّك وإنْ لم تفعَل فما بلَّغتَ رسالتَه والله يعصِمُكَ منَ الناس} [المائدة:67]، حيث نعتقد أنها نزلت في علي(ع)، وهذا ما يؤكده جوّ الآية وسياقها، إضافةً إلى أسباب النـزول، حيث توحي بأن النبي(ص) كان قد بلّغ الكثير من الرسالة، أو بلّغ كل تفاصيلها، ولذا فما ذكره بعض المفسرين من أن الأولى حمل معنى الآية "على أنه تعالى آمنه من مكر اليهود والنصارى، وأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم"(5) وغير ذلك، أكثره لا يتناسب مع جوّ الآية الذي يوحي بأن هناك أمراً مهماً يتعلق بسلامة الرسالة، بحيث يعادل الامتناع عن تبيلغه الامتناع عن تبليغ الرسالة من الأساس، هذا مضافاً إلى أن مسألة الهيبة من اليهود والنصارى وقريش، منافية لموقفه الصلب في أداء الرسالة منذ عهد الدعوة وحتى مرحلة الهجرة التي نزلت الآية في آخرها.. وعلى ما قدمناه، يصبح كون الآية نازلة في ولاية علي(ع) أمراً واضحاً، وذلك لأن قرب علي(ع) من رسول الله(ص) من ناحية النسب والمصاهرة يفتح المجال للكثير من أقاويل السوء التي تربط الموقف بالعاطفة في قضية الولاية، ما يحتاج إلى الدفاع الإلهي الذي يتمثل في عصمة الله له عن ذلك كله.

وعلى ضوء ذلك كله، نفهم أن المتعيّن هو تفسير كلمة "المولى" في حديث الغدير بالولاية في خط القيادة، وبقرينة قوله(ص): "ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم"، وهو يعني أنه(ص) أراد أن يثبت لعلي ما هو ثابت لنفسه مما أخذ اعترافهم به، وهو كناية عن القيادة لا المحبة والنصرة، كما يذهب إليه بعض المفسرين، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، نلاحظ أن إعلان مودّة علي ونصرة الناس له ـ بناءً على من فسّر الولاية بالمحبة والنصرة ـ لا تحمل أيّ اساس للنقد وللكلام غير المسؤول من الناس، ليكون ذلك سبباً في الحديث عن عصمة الله له منه(6).

وللإجابة على التساؤل لماذا الغدير؟ ولماذا علي دون غيره، نقول:

هذا الأمر يتطلب أن نبحث أولاً في طبيعة المنصب، أي ما هو الدور الذي يجب أن يلعبه خليفة النبي(ص)؟ وما هي الصفات التي يجب أن يتحلى بها الخليفة؟ ثم بعد ذلك نبحث في المسلمين عن الشخص الذي تتوفّر فيه هذه الصفات، والتي تمكنه من الاضطلاع بالمهمّة.

دور الرسول في حركة الرسالة


ليس دور الرسول هو مجرّد نقل رسالة الله عزّ وجلّ إلى الناس ليكون أشبه بساعي بريد ينقل رسالةً من دون أن تكون هناك حركة متبادلة في التأثير بين الرسول والرسالة في حركة الدعوة، وهذا ما نستوحيه من خلال قوله تعالى: {هو الّذي بعَثَ في الأميِّين رسولاً منهُم يتلُو عليهِم آياتِه ويُزكِّيهم ويُعلِّمُهُم الكتابَ والحِكْمةَ وإن كانُوا من قبلُ لَفي ضلالٍ مبين} [الجمعة:2]، حيث نفهم أن دور الرسول هو تحريك المفاهيم الإسلامية في عملية تغيير الواقع الداخلي للنفسية العامة للأمة، وهذا ما توحي به كلمة "التزكية"، وبالإضافة إلى ذلك، فإن له دور تعليم الأمة خطّ النظرية الإسلامية، على صعيد المنهج والمضمون، وخط التطبيق العملي للنظرية على أرض الواقع، ما يجعل العلم منفتحاً على حركة الواقع في حياة الإنسان، ويجعل الواقع منفتحاً على الكتاب، من خلال المفاهيم القرآنية التي تدخل الروح في المضمون المادي فيتروّح، وتدخل الحس في المضمون الروحي فلا يعيش في عالم التجريد بعيداً عن الواقع وعالم الحس.

ومن هنا، نحن نفهم أن شخصية النبي لا تنطلق على أساس تمثيل الرسالة في الكلمة فقط، بل إن الرسول يجسّد رسالته في الموقف والواقع العملي، فيرى الناس صورة القيمة الإسلامية في الواقع كما يسمعونها في الكلمة...

ولذلك، فقد كان رسول الله(ص) إسلاماً يتحرك على الأرض، فيفهم المسلمون الدعوة في سلوكه بعد أن يسمعوها في قوله، ما يوحي لهم بأنها ليست فكراً مثالياً يعيش في عالم المثال وفي آفاق الخيال، بل هي فكر متجسّد في الواقع العملي من خلال شخصية الداعية.

ومن هنا نجد أن القرآن الكريم قدّم لنا الرسول على أنه القدوة، فقال تعالى: {لقد كانَ لكُم في رسولِ الله أسوةٌ حسنةٌ لِمَن كانَ يرجُو الله واليومَ الآخِر وذَكَرَ الله كثيراً} [الأحزاب:21]، حيث كان يشدّهم هذا الخطاب إلى صورة النبي(ص) التي تمثل النموذج الأعلى للإنسان الرسالي المسلم، ليتحركوا على أساسها.

ونحن نعرف أنّ الإسلام لم ينطلق ويتحرك من خلال كلمات الرسالة في ما بلّغه رسول الله(ص) للناس فقط، بل ومن خلال التجسيد العملي للرسالة في أرض الواقع فيما كان يمثله رسول الله(ص)... فانطلق الإسلام من خلال عقله وقلبه وأسلوبه ونهجه وأخلاقه ودعوته، وقد شكّل الرسول الأكرم(ص) بذلك العنصر المكمّل للقرآن الكريم، لأنّ رسول الله(ص) كان هو القرآن الناطق، القرآن المتحرك في الواقع، حيث كان المسلمون عندما تنـزل الآية من القرآن يجدون تجسيد الآية عملياً في النبي(ص).

ولذلك نقول: لو أنّ الله سبحانه وتعالى أنزل الكتاب إلى الناس من دون أن يكون هناك شخصٌ يجسّد مضمون هذا الكتاب، لما استطاع أن يجتذب أحداً، لأن الناس كما يحتاجون إلى الكتاب الصامت، فإنّهم يحتاجون إلى الكتاب الناطق العملي المتحرّك، وهذا هو معنى الأسوة الذي كان يمثله النبي(ص).

طبيعة الخلافة

من خلال ما تقدم نقول: إن لخلافة النبي(ص) معنى يختلف عن أية خلافة أخرى، إذ ليست قضيّة الخلافة هنا هي قضية شخصٍ يُراد له أن يقود عشيرة من العشائر، أو أن يكون حاكماً إدارياً، كما هو طابع الحكم اليوم، بل إن خلافة النبي(ص) تحتاج إلى شخصٍ يكمِّل دور النبي، فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أرسل رسوله بهذا الدين من أجل أن يُدخل الإسلام في عقول الناس، وفي قلوبهم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، فلا بد لخليفته أن يقوم بنفس الدور، وذلك بأن يحمل في عقله عقل رسول الله، وفي قلبه روح رسول الله، وفي حركته حركة رسول الله في المنهج والمضمون.

وهنا قد تسأل: إذا كان رسول الله(ص) قد أكمل الرسالة، وذلك قوله تعالى: {اليومَ أكملْتُ لكُم دينَكُم وأتْمَمْتُ عليكُم نِعمَتي ورضِيتُ لكُمُ الإسلام ديناً} [المائدة:3]، أو في قوله(ص): "إنه ما من شيء يقرّبكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وأمرتكم به، وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم عن الجنة إلا ونهيتكم عنه"(7)، عند ذلك فما الحاجة إلى شخص يملك عناصر شخصيّة النبي بهذا المعنى؟

وللجواب عن ذلك، لا بدّ لنا من أن نتعرّف طبيعة المرحلة في عهد رسول الله(ص) وحتى وفاته، لأن ذلك هو الذي يلقي الضوء على طبيعة الحاجات التي تفرضها الظروف بعد رسول الله في ما يتصل بحركة الدعوة الإسلامية في الواقع.

كانت الخطّة الإسلامية في بداية حركة الدعوة هي أن يتمّ تحييد الناس عن الشرك، من إجل إدخالهم في المجتمع الإسلامي حتى يتنفّسوا الإسلام، ثم لتبدأ بعد ذلك عملية تجذيره في نفوسهم، فكان الشِّعار: "من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله حقن بها ماله ودمه وعرضه"، وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى ذلك في كتابه، فقال: {قالتِ الأعرابُ آمنّا قُل لًمْ تُؤمِنوا ولكِن قولُوا أسْلَمْنا ولمّا يدخُلِ الإيمانُ في قُلُوبِكُم} [الحجرات:14]. ولكن الحروب والمشاكل الداخلية التي عاشتها الدولة الإسلامية الوليدة في المدينة من خلال المنافقين واليهود قد شغلت برنامجه في تعميق الإسلام في النفوس عن أن يتحرّك في الواقع، كما الظروف التي نشأت بعد النبي في عهد الخلافة لم تساعده على استكمال المشروع، وذلك على الرغم من الامتداد الكبير الذي شهده الإسلام في العالم، ولكنّه امتدادٌ على السطح، في حين أن الواقع كان بحاجة إلى الامتداد في العمق، هذه الحاجة التي لمسناها من خلال التحديات الفكرية والثقافية التي وقفت في وجه الواقع الإسلامي آنذاك، سواء من الداخل في ما يتصل بحركة التشريع، أو من الخارج في ما أثاره الكافرون من شبهات تحتاج إلى من يردّ عليها.

ولذلك فنحن نقول بأن النبي(ص) قد استطاع أن يبلّغ الرسالة للناس، ولكنّه لم يستطع أن يكمل برنامجه العملي في حركة الرسالة في الواقع، فكان يحتاج الأمر إلى من يقوم بهذه المهمة من بعده.

يتبع....