هل سيعتذر الأتراك عن إهانتهم للغة العربية وأهلها؟
د. حامد العطية

لأكثر من ألف عام، استخدم الأتراك الحروف العربية، لم تفرض عليهم، بل هم اختاروا ذلك، وبالحرف العربي دونت المؤسسات الحكومية سجلاتها، وكتب علماء الدين الأتراك مؤلفاتهم، ونظم الشعراء قصائدهم، ولم يعرف المتعلمون من عامة الناس سواها.
في العشرينيات من القرن الماضي أطلق الزعيم التركي كمال أتاتورك ما أسماه حملة "الاصلاحات"، بهدف طمس جوانب رئيسية من الهوية الثقافية للمجتمع التركي، والموروثة من العصر العثماني، مكرساً بذلك علمانية الدولة وهيمنتها على العقيدة، وكانت التغييرات التي فرضها شاملة، لم تدع كبيرة ولا صغيرة، فأنهى الخلافة الإسلامية، وألغى المحاكم الدينية، وجعل المادة الخاصة بعلمانية الدولة في الدستور شبه مقدسة وغير قابلة للتعديل، واقر القسم بالشرف بدلاً من القسم بالله وعلى القرآن الكريم، واعتمد يوم الأحد عطلة اسبوعية بدلاً من الجمعة، واحل التقويم الميلادي مكان الهجري، ومنع الطربوش، وحرم ارتداءالموظفات الحكوميات الحجاب، وأمر بتغيير حروف اللغة التركية من العربية إلى اللاتينية.
تورد مارجرت وود في مقال لها منشور في الدورية الأمريكية لعلم الاجتماع تصريحاً لأتاتورك، بين فيه بأن الغرض من نبذ الحروف العربية هو تقديم الأمة التركية البرهان على أنها "في صف الحضارة العالمية"، وفي مناسبة أخرى وصف التحول بالكلمات التالية: " كانت اللغة التركية حبيسة لقرون طويلة وهي الآن تتخلص من أغلالها"، وتنقل بأن أتاتورك وفي حديث مع صديقه فالح رفقي أتاي، وهو عضو في هيئة اللغة الحكومية، أكد بأن تنفيذ الاصلاحات سيؤدي إلى "تنظيف العقل التركي من جذوره العربية".
وكتب الباحث التركي يلمز بنجول في مقال له منشور في دورية تركية معروفة ما يلي: أراد أتباع كمال أتاتورك ايجاد هوية غربية للجمهورية التركية.. لذلك تبنوا الأرقام الغربية والحروف اللاتينية ويضيف الكاتب بأن هذه الاجراءات تزامنت مع فرض الحكومة الشيوعية السوفيتية الحروف اللاتينية في الجمهوريات السوفيتية التي تقطنها شعوب ناطقة بالتركية.
حملة "التنظيف" التي بدأها كمال أتاتورك واتباعه لم تتوقف عند التحول من الحروف العربية إلى اللاتينية بل طالت أيضاً الكلمات المأخوذة من اللغتين العربية والفارسية، واللتين يصفهما يلمز بنجول بـ "لغتي الدين والثقافة الاسلامية"، وهكذا استبدلت كلمات عربية كانت قد دخلت اللغة التركية مثل أدبيات (أي الأدب) وتنقد (النقد) وشخصي ومهم واصول (منهج) ومسألة وفكر وحياة وتجربة بكلمات أخرى مشتقة من التركية أو لغات اوروبية، وخاصة الفرنسية.
دافع أحد الكتاب الأتراك المؤيدين لكمال أتاتورك عن تبني الحروف اللاتينية بدلاً من العربية مؤكداً بأنها ساهمت في فرز الهوية التركية الخاصة عن الهوية المسلمة، وامتدحها آخر لأنها أرست هوية "غربية" للأتراك، جعلتهم قادرين على التواصل بيسر مع الثقافة الغربية وبصعوبة مع ثقافة الشرق الأوسط.
سعت حكومة أنقرة لتصدير تجربتها، وفي عام 1993م دعت الحكومة التركية الدول الناطقة بالتركية المشاركة في مؤتمر في العاصمة التركية إلى الاقتداء بها وتبني الحروف اللاتينية.
يفهم من تصريحات الزعيم التركي أتاتورك عن ضرورة "تنظيف" التراث التركي من الحروف والكلمات العربية بانه وأتباعه يعتبرون هذه الحروف واللغة قذارة أو درناً، وهذه المسبة لا تسري على اللغة العربية فقط بل كل العرب، شعوباً وجماعات وافراداً، والأهم من ذلك أنها تطال القرآن الكريم وعقيدة الإسلام برمتها.
لا تتحمل الحكومة التركية الحالية بقيادة أردوغان وحزب العدالة والتمنية المسؤولية عن أفعال وتصريحات أتاتورك، ولا نتوقع منها التخلي عن الحروف اللاتينية والعودة لاستخدام الحروف العربية، ولكن من المؤكد أنها لم تتبرأ من أتاتورك وحقده الأعمى على اللغة العربية والإسلام، فما زالت صوره الضخمة تتصدر قاعات ومكاتب الحكومة، وغالباً ما نشاهد المسؤولين الحكوميين الكبار من قادة الحزب الحاكم يعقدون الاجتماعات ويدلون بالتصريحات ومن خلفهم صورة لزعيمهم الراحل، وزيارة قبر أتاتورك ووضع اكليل زهور على قبره تقليد بروتوكولي مفروض على كل الوفود الرسمية التي تزور العاصمة التركية، فيما عدا الوفود والشخصيات القادمة من جمهورية إيران الإسلامية، الذين يرفضون زيارة هذا القبر لأنه وثن للعلمانية المعادية للإسلام، ومن دون اكتراث لحنق الحكومة التركية.
وفي العاشر من تشرين الثاني من كل عام تحتفل الحكومة التركية بذكرى رحيل أتاتورك، وفي تلك المناسبة من العام 2010م دوت الصفارات ونكست الأعلام ووقف قادة الدولة دقيقة صمت أمام قبر أتاتورك، وكتب رئيس الجمهورية عبد الله جول العبارة التالية في سجل تشريفات القبر: "القائد العظيم أتاتورك، نحييكم بإحترام في الذكرى السنوية لانتقالكم إلى دار البقاء. إن تركيا ماضية في تقدمها الحازم بإتجاه الأهداف التي أرسيتها..."
ان تعظيم الحكومة الحالية بقيادة اردوغان وحزبه لأتاتورك واعتباره رمزاً شبه مقدس للأمة التركية هو موافقة ضمنية على منهجه المعادي للعروبة والإسلام، ولهم مطلق الحرية وللشعب التركي في ذلك، لكن هذا الموقف التركي يستدعي استجابة مناسبة من العرب وحكوماتهم ومؤسساتهم.
اللغة العربية قذارة بالنسبة لأتاتورك واتباعه، لذا عندما تدعو الجامعة العربية وزير خارجية تركيا لحضور جلساتها عليها أن تدرك بأنها في قاموس اتاتورك والحكومة التركية الحالية الراضية عنه هي "الجامعة القذرة"، وهذا التنبيه موجه أيضاً إلى حكومات وشعوب الدول التي ترد في مسمياتها كلمة "العربية" مثل المملكة العربية السعودية والامارات العربية المتحدة وجمهورية مصر العربية.
والعجب كل العجب من الأحزاب الإسلامية التي تبنت التجربة التركية ( العلمانية الأتاتوركية بغلاف إسلامي) وتروم تطبيقها في بلادها، فهل سألوا حلفاءهم واصدقائهم الأتراك: متى تنزلون صور اتاتورك الذي سب العرب والقرآن الكريم عندما أقر "تنظيف" اللغة التركية من الحروف العربية من جدران مكاتبكم وترمونها في القمامة؟
ختاماً إيران التي يتهمها كثير من العرب بالعنصرية وكراهية العرب ويحرضون الغرب والصهيونية على تدميرها ما زالت تستخدم الحروف العربية، ولغتها الفارسية تزخر بالكلمات العربية، ولو استمعت لخطاب أو تصريح لمسؤول إيراني لذهلت من كثرة الكلمات العربية في كلامه، وبعد فهل تستحق إيران أم تركيا صفة العنصرية المعادية للعرب؟ قولوها بصراحة: هي الطائفية المقيتة لا غير.
29 شباط 2012م
المصادر:
Margaret Wood, Latinizing the Turkish Alphabet: Study in the Introduction of Cultural Change. American Journal of Sociology, vol. 35, no. 2, 1929.
Yilmoz Bingol, Language, Identity and Politics in Turkey: Nationalist Discourse on Creating a Common Turkic Language. Alternatives: Turkish Journal of International Relations, vol.8, no.2, summer 2009, pp 40-52.