لا تسمحوا للدولار بالانهيار

جيفري غارتين*


بينما يواصل الدولار انهياره في مقابل اليورو والين، وغيرهما من العملات، تبرز الحكمة التقليدية بأنه لا يوجد خيار غير إفساح المجال أمامه، ليواصل انهياره دون توقف أو تدخل. ويقول المنطق السائد إن الاختلال في الميزان التجاري الأميركي يمكن إصلاحه بانخفاض قيمة الدولار، وربما بمقدار الثلث من قيمته الحالية. والفكرة التي يؤيدها وزير الخزانة الأميركي جون سنو، ومدير البنك المركزي ألان غرينسبان، هي أن هذا الانخفاض سيرفع من قيمة الواردات إلى أميركا، والتي ستضطر حينها إلى تخفيض مشترياتها من العالم الخارجي. ومن المفترض كذلك أن يساعدنا الدولار المنخفض القيمة، على بيع بضائع أكثر للعالم لأن صادراتنا ستكون أرخص نسبيا. وسأوضح فيما يلي كم هي خاطئة هذه الأفكار.

انخفاض قيمة الدولار لن يؤدي إلى التقليل من الواردات كما يأمل البعض، بل الارجح أنه سيكون بمثابة ضريبة استهلاكية جديدة. فحوالي ربع الواردات الأميركية تتكون من المواد النفطية، والتي تحدد أسعارها بالدولار. وبالتالي فإن دولارا منخفض القيمة يعني دخولا اقل لمجموعة الدول المصدرة للبترول (أوبك). وهذا ربما يدفع المنظمة إلى رفع اسعار البترول. أما البضائع التي نستوردها من آسيا، وخاصة الصين، فهي تكون بدورها حوالي 25%. ونسبة لأن هذه الكمبيوترات والإلكترونيات والتلفزيونات واللعب، مهمة جدا لاسلوب حياتنا، فالأرجح أننا سنواصل شراءها، حتى ولو ارتفعت أسعارها.

وإذا كانت ذلك كذلك، فهل يمكن للإنتاج المحلي أن يغطي نفقات الواردات، كما يعتقد البعض ويؤكد؟

فقطع السيارات على سبيل المثال، صارت تصنع في المكسيك وغيرها من الدول النامية. وليس متوقعا أن يحدث استبدال لهذه المصانع، التي تمثل خطوط إمداد عالمية، بإنتاج محلي، فقط لأن هناك تذبذبا في اسعار العملات.

وتكمن مشكلة سياسة تخفيض الدولار التي تتبعها الإدارة، في أنها لا تعالج الأسباب الجذرية للاختلالات التجارية الأميركية. فحاجتنا إلى الاستدانة الضخمة من الخارج، ناتجة من مقدراتنا الاستهلاكية الهائلة مع الأنيميا الحادة في مدخراتنا. فالأميركيون لا يدخرون حاليا أكثر من 0.2% من دخولهم الجارية، وهي أقل نسبة خلال 45 سنة.

وما دامت مدخراتنا قليلة إلى هذه الدرجة، فإنها لا تستطيع تمويل الاستثمارات الرأسمالية، مما يضطرنا إلى الاستدانة من المدخرات المتراكمة بالخارج. وتحتاج حكومتنا كذلك إلى مستثمرين أجانب، يشترون سندات خزانتها لتمويل العجز الهائل، الذي تعاني منه الخزانة.
التجار الذين يحركون كل يوم ترليونين من الدولارات في اسواق العملات، يعرفون أنه إذا اعتمدت الولايات المتحدة على الدولار المنخفض القيمة، لتصحيح الاختلال في ميزانها التجاري، فإنها ستدفع العملة دفعا في اتجاه التخفيض السريع، والذي يمتد فترة طويلة، لأن العائدات لن تضاهي بأية حال من الأحوال حجم التوقعات.

وهذا رهان ذو اتجاه واحد بالنسبة للمضاربين. وقد انتشرت الشائعات في كل مكان بأن عددا كبيرا من البنوك المركزية، التي تملك كميات كبيرة من الدولارات، تفكر حاليا في التنويع بحيازة عملات أخرى. وربما تتدخل عما قريب الأموال الاحتياطية وغيرها من أموال المضاربين. وإذا قوي تيار بيع الدولار، فإن ذلك ربما يقود إلى انهيار كامل في سعر الدولار، وإلى أزمة مالية عالمية وكساد عالمي عميق.

ربما تكون قيمة الدولار أكبر من الواقع حاليا. ولكن بدلا من تخفيض العملة والاكتفاء بذلك، فإن على واشنطن أن تسعى إلى إبرام إتفاقية مع أوروبا واليابان والصين، لا تعالج فقط علاقات العملات، بل كذلك التغييرات السياسية المحلية التي تساعد على دعمها.

ويمكن أن نأخذ مثالا على ذلك ما يسمى باتفاقيات بلازا التي أبرمتها إدارة ريغان مع ألمانيا واليابان عام 1985، فقد كانت الولايات المتحدة، مثلما هي اليوم، تعاني من عجز كبير في الميزان التجاري، وكانت ترغب في تخفيض قيمة الدولار، ولكن بدلا من خفض العملة، أو تركها تتدهور من تلقاء ذاتها، سعى فريق الرئيس ريغان إلى إقناع شركاء تجاريين بالمشاركة في تحمل العبء بتوازن السياسات التي يمكن أن تصحح الاختلال.

وقد كان ذلك حلا ناجحا. فقد انخفضت ببطء الفجوة التجارية التي كانت تعاني منها أميركا، ولم يطلب الدائنون الأجانب اسعار فائدة عالية من وزارة الخزانة. ومن هنا، وإذا ما سعت واشنطن إلى إبرام اتفاقية مشابهة اليوم، فإن الصين واليابان يمكن أن تبطئا من انخفاض الدولار بتخفيض عملاتهما، وربما تحتوي الاتفاقية على التزامات سياسية لدعم التوازنات بين العملات.

فعلى سبيل المثال، وبدلا من الاكتفاء بالتأكيد أن النمو الاقتصادي سيخفض من عجز موازناتنا، يمكن لإدارة بوش أن تؤجل أو تقلل من التخفيضات الضريبية الثابتة. ويمكنها كذلك أن توافق على التأميم الجزئي للضمان الاجتماعي، ولكن بعد صياغة خطة لتمويل تكلفة الإنتقال، التي تترواح بين ترليون إلى ترليوني دولار، دون مفاقمة العجز. ويمكنها كذلك أن تعلن بعض الإجراءات التي تقود لتحسين أداء الصادرات، ويمكنها أن تبدأ بدعم أكبر لبعض برامج البحث والتنمية ، بعد وضع خطة لتخفيض حصص الرعاية الصحية بالنسبة للمخدمين، بعمل إعادة تأمين لنفقات العلاج الكبيرة.

وفي المقابل، يمكن للأمم الأوروبية من جانبها أن تسرع برفع القيود لإشاعة مزيد من الانفتاح في اقتصاداتها، ولتصبح مستوردة أكبر مما هي عليه الآن، وينتظر أن تتفق الدول المهمة على التدخل في أسواق العملات، لجعل انخفاض قيمة الدولار تدريجية.

إن قوة عظمى لا يمكن أن تحط من قدر عملتها، وخاصة وهي عملة تدور حولها كل التجارة العالمية، كما إنها لا ترفع يدها عن الخزانة، وكأن السوق يتحمل كل المسؤولية عن الاستقرار المالي العالمي. ومن هنا، ولتصبح قادرة على حل المشاكل التي ترقد وراء العجوزات الكبيرة في الموازنة، فإنها تستخدم فنون إدارة الدولة، داخليا وخارجيا.


* رئيس مدرسة الإدارة بجامعة ييل، وشغل وظائف في الاقتصاد والسياسة الخارجية في إدارات نيكسون وفورد وكارتر وكلنتون (خدمة ـ «نيويورك تايمز»)