مواقف الزعامات الشيعية تجاه الاحتلال
لاشك ان الشيعة عانوا من حكم البعث ولاسيما حكم صدام معاناة شديدة من قتل وإبادة واعتقال وتعذيب وتشريد وتهجير وانتهاك للأعراض ومصادرة للأموال. وهذا ما يجعلنا نقول انه لم يكن من الممكن ان تتبنى أي من الزعامات موقفاً مدافعاً عن صدام وزمرته المجرمة. وهذا الموقف لم يكن مختصاً بالشيعة، إذ يقول الأستاذ علاء الدين المدرس -سني- في كتابه تحت رماد الحرب العاصفة: (قناعة الكثير من الإسلاميين أن الراية المرفوعة أثناء الحرب لم تكن إسلامية، وأن صداماً وحزبه لم يعطوا أي فرصة للإسلاميين للدفاع عن البلد). ولكن
الموقف العام في داخل العراق كان ضد الغزو، أما في الخارج فقد تباينت المواقف.
ولنبدأ بموقف المجلس الإسلامي بزعامة محمد باقر الحكيم، فقد قرر الانخراط بمؤتمرات المعارضة في لندن وصلاح الدين والتي كانت تدعمها أمريكا وجعلتها واجهة سياسية بديلة لنظام صدام.
ملاحظة: محمد باقر الحكيم الذي ارتأى ان يلتحق بمؤتمرات المعارضة تحت الإشراف الامريكي يتبع مرجعية الإمام علي الخامنئي، ومن المعلوم ان إيران وقفت بشدة ضد احتلال العراق لأنه يشكل يهدداً مباشراً لإيران. وإزاء هذه المعضلة وقبل ان ينخرط إلى جانب أمريكا طلب من الخامنئي أن يعطيه الضوء الأخضر فقال له: (افعل ما تراه مناسباً للعراق)، وبذلك فكَّ الحكيم ارتباطه بالمصلحة الإيرانية التي تتعارض مع غزو العراق تماماً.
وقد قرر حزب الدعوة الإسلامية أيضاً الانضمام إلى فلك المؤتمرات التي تزعمتها أمريكا، ومن الشخصيات المنضمة إلى فلك التبعية الأمريكية كل من محمد بحر العلوم وحسين الصدر وعبد المجيد الخوئي.
أما الشيخ جواد الخالصي وهو عضو في تنظيم (الحركة الإسلامية العراقية) فقد كان موقفه مناهضاً للاحتلال منذ البدء ولم يتغير موقفه بعد عودته إلى العراق بل دعا إلى خروج الاحتلال واعتبر الغزو منافياً لكل الشرائع والنظم.
وفي داخل العراق أصدر السيد علي السيستاني عند دخول القوات الأمريكية للعراق فتواه بحرمة التعاون مع الأمريكيين وحرمة التعاون مع نظام صدام. وعندما دخل عبد المجيد الخوئي إلى النجف مع قوات التحالف قدم شكره للسيد السيستاني أمام وكالات الأنباء الأجنبية لتحريمه التعاون مع نظام صدام، ولم يتطرق إلى الشق الثاني؛ مما أشاع موقفاً غير دقيق في تلك المدة. ويمكن القول ان فتوى السيد السيستاني غير واضحة وموقفه الصامت مازال ضبابياً تجاه الاحتلال.
أما التيار الصدري فقد كان موقفهم محسوماً برفض الاحتلال بسبب ما ورثوه من شعار رمزهم الأول الشهيد محمد صادق الصدر:
كلا كلا أمريكا كلا كلا إسرائيل
كلا كلا للباطل كلا كلا للشيطان
اما السيد محمد سعيد الحكيم فيبدو انه تقبل الموقف الذي اتخذه محمد باقر الحكيم زعيم المجلس الإسلامي، فيما توضح موقف السيد البغدادي الرافض للاحتلال.
هذه مجمل التوجهات التي ظهرت في بداية الاحتلال وقد كان سقوط بغداد سريعاً لم يترك للتوجهات ان تتبلور. فقد فوجئ العالم والعراقيون بذوبان الجيش وتبخر ميليشيات الحزب الحاكم واختفاء القيادة العسكرية المتمثلة بصدام وابنيه وبعض القادة الكبار.
الفوضى والنهب والتخريب بعد الغزو
في اليوم الثامن من نيسان 2003م ظهر فراغ السلطة بتبخر مليشيات الحزب الحاكم، وفيما كان الناس في صدمة معنوية وانشداه امام المشهد الواقع، تحفز اللصوص للانقضاء على مؤسسات لدولة ومخازنها المتخمة بالبضائع والمواد والآلات بينما يعيش الناس في عوز وحاجة وكفاف. ومن الجدير بالذكر ان صدام حسين كان قد أطلق السجناء بعفو عام فخرج من السجون نحو 150 ألف سجين فيهم القتلة والمجرمون والمنحرفون واللصوص وقليل من السياسيين (بقي بعض آخر من السياسيين في السجون تحت الأرض).
فراغ السلطة الذي خلقه انهيار نظام البعث انتهزته المجموعات ذات التنظيم المفكك من اللصوص وبدأت صفحة النهب والسلب والتخريب، وكانت أعمال النهب في معظمها موجهة ضد مؤسسات لدولة ومخازنها.. وفي حالات كثيرة صاحب النهب إشعال للحريق.
وتنص أنظمة لاهاي في المادة 43 على أنه: (بعد انتقال سلطة الدولة الشرعية في الحقيقة إلى أيدي دولة الاحتلال يتعين على الأخيرة اتخاذ جميع التدابير المتوافرة لديها لإعادة فرض النظام والسلامة العامة، وضمانهما إلى أقصى حد ممكن. مع احترام القوانين المعمول بها في الدولة إلا إذا منعت من ذلك) [وثيقة منظمة العفو الدولية الصادرة في نيسان 2003م]. لكن سلطة الاحتلال قامت بعمل مناقض لذلك، فقامت القوات الأمريكية باقتحام بعض المخازن والمؤسسات وفتح أبوابها لا بل اوهموا الناس بأنهم سوف يقومون بنسفها فاندفع الكثيرون لأخذ موجوداتها مع اندفاعة اللصوص وتحولت الحالة إلى هستريا لم يفق الناس منها إلا بدعوة أئمة الجوامع والخطباء والوعاظ إلى إرجاع المواد وحرمة أخذها. ولم تكتفِ سلطة الاحتلال بذلك بل حلت الشرطة وتركت الحبل على الغارب، وأخذوا يتمتعون بمناظر النهب والسلب والتخريب والانفلات الأمني حتى قال أحدهم من مقرهم في قطر إن ما يحدث أمر
طبيعي ونحن مرتاحون من سير العمليات).
أمام هذه الأوضاع الشاذة بدأ الناس يشكلون مجموعات خاصة لحماية مناطقهم من زحف العصابات واللصوص نحو المؤسسات الخدمية والممتلكات غير الحكومية. وقد كان دور الحوزة الصدرية في تنظيم مجاميع لحماية المؤسسات الخدمية في النجف واضحاً وكلما احتاجت مؤسسة مجموعة من الحراس كانت حوزة الصدر تتولى توفير ذلك وكان بعض المعممين يقفون بأنفسهم لحماية هذه المؤسسة أو تلك. كما قام مكتب الصدر بإعطاء بعض الرواتب للموظفين للشهر الأول والثاني بعد انهيار الدولة في النجف خاصة.
في كربلاء تم تشكيل قوات كربلاء من أهالي المدينة ولم يكن لهم ارتباط بمكتب الصدر ولكن القوات الأمريكية حلّت هذه القوات بعد ان نصّبوا مسؤولاً على المدينة فعادت أعمال السلب والنهب فاضطروا إلى إعادة هذه القوات تحت سلطة المحافِظ الجديد.
أما في مدينة العمارة فكانت الأمور هادئة بفضل حكمة المحافظ والمسؤولين السابقين حيث اجتمعوا برؤساء العشائر وأعلنوا أن المدينة تحرّرت من حكم صدام ولا حاجة لدخول قوات التحالف سلموها لبعض الشخصيات المرموقة في مجازفة كبيرة حيث تم ذلك قبل بوادر انهيار بغداد.
وفي بغداد تشكلت بعض المجاميع لحماية بعض المؤسسات والمستشفيات لاسيما في مدينة الثورة التي أصبحت تتسمى بمدينة الصدر. وقد تولى مكتب الصدر فيما بعد إدارة هذه المجاميع ودعمها. ومن المفارقات الغريبة ان هذه المدينة ذات الكثافة العالية من السكان يعيش فيها الكثير دون مستوى الكفاف وهنالك بعض اللصوص والعصابات، ولكن هؤلاء اللصوص والعصابات لم يتمكنوا من الاعتداء على المستشفيات الموجودة بداخلها بفضل التكاتف الشديد بين الخيرين من أبنائها. وفيما كانت بغداد تخلوا شوارعها بعد الساعة الخامسة مساءً أو السادسة كنت تستطيع ان تتجول بعد منتصف الليل في مدينة الصدر. ولم يلتزموا بحظر التجوال الذي كان يبدأ في الحادية عشرة.
ويقول تقرير المرصد العراقي (المؤلف من مجموعة من الباحثين الغربيين المعنيين بتاريخ الشرق الأوسط) الصادر في تموز 2003م عند الحديث عن المكتبة الوطنية: (لا بد ان نلاحظ ان الحوزة [حوزة الصدر] قد أضافت حراسها الخاصين بها، بلباسهم الموحد من القمصان والسراويل السود واللحى، إلى المكتبة.. قاموا بنقل قسم كبير من الكتب التي لم يكن بالإمكان تأمين سلامتها في المكتبة إلى مسجدهم حيث هي مخزونة في الوقت الحاضر. ويقول محمد الشيخ حاجم القائم الرئيس على رعاية هذه المجموعة انها تحتكم الآن على 300 الف مجلد.. وأثناء
زيارتنا لمسجد الحق قدرنا ان الكتب قد احتلت حيزاً من قرابة 150-200 متر مكعب).
على انه لم تخلُ هذه الجهود الطيبة من حالات سلبية، وعلى سبيل المثال الشيخ محمد الفرطوسي، أمّنه بعض الناس على مبلغ قدره 95 مليون دينار (45 ألف دولار) أنقذ من أحد المصارف في مدينة الصدر وقد أدعى تسليمها إلى مكتب الشهيد الصدر وعندما تحقق المؤمِّنون وجدوا أنه لم يسلمها، وعندما طالبه مكتب الصدر بالمبلغ هرب خارج العراق ومكانه الآن غير معلوم. فيما تم توزيع المبالغ المؤمنة الأخرى بشكل سليم على أصحابها حسب دفتر المصرف.
مقتل عبد المجيد الخوئي
عبد المجيد الخوئي ابن المرجع الشيعي الكبير ومدير مؤسسة الخوئي في لندن التي تدير مئات الملايين من الدولارات، وصاحب العلاقات الواسعة بالمؤسسات الإنسانية وبالشخصيات المختلفة من الوزراء والعلماء والمثقفين والعاملين في مجال حقوق الإنسان ومجال التقريب بين المذاهب والأديان. جاء في لحظات الحرب الأولى ليحقن دماء العراقيين المظلومين ويوفق بينهم وبين قوات الاحتلال التي كانت لحد لحظة موته تسمى قوات تحرير العراق وهو يراهم قوات صديقة!!
ولكن عبد المجيد الخوئي ذا العلاقات المهمة بشرائح مختلفة وشخصيات مؤثرة في العالم لم يلقَ ترحيباً من مراجع النجف وشخصياتها.
وحتى مرجعية السيستاني التي كانت تتمتع بعلاقات جيدة مع بيت الخوئي الذي بارك زعامة السيستاني وبالمقابل بارك السيستاني قيمومة محمد تقي الخوئي على مؤسسة الخوئي الخيرية في لندن ثم قيمومة عبد المجيد بعد مقتل أخيه عام 1994م على يد المخابرات العراقية، أشاحت مرجعية السيستاني بوجهها عن عبد المجيد الخوئي، وربما كان ذلك تخلصاً من تبعات موقف الخوئي.
ولم يجد الخوئي ترحاباً من الآخرين غير شخصية واحدة ملطخة بجرائم الحكم السابق وهو السيد حيدر الكليدار المسؤول الحكومي عن مرقد الإمام علي عليه السلام، وقد طلب منه ان يتوسط في إصدار عفو من المرجعيات عنه.
وبينما دخل الخوئي برفقة الكيلدار إلى الصحن العلوي في الساعة العاشرة صباح الخميس 10 نيسان 2003م احتشد الناس منددين بدخول الكليدار وبدأ بعض الغوغاء ينادون (اقتلوهم.. اقتلوهم..). وفي مكتب الكليدار كانت هنالك رشاشتان ومسدس. فاطلق الخوئي رصاصة لتفريق الغوغاء ولكن أمراً يبدو انه دبر، فقد دخلت مجموعة مسلحة من المجرمين أطلقت النار باتجاه مكتب الكليدار، وجرى تبادل نار لمدة ساعة ونصف. وبعد ذلك صرخ بعضهم ان مقتدى الصدر قد جاء ولكنه في الحقيقة لم يأتِ. وبعد نفاد عتاد جماعة الخوئي خرج أحد الخدم يحمل المصحف وقطعة قماش بيضاء إعلاناً بالاستسلام. وتدخل بعض الحاضرين لمنع الغوغاء من الاقتراب من الخوئي وجماعته وقالوا انهم سيصطحبونهم إلى مكتب الصدر، وعندما تم إخراجهم من الصحن انقض بعض المجرمين بالسكاكين والحراب على عبد المجيد الخوئي وحيدر الكليدار ومزقوا أجسادها.
هذا مجمل ما حدث وقد اتهم جماعة الصدر بدم الخوئي مع ان الذين قاموا بقتله ليسوا من اتباع الصدر وانما من أرباب السوابق الإجرامية وقد أطلقوا في العفو العام ثم أعيدوا إلى السجن وقد أطلقتهم سلطة الاحتلال.
هذه أول تهمة وجهت إلى مكتب الصدر وأتباعه، ويقول بعضهم ان عملية القتل كانت بتدبير من المخابرات الأمريكية حيث ان القوات الأمريكية على مقربة وان العملية استغرقت أكثر من ساعتين ولم يأتوا لنجدته، وانها عملية مقصود منها اتهام تيار الصدر. علماً ان الخوئي علاقاته القوية والمتشعبة ببريطانيا وليست بأمريكا.
وقد قام السيد كاظم الحائري المتواجد في قم بإرسال لجنة تحري وتحقيق ثبت لها براءة مكتب الصدر من العملية.
ومن الجدير بالذكر انه بعد بضعة أيام أعلن أحد وكلاء السيستاني في الكويت لوكالات الإعلام ان جماعة الصدر قاموا بمحاصرة بيت المرجع السيستاني في النجف وقاموا بتهديده لإرغامه على الخروج من العراق. وعلى اثر هذا التصريح اتجه كثير من الناس والعشائر إلى مدينة النجف ولكنهم لم يجدوا أحداً يحاصره، ومازال ذلك التصريح موضع تساؤل واستغراب.
أقول ربما كانت هذه رسالة إلى السيد مقتدى .. لا تقل ما قاله أبوك:
كلا كلا أمريكا.. كلا كلا إسرائيل..
كلا كلا للباطل.. كلا كلا للشيطان..
ونحن المحتلين سنقول .. ها قد عدنا يا صلاح الدين.
*****
وفي الحلقة القادمة سوف نتطرق إلى انضواء مقتدى الصدر تحت مرجعية الحائري، وذلك في
نظرنا هو بداية التخبط.
alkalyl@maktoob.com
13/9/2004م
المفضلات