لقد بدأ (أحمد الكاتب) دراسته بمحاولة إثبات أن الإمام علي بن أبي طالب والشيعة الأوائل لم يتخذوا موقفاً سلبياً مع الخليفتين الأوليين، وقد استعرض عدة استدلالات على هذا التصور، أولها تولي بعض القيادات الشيعية كسلمان الفارسي، عمار بن ياسر، البراء بن عازب، حذيفة بن اليمان، سهل بن حنيف، عثمان بن حنيف، حجر بن عدي، هاشم المرقال، ومالك الأشتر وظائف في حكومة الخليفتين، كما استعان ببعض الأقوال المنسوبة للإمام علي بن أبي طالب والأئمة من أهل البيت (ع).
إن الاستدلال الأول لا يعد دليلاً على أي موقف إيجابي، حيث أن هذه وظائف والأعمال التي تقلدتها الشخصيات الشيعية اعتبرت كخدمة للمعتقد الإسلامي وليس لتوطيد سياسات عمر بن الخطاب على وجه الخصوص، والتي لم تكن – رغم سلبياتها – متناقضة بشكل فج مع ما يراه الإمام علي والشيعة صحيحاً، وإلا فليس من المنطقي اعتبار أن عمل بعض الشيعة في البلاط العباسي كبنو نوبخت هو دليل على ولائهم للعباسيين، وهو ما لا يمكن لأحمد الكاتب ادعاؤه .
إن السبب الرئيسي لاستعانة عمر بن الخطاب ببعض الشخصيات التي يدرك تماماً ولائها للإمام علي بن أبي طالب(ع) رغبته في إحداث قدر من التوازن مع العناصر الأرستقراطية العربية القديمة والتي تمكنت من استغلال حروب الردة والفتوحات كي تسعى لاحتلال موقعاً أكبر في الدولة، فالملاحظ مثلاً أن العديد من قادة جيوش الخليفتين الأول والثاني في حروب الردة والفتوحات كانوا من الشخصيات الأرستقراطية التي اعتنقت الإسلام في مرحلة متأخرة جداً كعكرمة بن أبي جهل، خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، وبالتالي فقد كانت تعاني من وضع حرج في المجتمع الإسلامي بسبب تاريخها المعادي للدعوة الإسلامية وترغب في تحسين هذا الوضع وهو ما دفعها للتعاطف مع الخلفاء السابقين على الإمام علي (ع)، كما كان هؤلاء الخلفاء في حاجة لدعم هذه الطبقة الاجتماعية في مواجهة معارضة الأنصار – الخزرج على وجه الخصوص – والشيعة، ولا نعدم العديد من النصوص الصريحة التي نقلت على لسان الأنصار في مواجهتهم لأبي بكر بسقيفة بني ساعدة، لعل أهمها قول الحباب بن المنذر لأبي بكر : " لا نحسدك ولا أصحابك . ولكنا نخشى أن يكون الأمر في أيدي قوم قتلناهم، فحقدوا علينا "(11)، وهو تدليل على أن التحالف مع هذه الطبقة كان واضحاً للأنصار ومثيراً لقلقهم، وعلى الرغم من أن مشروعات الخليفتين كانت مختلفة قليلاً عن ما تخطط له هذه الطبقة من منطلق انتمائهما لشريحة تجارية اكتسبت مكانتها عقب اعتناقها للدعوة الإسلامية، إلا أنهما كانا بحاجة مؤقتة لخدمات هذه الطبقة، ولا يبدو دور الخليفة هنا سوى السعي لمواجهة تيار بتيار آخر، وهو أسلوب مازالت بعض الحكومات الديكتاتورية تستخدمه حتى الآن .
وانطلاقاً من هذه النقطة يمكننا تفهم سبب قبول العناصر الشيعية العمل مع حكومة الخليفتين، والتي كان الجميع يدرك فيما يبدو أنها كأسلوب في الحكم غير مؤهلة للاستمرار طويلاً وبالتالي كان العمل على الإعداد لخلافة هذه الحكومة ناشئاً بشكل صدامي بين التيارين، وهو ما أدى بعمر بن الخطاب إلى الانحياز في النهاية للأرستقراطية القرشية في تخطيطه لوسيلة اختيار من يخلفه(12).
على أن التساؤل الذي لم يطرحه أحمد الكاتب هو السبب في عدم تولي الإمام علي بن أبي طالب(ع) لأحد هذه الأعمال أو لقيادة أي من الجيوش التي قامت بالفتوحات رغم قدراته القيادية والقتالية المعروفة ؟ إن هذا التعامل السلبي من الإمام علي بن أبي طالب مع المشروعات الحكومية، ناهيك عن توجيهه لعدة انتقادات صريحة لها يشير بوضوح إلى رفضه للأساس التي قامت عليه هذه الحكومة وإن سمح لأتباعه بالتفاعل مع بعض مشاريعها في نطاق تحسبه من سعي الأرستقراطية القديمة لاكتساب بعض عناصر النفوذ لها .
كما أن الاستدلال ببعض النصائح التي وجهها الإمام علي(ع) لعمر بن الخطاب بخصوص الفتوحات – على فرض صحتها – ليس تدليلاً على تأييده لحكمه، وقد أوضح الإمام علي(ع) في نهج البلاغة القاعدة التي تحكم تعاملاته عموماً مع الحكومات المخالفة : " فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه وآله، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم "(13) .
والواقع أن هذا التكلف الذي يبديه أحمد الكاتب في محاولة إظهار أي حالة من الود بين الإمام علي(ع) وبين عمر بن الخطاب إلى درجة التشبث بأي خبر مهما كانت نقاط ضعفه يبدو بوضوح في المرويات التي نقلها عن كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري والتي تبدو في بعض الأحيان أنها تسعى لإيجاد علاقة بين الطرفين ولو كانت وهمية .
وتعد المروية الأولى هي أكثر هذه المرويات هشاشة وضعفاً وقد نقل أحمد الكاتب أجزاء كبيرة منها ولم ينس أن يؤكد على أن مصادر شيعية لم يسمها في متن البحث ولا في الهوامش قد نقلتها كذلك : " إن حجر بن عدي وعمرو بن الحمق ، وعبد الله بن وهب الراسبي، دخلوا على علي ، فسألوه عن أبي بكر وعمر: ما تقول فيهما؟ وقالوا: بين لنا قولك فيهما وفي عثمان. فقال علي: وقد تفرغتم لهذا؟ وهذه مصر قد افتتحت وشيعتي فيها قد قتلت؟ إني مخرج إليكم كتابا أنبئكم فيه ما سألتموني عنه فاقرءوه على شيعتي، فأخرج إليهم كتابا فيه :
"... فلما مضى (رسول الله) تنازع المسلمون الأمر بعده، فوالله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر على بالي أن العرب تعدل هذا الأمر عني، فما راعني إلا إقبال الناس على أبي بكر، وإجفالهم عليه، فأمسكت يدي، ورأيت أني أحق بمقام محمد في الناس ممن تولى الأمور علي، فلبثت بذلك ما شاء الله، حتى رأيت راجعة من الناس رجعت عن الإسلام يدعون إلى محو دين محمد وملة إبراهيم عليهما السلام، فخشيت إن أنا لم انصر الإسلام وأهله أن أرى في الإسلام ثلما وهدما ، تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولاية أمركم التي إنما هي متاع أيام قلائل ثم يزول منها ما كان كما يزول السراب، فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فبايعته، ونهضت معه في تلك الأحداث حتى زهق الباطل، وكانت كلمة الله هي العليا، وأن يرغم الكافرون. فتولى أبو بكر رضي الله عنه تلك الأمور فيسّر وسدّد وقارب واقتصد، فصحبته مناصحاً وأطعته فيما أطاع الله فيه جاهدا، فلما احتضر بعث إلى عمر فولاه فسمعنا وأطعنا، وبايعنا وناصحنا، فتولى تلك الأمور فكان مرضي السيرة ميمون النقيبة أيام حياته ، فلما أحتضر قلت في نفسي: ليس يصرف هذا الأمر عني، فجعلها شورى وجعلني سادس ستة... ثم قالوا لي: هلم فبايع عثمان، وإلا جاهدناك، فبايعت مستكرها وصبرت محتسبا، وقال قائلهم: انك يا ابن أبي طالب على الأمر لحريص، فقلت لهم: أنتم أحرص... حتى إذا نقمتم على عثمان فقتلتموه، ثم جئتموني تبايعونني، فأبيت عليكم وأبيتم علي، فنازعتموني ودافعتموني ، ولم أمدَّ يدي ، تمنعا عنكم، ثم ازدحمتم علي، حتى ظننت أن بعضكم قاتل بعض، وأنكم قاتلي، وقلتم: لا نجد غيرك، ولا نرضى إلا بك، فبايعنا لا نفترق عنك ولا نختلف، فبايعتكم ودعوتم الناس إلى بيعتي فمن بايع طائعا قبلت منه، ومن أبى تركته، فأول من بايعني طلحة والزبير، ولو أبيا ما أكرهتهما، كما لم أكره غيرهما، فما لبثا إلا يسيرا حتى قيل لي : قد خرجا إلى البصرة في جيش ما منهم رجل إلا وقد أعطاني الطاعة وسمح لي بالبيعة ... "(14) .
لم يلتفت الباحث في أثناء حماسه لإيراد هذا النص إلى مدى تناقضه مع سياق الأحداث التاريخية، ففي حين يورده ابن قتيبة في أثناء إقامة الإمام علي(ع) بالنخيلة في أعقاب المواجهة بينه وبين الخوارج بالنهروان والتي قتل في أثنائها عبد الله بن وهب الراسبي، ورغم ذلك لا تجد الرواية مانعاً من وجوده بعد هذه الحادثة كي يسأل الإمام علي(ع) عن موقفه من الخليفتين(15) .
إن نقاط ضعف المروية لا تقتصر على الشخصيات التي تحركها، فبعض مقاطعها لا تتطابق مع الواقع التاريخي، فتنسب للإمام علي(ع) قوله : " ، فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فبايعته، ونهضت معه في تلك الأحداث حتى زهق الباطل، وكانت كلمة الله هي العليا، وأن يرغم الكافرون "، وهي عبارة غريبة تتجاهل حقيقة أن الإمام علي بن أبي طالب(ع) لم يبد أي تعاوناً مع الخليفتين إذا ما استثنينا مجرد النُصح، وبالتالي فإن هذه العبارة والتي تشير إلى تفاعل وحماسة الإمام علي(ع) في تأييد مشاريع أبي بكر غير واقعية ولا يمكن نسبتها للإمام بأي حال .
من ناحية أخرى تبدو هذه المروية مركبة من أجزاء أو أفكار اقتبست من مرويات أخرى، فعلى سبيل المثال أُخذ المقطع : " فما راعني إلا إقبال الناس على أبي بكر، وإجفالهم عليه، فأمسكت يدي، ورأيت أني أحق بمقام محمد في الناس ممن تولى الأمور علي، فلبثت بذلك ما شاء الله، حتى رأيت راجعة من الناس رجعت عن الإسلام يدعون إلى محو دين محمد وملة إبراهيم عليهما السلام، فخشيت إن أنا لم انصر الإسلام وأهله أن أرى في الإسلام ثلما وهدما ، تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولاية أمركم التي إنما هي متاع أيام قلائل ثم يزول منها ما كان كما يزول السراب "، من كتاب الإمام علي بن أبي طالب(ع) إلى أهل مصر حين ولى عليهم مالك بن الحارث الأشتر(16)، كما أن العبارة : " ثم ازدحمتم علي، حتى ظننت أن بعضكم قاتل بعض، وأنكم قاتلي " مقتبسة من الخطبة للإمام علي(ع) وإن كانت مختلفة من حيث النص أو من حيث الموقف الذي ذكرت فيه : " فتداكوا علي تداك الإبل الهيم يوم وردها قد أرسلها راعيها وخلعت مثانيها حتى ظننت أنكم قاتلي أو بعضهم قاتل بعض لدي "(17)، والعبارة " ثم جئتموني تبايعونني، فأبيت عليكم وأبيتم علي، فنازعتموني ودافعتموني ، ولم أمدَّ يدي ، تمنعا عنكم ... ، وقلتم : لا نجد غيرك، ولا نرضى إلا بك، فبايعنا لا نفترق عنك ولا نختلف " تتشابه من حيث الفكرة مع خطبة للإمام علي(ع) حول موقف طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام من ولايته : " فأقبلتم إلي إقبال العوذ المطافيل على أولادها، تقولون البيعة البيعة . قبضت كفي فبسطتموها، ونازعتكم يدي فحاذيتموها "(18)، على أن العبارة الأكثر وضوحاً في النقل هي التي أوردتها المروية عند نقل الإمام علي(ع) لاتهامات الأمويين له أثناء رفضه لتولية عثمان : " وقال قائلهم: انك يا ابن أبي طالب على الأمر لحريص، فقلت لهم: أنتم أحرص "، وهي منقولة بشكل واضح من مقولة للإمام علي(ع) وإن كانت قد ذكرت في إطار الخلاف الأول عقب سقيفة بني ساعدة : " إنك على هذا الأمر يا ابن أبي طالب لحريص، فقلت بل أنتم والله لأحرص وأبعد، وأنا أخص وأقرب "(19)، والواقع أن الباحث لو عرض المروية كاملة لظهرت ثغراتها بوضوح، ناهيك عن تناقضاتها الفجة، ففي حين يعلن الإمام علي(ع) رضاؤه عن الخليفة الأول والثاني، يوجه لهما وللصحابة في قطعة أخرى اتهاماً مباشراً : " فجعلها عمر شورى وجعلني سادس ستة، فما كانوا لولاية أحد منهم بأكره لولايتي، لأنهم كانوا يسمعونني وأنا أحاج أبي بكر فأقول : يا معشر قريش، أنا أحق بهذا الأمر منكم ما كان منا من يقرأ القرآن، ويعرف السنة، فخشوا إن وليت عليهم أن لا يكون لهم في هذا الأمر نصيب "(20) وهذا التناقض في موقف الإمام في مروية واحدة يظهر كون المروية ملفقة .
كما أورد أحمد الكاتب عدة نصوص للإمام علي(ع) والأئمة من أهل البيت تشير إلى رأيهم الإيجابي في الخليفتين، وهو لم يجد مانعاً منهجياً من أن يتناقض مع نفسه بشكل صريح، أو يتورع عن نقل المصدر ناقصاً في أحيان أخرى، أو محاولة منح إيحاء كاذب للغرض من النص لإثبات وجهة نظره .
فقد نقل من كتاب روضة الكافي هذه المروية عن الإمام الصادق(ع) : " عن أبي بصير قال: كنت جالساً عند أبي عبد الله عليه السلام، إذ دخلت علينا أم خالد تستأذن عليه، فقال أبو عبد الله: أيسرك أن تسمع كلامها؟ قال: فقلت: نعم، قال: فأذن لها، قال: وأجلسني معه على الطنفسة، قال: ثم دخلت فتكلمت، فإذا امرأة بليغة، فسألته عنهما – أي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما – فقال لها : توليهما، قالت: فأقول لربي إذا لقيته : إنك أمرتني بولايتهما، قال: نعم "(21)، والواقع أن الجزء الباقي من المروية لا يخدم أغراض الباحث وبالتالي فقد تعمد تجاهله : " قالت : فإن هذا الذي معك على الطنفسة يأمروني بالبراءة منهما وكثير النوا وأصحابه يأمرني بولايتهما فأيهما خير وأحب إليك؟ قال : هذا والله أحب إلي من كثير النوا وأصحابه، إن هذا يخاصم فيقول : [ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ] [ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ] [ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ] " ومن الواضح أن الجزء الذي تجاهله الباحث ينقض تماماً النتيجة التي يسعى لإثباتها وكان من المفروض، في حالة اعتقاده بعدم جداوه من ناحية علمية أو عدم تأثير نقل باقي المروية، أن يشير في هوامش بحثه إلى هذا الرأي .
والغريب أن يسعى لإيراد أحد نصوص الصحيفة السجادية والتي تتناول الصحابة بصفة عامة كي يحاول التدليل على أنها خاصة بالخليفتين رغم أنها لا تحتوي على أي إشارة تؤيد هذا الافتراض : " اللهمّ وأصحاب محمد صلى الله عليه وآله خاصة الذين أحسنوا الصحبة والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وكاتفوه وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث اسمعهم حُجّة رسالاته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته وانتصروا به، وما كانوا منطوين على محبته يرجون تجارة لن تبور في مودته، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلقوا بعروته وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته، فلا تنس لهم اللهمّ تركوا لك وفيك وأرضهم من رضوانك "(22) وهنا يبدو أحمد الكاتب كما لو كان يسعى بطرف خفي إلى اتهام الشيعة بأن عداؤهم للخليفتين هو عداء للصحابة جميعاً وهي رؤية ساذجة تنطلق من تجاوز للأحداث التاريخية التي تلت وفاة النبي (ص) والتي أدت إلى وجود تمايز في الموقف من الصحابة ما بين العداء للبعض والاحترام والتقديس للبعض الآخر كسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري .
والواقع أن وضع الصحابة كمجموعة في مكانة واحدة يخير الإنسان بين قبولهم جميعاً أو رفضهم جميعاً كما يريد الباحث غير متواجد لدى أي طائفة إسلامية بما فيها السُنة والتي تذكر مدوناتها العديد من المرويات المعادية للصحابة : " حدثني محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن المغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن بن عباس قال قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال إنكم تحشرون حفاة عراة غرلا { كما بدأنا أول خلق نعيده } الآية وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح { وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم } إلى قوله { الحكيم } قال فيقال إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم "(23)، وثمة مروية أكثر وضوحاً بهذا الشأن يرويها البخاري كذلك : " حدثنا أحمد بن صالح حدثنا بن وهب قال أخبرني يونس عن بن شهاب عن بن المسيب أنه كان يحدث عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يرد على الحوض رجال من أصحابي فيحلؤون عنه فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى وقال شعيب عن الزهري كان أبو هريرة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيجلون وقال عقيل فيحلؤون وقال الزبيدي عن الزهري عن محمد بن علي عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "(24) ومع دلالة هذه المرويات على الصراع الذي تم بين الصحابة عقب وفاة النبي (ص) وتأييدها للمرويات التاريخية في هذا الشأن، فمن غير الممكن له اعتبار نص دعاء الإمام السجاد (ع) شاملاً لكل الصحابة بما فيهم الخليفتين .
إن السلبية الأساسية تتمثل في عدم وجود منهجية لدى الباحث للاستعانة بالمرويات، حيث لجأ لأسلوب حشد النصوص بغض النظر عن قيمتها وحقيقتها التاريخية وهو ما أوقعه في تناقض صريح وواضح حيث تبنى نص ورد في صحيح البخاري منسوب للإمام علي(ع) ومتطرف في تفضيله لأبي بكر وعمر : " لا أُوتَى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حدَّ المفتري "، كما نقل مقولة منسوبة لشريك بن عبد الله تنص على تفضيل أبي بكر وعمر : " أن سائلا سأل شريك بن عبد الله فقال له: أيهما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال له: أبو بكر. فقال السائل: تقول هذا وأنت شيعي؟ فقال له: نعم، من لم يقل هذا فليس شيعياً. والله لقد رقي هذه الأعواد علي فقال : " ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر " وبالإضافة إلى أن شريك بن عبد الله لم يكن شيعياً بالمعنى المذهبي وإنما بالمعنى العاطفي، بل أنه تولى القضاء لفترة للعباسيين في عهد الخليفة المهدي ويدل رأيه في إباحة النبيذ إلى عدم اعتناقه للتشيع كمذهب(25)، ويبدو أن الباحث لاحظ مدى تطرف هاتان المرويتان في تعارضهما مع الأحداث التاريخية فاضطر للإعترف بعدها بأن الشيعة عرفوا في التاريخ بتفضيل الإمام علي على باقي الصحابة بما فيهم أبي بكر وعمر، دون أن يحكم على المرويتان بالبطلان بما يستدعي طرح التساؤل عن مدى قيمة مثل هذه المرويات التي أوردها في حال لم يقتنع الباحث بصحتها ؟ على أن الباحث فيما يبدو يستخدم أسلوب حشد النصوص في محاولة لإظهار مصداقيته بغض النظر عن ما تحويه من قيمة علمية في البحث ذاته .
إن مثل هذه المرويات المتطرفة في الانحياز لوجود علاقة إيجابية بين الإمام علي(ع) والخليفتين تشير بوضوح إلى حجم الأزمة المطروحة في تلك الفترة، فما هي قيمة مثل هذه التساؤلات المفتعلة للشخصيات الشيعية والأئمة من أهل البيت(ع) لو كان رأيهم المشهور والمعلن تجاه الخليفتين إيجابي بالفعل .
لقد أورد الباحث بالفعل مرويتين يمتلكان قدراً من الوجاهة يبدو منهما أن الإمام علي(ع) يمدح الخليفتين أولهما رسالته إلى أهل مصر التي أرسلها مع توليته لقيس بن سعد بن عبادة، وقد نقلها الباحث من كتاب الغارات لإبراهيم بن محمد الثقفي : " فلما قضى (رسول الله) من ذلك ما عليه قبضه الله عز و جل صلى الله عليه ورحمته و بركاته، ثم إن المسلمين استخلفوا به أميرين صالحين عملا بالكتاب والسنة و أحسنا السيرة ولم يعدُوَا لِسُنـَّتِهِ ثم توفّاهما الله عز و جل رضي الله عنهما "، والنص الثاني مأخوذ من نهج البلاغة : " لقد قوَّم الأود و داوى العمد و أقام السنة و خلَّف الفتنة، ذهب نقيَّ الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها و سبق شرَّها، أدَّى إلى الله طاعته واتَّقاه بحقِّه " وأعتقد أنه كان الأجدر بالباحث أن يكتفي بهذين النصين بدلاً من حشر نصوص أخرى لا قيمة تاريخية لها وتعاني من نقاط ضعف واضحة .
بالتأكيد يتعارض هذان النصان مع العديد من النصوص الأخرى التي تشير إلى حالة سلبية من الأئمة تجاه الخلفاء السابقين على الإمام علي بن أبي طالب(ع) عموماً لعل أهمها الخطبة الشقشقية : " أما والله لقد تقمصها فلان (أبي بكر) وإنه ليعلم أن محلي منها محل القُطب من الرحى ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير . فسدلت دونها ثوباً وطويت عنها كشحاً ... فصبرت وفي العين قذى . وفي الحلق شجاً أرى تراثي نهباً حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى فلان بعده (عمر) ... فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشد ما تشطرا ضرعيها "(26)، وفي رده على تساؤل الذي طرحه أحد أصحابه : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به ؟ فقال : أما الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسباً، والأشدون برسول الله صلى الله عليه وآله نوطاً، فإنها كانت إثرة شحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين "(27)، وفي رسالته لأخيه عقيل بن أبي طالب يقول : " فجزت قريشاً عني الجوازي، فقد قطعوا رحمي، وسلبوني سلطان ابن أمي "(28) وهي تشير بوضوح إلى مساندة القرشيين للخليفتين الأول والثاني الذين وجه لهما الإمام علي(ع) اتهاماً واضحاً بسلبه حقوقه .
والواقع أن الباحث لم يسعى لإثبات خطأ النصوص المخالفة له وإنما قام بالقفز على هذا الجزء الضروري من بحثه .
وبناء على النصوص السابقة وصل الباحث إلى النتيجة التي نقل صيغتها من نصوص أخرى : " إن التاريخ يسجل : أن الأجيال الأولى من الشيعة، وخاصة في القرن الأول الهجري قالت : " إن عليا كان أولى الناس بعد رسول الله لفضله وسابقته وعلمه ، وهو افضل الناس كلهم بعده ، و أشجعهم وأورعهم وأزهدهم" . وأجازوا مع ذلك إمامة أبى بكر وعمر وعدوهما أهلا لذلك المكان والمقام، وذكروا : " إن عليا سلم لهما الأمر ورضي بذلك وبايعهما طائعا غير مكره وترك حقه لهما ، فنحن راضون كما رضي المسلمون له ، ولمن بايع ، لا يحل لنا غير ذلك، ولا يسع منا أحدا إلا ذلك، وان ولاية أبى بكر صارت رشدا وهدى لتسليم علي ورضاه "(29)، كما نقل نصاً آخر يعبر عن رأي فرقة أخرى من الشيعة : " إن عليا افضل الناس لقرابته من رسول الله ولسابقته وعلمه ولكن كان جائزا للناس أن يولوا عليهم غيره إذا كان الوالي الذي يولونه مجزئا، أحبّ ذلك أو كرهه، فولاية الوالي الذي ولوا على أنفسهم برضى منهم رشد وهدى وطاعة لله عز وجل ، وطاعته واجبة من الله عز وجل "(30)، أما الفرقة الأخيرة من سلف الشيعة – حسب رأي الكاتب – فقد رأت أن : " إمامة علي بن أبى طالب ثابتة في الوقت الذي دعا الناس واظهر أمره "(31).


11 - أحمد بن يحيى البلاذري . أنساب الأشراف . تحقيق / محمد حميد الله . القاهرة 1987 . طبعة دار المعارف ج 1 ص 583 .
12 – أحمد صبري السيد علي . الحقوق السياسية في فكر الإمام علي(ع) . " نشر ضمن مقالات مؤتمر الإمام علي الدولي . نشر معهد العلوم الإنسانية والدراسات الثقافية . طهران 1422 هـ . ق . ص 138 – 141 .
13 – الإمام علي بن أبي طالب(ع) . نهج البلاغة . شرح / الشيخ محمد عبده . بيروت 1990 . دار الكتب العلمية . ص 393 .
14 – عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري . الإمامة والسياسة . تعليق / خليل المنصور . بيروت 1997 . طبعة دار الكتب العلمية . ج 1 ص 125 .
15 – علي بن الحسين المسعودي . مروج الذهب ومعادن الجوهر . القاهرة 1966 . طبعة دار التحرير للطبع والنشر . ج 1 ص 652 .
16 - الإمام علي بن أبي طالب(ع) . م . س . ص 393 .
17 – م . س . ص 73 .
18 – م . س . ص 177 .
19 – م . س . ص 218 .
20 – ابن قتيبة الدينوري . م . س . ج 1 ص 126 .
21 – محمد بن يعقوب الكليني . م . س . ص 198، 199.
22 – الإمام علي بن الحسين(ع) . الصحيفة السجادية . بيروت 1999 . طبعة دار المرتضى . ص 53 (دعاؤه عليه السلام في الصلاة على أتباع الرسل ومصدقيهم) .
23 – محمد بن إسماعيل البخاري . صحيح البخاري . مراجعة / مصطفى ديب البغا . نسخة كومبيوترية . www.sahab.org . بيروت 1987 . طبعة دار ابن الكثير ، دار اليمامة . المجلد الخامس ص 352 .
24 – م . س . مجلد 5 ص 365 .
25 – ابن خلكان . وفيات الأعيان . تحقيق / إحسان عباس . طبعة دار الثقافة . نسخة كومبيوترية . www.ahlahdeeth.com . ج 3 ص 464 – 468 .
26 - الإمام علي بن أبي طالب(ع) . م . س . ص 26، 27 .
27 – م . س . ص 204، 205 .
28 – م . س . 355 .
29 – الحسن بن موسى النوبختي . فرق الشيعة . تحقيق / هبة الدين الشهرستاني . بيروت 1984 . طبعة دار الأضواء . ص 20 .
30 – م . س – ص 21 .
31 – م . س . ص 58 .