ميزان القوى القبلية عند بيعة أبي بكر
إن الاعتداء على الزهراء(ع) كقضية ترتبط في الأساس بحالة الصدام السياسي التي حدثت بين الصحابة عقب وفاة النبي (ص)، والتي تطورت في النهاية إلى استخدام العنف ضد أسرة النبي والتي كانت من ضمن الأطراف المعارضة لما أفرزته السقيفة (ص) .
لقد لجأ الباحث في مناقشته لهذه الجزئية التي يدرك تماماً مدى أهميتها كخلفية لقضية الاعتداء على الزهراء إلى تبسيطها بأقصى درجة كي يصل لنتيجتين مبدئيتين، الأولى : أن ما حدث عقب وفاة النبي لم يكن سوى خلاف مؤقت بين الصحابة، لا يصل لدرجة الصدام العدائي، الثانية : أن خلافة أبي بكر ظلت معلقة حتى مبايعة الإمام علي(ع) له بعد مرور ستة أشهر وبعد وفاة السيدة فاطمة الزهراء(ع)، بما يعني أنه كان بمقدور الإمام علي(ع) إسقاط أبي بكر نظراً لانتمائه لعشيرة ضعيفة في قريش وعدم ميل ميزان القوى القبلية لصالحة في تلك المرحلة حيث أن أبي بكر كان مرفوضاً من معظم عشائر قريش التي تواجدت بالمدينة بالإضافة إلى كونه مرفوضاً من بعض عشائر الأنصار كالخزرج، وهو ما يعني قبول الإمام علي(ع) لخلافة أبي بكر بشكل هادئ .
وفي النهاية يصل أحمد الكاتب إلى النتيجة الأساسية لهذه الجزئية : " ومع بيعة الإمام علي لأبي بكر بعد ستة أشهر من وفاة الرسول (ص) طويت صفحة الخلاف بين الإمام علي وإخوانه من السابقين والمهاجرين والأنصار، وعم الود والحب والتقدير والتعاون في سبيل الله والدفاع عن الإسلام، إلى حد تزويج الإمام علي ابنته أم كلثوم من عمر بن الخطاب . وتسمية ثلاثة من أبنائه باسم أبي بكر وعمر وعثمان " ويستشهد الباحث بدليل يتوافق مع مقدمته : " فإذا كان أبو بكر قد ترك سعد بن عبادة ولم يجبره على البيعة، فقد كان أضعف من أن يجبر الإمام علي على البيعة، وأبعد من أن يأمر باقتحام داره وجلبه بالقوة، أو يسمح لأي أحد بتهديده بإحراق بيته عليه " .
على أن استعراض الأحداث التاريخية لا يتفق مع هذا التبسيط الذي لجأ إليه الباحث، فقد استغل أبو بكر حالة العداء التقليدية بين الأوس والخزرج لإثارة الخلاف بينهما : " إن هذا الأمر إن تطاولت إليه الخزرج لم تقصر عنه الأوس وإن تطاولت إليه الأوس لم تقصر عنه الخزرج ، وقد كانت بين الحيين قتلى لا تنسى وجراح لا تداوى ، فان نعق منكم ناعق جالس بين لحيي أسد يضغمه المهاجري ويجرحه الأنصاري "(81) مما أدى إلى فشل سعد بن عبادة في الحصول على تأييد الأوس، بل أن قطاع من الخزرج تحت قيادة بشير بن سعد الأنصاري لم يكن مؤيداً له وتحالف مع المهاجرين في هذا الخلاف(82)، على أن ما أدى لحسم هذا الصراع لصالح المهاجرين هو تدخل قبيلة أسلم البدوية وقيامها باحتلال طرقات المدينة حيث تقول المروية : " أن أسلم أقبلت بجماعتها حتى تضايق بهم السكك فبايعوا أبا بكر فكان عمر يقول ما هو إلا أن رأيت أسلم فأيقنت بالنصر "(83)، إن كلمة النصر التي استخدمها عمر تشير إلى نوع الخلاف المؤقت الذي تحدث عنه الباحث، فبعض مرويات الطبري تشير إلى حدوث صدام بالأيدي بين عمر بن الخطاب وقيس بن سعد عبادة بالإضافة إلى صدام آخر بينه وبين الحباب بن المنذر بن الجموح، وعموماً فثمة تساؤل ربما يفرض نفسه في هذا الإطار عن كيفية دراية قبيلة أسلم بالأمر في حين كانت بعض أحياء المدينة غير منتبهة بما يحدث ؟ ناهيك عن سبب انحياز قبيلة أسلم لأبي بكر على وجه الخصوص ؟
وبغض النظر عما قد تثيره إجابات تلك الأسئلة من شكوك فإن سقيفة بني ساعدة انتهت بنتيجة واضحة وهي حصول أبي بكر على تأييد قبيلة أسلم التي قامت باحتلال المدينة، وقبيلة الأوس وقدر كبير من الخزرج، بل أن البقية الباقية من الخزرج بايعت أبي بكر بعد أيام قلائل كما يذكر الطبري(84).
فيما يخص عشائر قريش فقد نقل الباحث مروية عن ابن قتيبة بشكل مبتور ومشوه : " إن بني هاشم اجتمعت عند بيعة الأنصار إلى علي بن أبي طالب... واجتمعت بنو أمية إلى عثمان واجتمعت بنو زهرة إلى سعد وعبد الرحمن بن عوف فكانوا في المسجد مجتمعين، فلما اقبل عليهم أبو بكر وأبو عبيدة وقد بايع الناس أبا بكر قال لهم عمر: ما لي أراكم مجتمعين حلقا شتى؟ قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايعته الأنصار "(85) إن نقل المروية بهذه الصورة قد يعطي إيحاء بأن كل هذه العشائر كانت تسعى لتولية الصحابي الذي ينتمي إليها بما يعني أنها لم تؤيد أبي بكر في مسعاه لتولي السلطة، إلا أن الجزء الذي لم يدونه الباحث يعطي صورة أوضح : " فقام عثمان بن عفان ومن معه من بني أمية فبايعوه، وقام سعد وعبد الرحمن بن عوف ومن معهما من بني زهرة فبايعوا "(86)، وحسب هذه المروية التي استدل بها الباحث، فإن أبي بكر حصل على مبايعة بني زهرة وبني أمية وهما من العشائر القوية في قريش .
لقد عول الباحث كثيراً على حالة التحريض والحماس التي أبداها أبو سفيان للإمام علي(ع) حين عاد إلى المدينة واكتشف أن أبو بكر قد بويع له بالخلافة، على أساس كونها تؤكد أن أبي بكر لم يحظ بتأييد قريش، إلا أن هذه الحادثة متأخرة عن السقيفة في حين كان بني أمية قد بايعوا بالفعل إتباعاً لخطى عثمان بن عفان والذي أصبح هو المتزعم الأساسي لهذه العشيرة عقب سيادة الإسلام على الجزيرة العربية اعتماداً على أسبقيته في اعتناق الإسلام .
والواقع أن هذه الحماسة لأبو سفيان سرعان ما تلاشت أمام محاولات التدجين التي استخدمتها معه السلطة الجديدة بما أدى لتغيير موقفه السياسي تماماً، فقد كان مكلفاً من قبل النبي (ص) بجمع صدقات نجران، وقد لجأت السلطة الجديدة إلى شراء تأييده عن طريق التغاضي عن مطالبته بهذه الأموال : " و روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة عن عمر بن شبة عن محمد بن منصور عن جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار قال كان النبي (ص) قد بعث أبا سفيان ساعيا فرجع من سعايته و قد مات رسول الله ص فلقيه قوم فسألهم فقالوا مات رسول الله (ص) فقال من ولي بعده قيل أبو بكر قال أبو فصيل قالوا نعم قال فما فعل المستضعفان علي والعباس أما و الذي نفسي بيده لأرفعن لهما من أعضادهما .
قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز و ذكر الراوي و هو جعفر بن سليمان أن أبا سفيان قال شيئا آخر لم تحفظه الرواة فلما قدم المدينة قال إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم قال فكلم عمر أبا بكر فقال إن أبا سفيان قد قدم و أنا لا نأمن شره فدع له ما في يده فتركه فرضي "(87) .
إذن فقد تحولت الأوضاع القبلية لصالح أبي بكر الذي أجاد استغلال حالة الاحتقان القبلي ما بين الأوس والخزرج في السقيفة كما تمكن من الحصول على دعم عشائر قريش باستثناء بني هاشم، والصحابة الموالين للإمام علي(ع)، على أنه لابد من توضيح أن قوة الخليفة الأول لم تكن بناء على قاعدة حقيقية فالأمر لم يتعد القدرة على عقد التحالفات مع قوى أخرى كانت لها مشاريعها الخاصة إلا أنها اتفقت على رفض تولي الإمام علي(ع) للخلافة .
لقد رفض الباحث المرويات التي تحدثت عن الصراع الناشب بين الإمام علي(ع) والسلطة الجديدة بناء على أن الأوضاع القبلية لم تكن في صالحة بتلك الفترة، وعلى الرغم من أن هذا الاستدلال تبين مدى هشاشته فإن استنتاج الباحث يظل مطروحاً : " فإذا كان أبو بكر قد ترك سعد بن عبادة ولم يجبره على البيعة، فقد كان أضعف من أن يجبر الإمام علي على البيعة، وأبعد من أن يأمر باقتحام داره وجلبه بالقوة، أو يسمح لأي أحد بتهديده بإحراق بيته عليه " أن قوة الإمام الحقيقية لم تكن في قوة عشيرته فقط أو قدرته على أن يثير المشاكل تجاه الحكومة الجديدة بقدر ما كانت فيما يمثله من شرعية دينية، وهو ما لا يتحلى به سعد بن عبادة الذي ترك بلا بيعة استخفافاً بقيمتها كما نصح بشير بن سعد الأنصاري : " إنه قد لج وأبى وليس بمبايعكم حتى يقتل وليس بمقتول حتى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته فاتركوه فليس تركه بضاركم إنما هو رجل واحد فتركوه وقبلوا مشورة بشير بن سعد واستنصحوه "(88) فمحاولة إجبار سعد بن عبادة على البيعة لن تسبب بالنسبة للحكومة الجديدة سوى مشاكل مع الخزرج الذين كانوا قد بايعوا بالفعل دون أن تحوي قيمة أو فائدة حقيقية وبالتالي فإن أبي بكر لم يجد داعياً لمخاطرة بلا قيمة، وبالتأكيد كان وضع الإمام علي(ع) يختلف عن بشير بن سعد في تمثيله لقاعدة دينية وسياسية وقبلية قوية – رغم أقليتها العددية في هذه الفترة – كانت قادرة على التشكيك في شرعية تولي الخليفة للخلافة، وإعادة استقطاب القوى الأنصارية التي أُجبرت على البيعة مرة أخرى، في مقابل إدراك الخليفة الأول لهشاشة تحالفه مع الأوس وبعض القوى القبلية، وبالتالي فقد كان يجب على الخليفة السعي للحصول على بيعة الإمام علي(ع) بكل الطرق .
أما المرويات التي تذكر اعتصام الإمام علي(ع) عقب بيعة أبي بكر مع أنصاره في بيت فاطمة(ع) ورفضه البيعة والعنف الذي مورس ضد المعتصمين فقد عرضها الباحث بشكل مستهجن دون توضيح لنقاط الضعف سوى التعويل على ميزان القوى القبلية : " ولكن بعض الروايات تقول إن الإمام علي أخذ يقاوم أبا بكر وانه أركب فاطمة على حمار وراح يدور بها في طرقات المدينة ليلا، استجلابا لدعم الأنصار له، وانه اعتصم مع الزبير وعدد من المهاجرين في بيته وحملوا السلاح استعدادا للمقاومة، مما دفع أبا بكر إلى أن يرسل عمر إلى فاطمة الزهراء ليهددها بإحراق البيت عليهم أو يخرجوا للبيعة، وان الإمام علي قد أُجبر على بيعة أبي بكر " .
الواقع أن الخليفة الأول فشل بالفعل في إجبار الإمام علي(ع) على البيعة لمدة ستة أشهر(89) كما تذكر المرويات، إلا أن استبعاد الباحث لحدوث الاعتصام وما تلاه من أحداث لا يقوم على أساس إذا كانت التوازنات القبلية في صالح الخليفة ولو بصفة مؤقتة، وهي أحداث اتفق على روايتها معظم الإخباريين حتى من غير الشيعة كما يقول ابن أبي الحديد : " فأما امتناع علي (ع) من البيعة حتى أخرج على الوجه الذي أخرج عليه فقد ذكره المحدثون و رواه أهل السير و قد ذكرنا ما قاله الجوهري في هذا الباب و هو من رجال الحديث و من الثقات المأمونين و قد ذكر غيره من هذا النحو ما لا يحصى كثرة "(90) وإن كان ابن أبي الحديد قد استثنى بعض الأحداث التي ينفرد بها الشيعة كالاعتداء بالضرب على السيدة الزهراء(ع)، وبغض النظر عن هذا الحادث فتوجد شواهد كثيرة على مصداقية الأحداث الأخرى كالاعتصام وطلب الإمام النصر من الأنصار لعل أهمها الرسائل المتبادلة بين الإمام علي(ع) ومعاوية بن أبي سفيان، وبين الأخير وولاة الإمام كمحمد بن أبي بكر، فردود الإمام علي(ع) على معاوية تشير إلى حدوث عنف ومحاولات لإجبار الإمام علي البيعة : " وقلت إنني كنت أُقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أُبايع، ولعمر الله لقد أردت أن تذم فمدحت، وأن تفضح فافتضحت . وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً ما لم يكن شاكاً في دينه ولا مرتاب بيقينه "(91)، ورسالة معاوية بن أبي سفيان إلى محمد بن أبي بكر(رض) : " ... فقد كنا وأبوك فينا نعرف فضل ابن أبي طالب وحقه لازماً لنا مبروراً علينا . فلما اختار الله لنبيه عليه الصلاة والسلام ما عنده، وأتم له ما وعده، وأظهر دعوته، وأبلج حجته، وقبضه الله إليه صلوات الله عليه، فكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه حقه، وخالفه على أمره، على ذلك اتفقا واتسقا . ثم أنهما دعواه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما، وتلكأ عليهما، فهما به الهموم، وأرادا به العظيم . ثم بايع لهما وسلم لهما، وأقاما لا يشركانه في أمرهما، ولا يطلعانه على سرهما، حتى قبضهما الله ... ولولا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب، ولسلمنا إليه، ولكنا رأينا أباك فعل ذلك من قبلنا فأخذنا بمثله "(92)، كما يذكر معاوية في أحد رسائله إلى الإمام يستدل فيه بعدم وجود أي حقوق له في الخلافة بالحادثة التي ذكرها ابن قتيبة عن طلب الإمام علي(ع) الدعم من الأنصار في مواجهة السلطة الجديدة : " وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلاً على حمار ويداك في يدي ابنيك الحسن والحسين يوم بويع أبو بكر الصديق، فلم تدع أحداً من أهل بدر والسوابق إلا دعوتهم إلى نفسك ومشيت إليهم بامرأتك، وأدللت إليهم بابنيك، واستنصرتهم على صحاب رسول الله، فلم يجبك منهم إلا أربعة أو خمسة، ولعمري لو كنت محقاً لأجابوك ولكنك ادعيت باطلاً وقلت مالا يعرف ورمت ما لا يدرك . ومهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لما حركك وهيجك : لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم "(93)، إن هذه النصوص تشير بوضوح إلى حقيقة العلاقة ما بين السلطة الجديدة والإمام علي(ع) سواء في عهد أبي بكر أو عهد عمر، كما أنهما يشيران إلى محاولات الضغط التي مورست على الإمام علي(ع) لإجباره على البيعة، والتي عبر عنها معاوية بعبارة واضحة " فهما به الهموم، وأرادا به العظيم " وذلك بغض النظر عن عدم نجاح الخليفة الأول على إجبار الإمام على البيعة عقب السقيفة مباشرة أو اضطراره للانتظار حتى وفاة فاطمة الزهراء(ع) : " لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه "(94) فالمرويات التي تتحدث عن ترك السلطة للإمام علي(ع) وبني هاشم لمدة ستة أشهر دون بيعة إنما تشير إلى تأجيل السلطة لمحاولات الضغط على الإمام(ع) بعد الفشل الأول حتى وفاة فاطمة(ع) خوفاً مما قد تحدثه من تأثير سلبي على المسلمين .
وتبدو مروية طلب الإمام التأييد من الأنصار بمساعدة السيدة الزهراء(ع) منطقية في إطار هذا الصراع، وهي تفسر الإجراءات التالية التي اتخذتها السلطة تجاه الإمام علي(ع) والسيدة فاطمة(ع) خاصة فيما يخص ميراثها من الرسول (ص) في فدك، وتغير موقف بعض الأنصار وندمهم المعلن على بيعتهم لأبي بكر مما استدعى لجوء السلطة إلى إجراءات سلبية تجاه الأنصار، تقول المروية : " لما بويع أبو بكر واستقر أمره، ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته، ولام بعضهم بعضاً، وذكروا علياً وهتفوا باسمه وإنه في داره لم يخرج إليهم. وجزع لذلك المهاجرون وكثر في ذلك الكلام. وكان أشد قريش على الأنصار نفر فيهم : سهيل بن عمرو والحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل، ... فلما اعتزلت الأنصار تجمع هؤلاء فقام سهيل بن عمرو فقال : يا معشر قريش إن هؤلاء القوم قد سماهم الله الأنصار وأثنى عليهم القرآن فلهم بذلك حظ عظيم وشأن غالب، وقد دعوا إلى أنفسهم وإلى علي بن أبي طالب وعلي في بيته لو شاء لردهم ! فادعوهم إلى صاحبكم (أبو بكر) وإلى تجديد بيعته فإن أجابوكم وإلا فاقتلوهم، فوالله إني لأرجو أن ينصركم عليهم كما نصرتم بهم ... وقال الحارث : فإنه قد لهجوا بأمر إن ثبتو عليه فإنهم قد خرجوا مما وسموا به وليس بيننا وبينهم معاتبة إلا السيف. وقال عكرمة : إن الذي هم فيه من فلتات الأمور ونزعات الشيطان وما لا يبلغه المنى ولا يحمله الأمل، اعذروا إلى القوم فإن أبوا فقاتلوهم "(95) إن تعصب شخصيات قرشية كسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل للسلطة الجديدة ضد الأنصار يؤكد أن عشائر قريش كانت قد قررت دعم السلطة الجديدة، وقد اعتبرت أن هذه المجموعة من الأنصار التي قررت تغيير موقفها ودعم الإمام علي(ع) تمثل خطر على مستقبلها السياسي إلى درجة تقديم اقتراحات تصل إلى القتل والمحاكمة بالسيف كعقاب لهذا التصرف، ومن ناحية أخرى لا يوجد مبرر لهذا التحول لدى هذه المجموعة من الأنصار سوى سعي الإمام علي(ع) لاستقطابهم وتغيير موقفهم السياسي وهو ما يؤكد صحة مروية حمل الإمام للزهراء(ع) والدوار بها على بيوت الأنصار ليلاً(96) .
يطرح الباحث تساؤلات لمناقشة قضية الاعتداء على الزهراء(ع) : " هل تقاوم هذه الأسطورةُ الروايةَ الأولى علميا ؟ وهل هي رواية متواترة ؟ أم هي خبر آحاد ؟ أو إشاعة سخيفة ؟ وهل هي مسندة بشكل متصل ؟ أم مقطوعة ومرسلة وغامضة ومتناقضة ومجهولة ؟ وهل هي قديمة ومعروفة في الأجيال الأولى؟ أم نظرية حادثة في العصور المتأخرة؟ " .
إن هذه الأسئلة تدل على أن الباحث يرغب في التعامل مع مرويات القضية حسب موقفها السندي، وهو أسلوب يصلح مع مرويات الفقه أو العقيدة لكنه غير صالح إطلاقاً مع المرويات التاريخية والتي لا تعترف بأي مصداقية لأشخاص دون آخرين في نقل الأحداث .
لقد لجأ الباحث إلى استعراض المرويات والبحث عن وسائل تحقق له نتيجته المعلنة مسبقاً، وقد بدأ بالمروية التي نقلها ابن أبي الحديد عن مصنف ابن أبي شيبة : " حدثنا عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب (المعاصر لمالك بن أنس) حدثنا زيد بن أسلم العدوي (توفي سنة 136) عن أبيه أسلم مولى عمر بن الخطاب (توفي بين سنة 60 – 70 هـ) : أنه حين بويع لأبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان علي والزبير يدخلان على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشاورونها ويرتجعون في أمرهم ، فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب خرج حتى دخل على فاطمة فقال : " يا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ما من أحد أحب إلينا من أبيك، وما من أحد أحب إلينا بعد أبيك منك ، وأيم الله ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك، أن أمرتهم أن يحرق عليهم البيت ". قال : فلما خرج عمر جاءوها فقالت : تعلمون أن عمر قد جاءني وقد حلف بالله لئن عدتم ليحرقن عليكم البيت وأيم الله ليمضين لما حلف عليه، فانصرفوا راشدين، فَروا رأيكم ولا ترجعوا إلي، فانصرفوا عنها فلم يرجعوا إليها حتى بايعوا لأبي بكر " .
وقد نقل ابن أبي الحديد هذا الخبر عن كتاب السقيفة للجوهري وان اختلف في ذكر الأسماء التي كانت تدخل بيت فاطمة(ع) حيث ذكر أن الزبير والمقداد كانا يدخلان إلى الإمام علي(ع) في جماعة من الناس للتشاور ثم ذكر بقية المروية(97) وهي في مروية الجوهري تبدو أكثر واقعية .
والواقع أن الباحث نفسه شكك في قيمة هذه المروية من الناحية العلمية وإن لم يوضح أسباب تشككه، إلا أنني اتفق معه بالتأكيد في أن هذه المروية – مروية ابن أبي شيبة – تعاني من عدة نقاط ضعف لعل أهمها اختزالها المعارضين لخلافة أبي بكر في الإمام علي(ع) والزبير بن العوام، بالإضافة إلى إشارة المروية لبيعة الإمام علي(ع) للخليفة قبل وفاة السيدة فاطمة الزهراء(ع) وهي نقطة الضعف التي تشترك فيها الصيغتين للمروية، أما نقطة الضعف الثالثة فهي عدم توضيح المروية للأسباب التي دفعت الإمام علي(ع) والمجموعة المناصرة للاستسلام بهذه السهولة أمام تهديد عمر بن الخطاب حتى مع إدراكهم الواضح في المروية لصدق تهديده لهم .
على أن المثير للغرابة هو استخدام الباحث لسياسة التبسيط مع هذه المروية : " فان هذه الرواية تتحدث فقط عن التهديد بحرق البيت . مع إعراب عمر عن محبته للزهراء، وانصراف علي والزبير ومبايعتهما لأبي بكر " وهنا يسعى الباحث بشكل غريب لخلق قناعة ما تتقبل أن يجتمع التهديد الجدي بحرق المنزل الزهراء(ع) ومحبتها واحترامها في آن لدى عمر بن الخطاب، وهو لم يكن من الممكن أو المحتمل أن يفكر بهذا الأسلوب أو يسعى لمثل هذه المغالطة لولا أن الاتهام موجه لشخصية عمر بن الخطاب وتبنيه للأسلوب السلفي في إخضاع التاريخ للانتهازية الطائفية بغض النظر عن الحقيقة .
ولم يستخدم الباحث نفس أسلوب عرض المروية وتبريرها بهذا الشكل مع مرويات الجوهري التي نقلها ابن أبي الحديد ربما لأنها – رغم ما في بعضها من تناقض – لا تخدم أغراضه، وبالتالي فقد لجأ للتشكيك في ابن أبي الحديد ذاته : " وكل هذه الروايات لا نستطيع التأكد من صحتها، لأن ابن أبي الحديد ينقلها في القرن السابع الهجري عن الجوهري، الذي توفي القرن الرابع ، عن كتابه (السقيفة وفدك) المفقود، الذي ينقل الروايات من دون سند متصل، رغم توثيق ابن أبي الحديد له . وبالتالي لا يمكن الاعتماد على أية رواية منها. لأن الوجدان في الكتب من أضعف طرق الرواية، خاصة إذا كانت قديمة وعرضة للتلاعب والتزوير " والواقع أن تبني منهج الباحث في التعامل مع المرويات بهذا الأسلوب يعني الاستغناء عن كل مصنفات التاريخ الإسلامي تماماً بما فيها تلك التي تتحدث عن إنجازات الخلفاء كالفتوحات وحروب الردة، والتي لم تنقل عن أشخاص وإنما عن مصنفاتهم، وهي تعاني كذلك من كونها مفقودة الآن، وليس من الصعب على أي إنسان التشكيك في التاريخ الإسلامي كله إذا ما استخدم هذا الأسلوب في إطلاق الأحكام دون عرض أدلة، فالباحث لم يشر لمن الذي يتهمه بالتزوير والتلفيق في الكتاب ؟ وكيف لم ينتبه المؤلفون وعلى الأخص ابن أبي الحديد لهذا التناقض في النسخ المختلفة – لو كان ثمة تناقض – خاصة مع شدة الصراع الدائر بين المذاهب المختلفة وسعي كل منها لتوظيف التاريخ كذلك في صراعاتها مع الآخرين ؟ بالإضافة إلى أنه لم يحدد بالضبط ما هو المُلفق أو المزور في الكتاب ودلائله على ذلك ؟ هذه الأسئلة لم يطرحها الباحث وهو يشكك بكل سهولة في نص كتاب " السقيفة وفدك " والذي يبدو من الواضح أنه تعرض للأحراج الشديد بسبب توثيق ابن أبي الحديد للجوهري بما لم يمكنه من التشكيك في المرويات الواردة أو الطعن في مصداقية المؤلف فسعى للتشكيك في الكتاب ذاته للتخلص من حرج ممارسة نقد حقيقي على المرويات .
81 - الجوهري . م . س . ص 55 / المظفر . م . س . ص 120، 121 .
82 - الجوهري . م . س . ص 58 / المظفر . م . س . ص 103 - 108 .
83 – محمد بن جرير الطبري . م . س . ج 2 ص 244 .
84 – م . س . ج 2 ص 244 .
85 – ابن قتيبة الدينوري . م . س . ج 1 ص 14، 15 .
86 – م . س . ص 14، 15 . تقول المروية : " " إن بني هاشم اجتمعت عند بيعة الأنصار إلى علي بن أبي طالب... واجتمعت بنو أمية إلى عثمان واجتمعت بنو زهرة إلى سعد وعبد الرحمن بن عوف فكانوا في المسجد مجتمعين، فلما اقبل عليهم أبو بكر وأبو عبيدة وقد بايع الناس أبا بكر قال لهم عمر: ما لي أراكم مجتمعين حلقا شتى؟ قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايعته الأنصار، فقام عثمان بن عفان ومن معه من بني أمية فبايعوه، وقام سعد وعبد الرحمن بن عوف ومن معهما من بني زهرة فبايعوا " .
87 – ابن أبي الحديد . م . س . ج 2 ص 44 . والراوي هو أحمد بن عبد العزيز الجوهري والذي يصفه ابن أبي الحديد بقوله : " هو من رجال الحديث و من الثقات المأمونين ". م . س . ج 2 ص 60 .
88 - محمد بن جرير الطبري . م . س . ج 2 ص 244 .
89 - ابن قتيبة الدينوري . م . س . ج 1 ص 16، 17 .
90 - ابن أبي الحديد . م . س . ج 2 ص 60 .
91 – الإمام علي بن أبي طالب(ع) . م . س . ص 336، 337 .
92 – المسعودي . م . س . ج 2 ص 10 .
93 – مرتضى العسكري . عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى . قم 1997 . طبعة المجمع العلمي الإسلامي . المجلد الأول . ص 137 .
94 - ابن قتيبة الدينوري . م . س . ج 1 ص 16 .
95 – سعيد أيوب . معالم الفتن . بيروت 1994 . طبعة دار الكرام . ج 1 ص 338 .
96 - ابن قتيبة الدينوري . م . س . ج 1 ص 16 .
97 - ابن أبي الحديد . م . س . ج 2 ص 45 .
المفضلات