والغريب أن يدعي الباحث أن الإثنى عشرية عرفوا بهذا اللقب في آخر القرن الرابع الهجري، في حين اعتمد هو شخصياً على كتاب فرق الشيعة للنوبختي المعتقد وفاته في أواخر القرن الثالث أو أوائل القرن الرابع الهجري في الإشارة إلى عصر الحيرة والفرق المتنوعة التي نشأت عقب غيبة الإمام المهدي (عج)، وفي هذا الإطار أشار النوبختي إلى استقرار الغالبية من الشيعة على الاعتقاد بإمامة الإثنى عشر إماماً(152)، بالإضافة إلى أن أواخر القرن الثالث قد شهدت بداية عصر الغيبة الصغرى وتولي الوكلاء كملية الاتصال بين الشيعة والإمام (ع) والتي تعني بشكل منطقي الاستقرار على الاعتقاد في إثنى عشر إماماً بشكل نهائي، والواقع أن أحمد الكاتب لا يتكلف تجنب التضارب بين استنتاجاته التاريخية المتتابعة والتي لا يمكن الجمع بينها في إطار نظري واحد على الإطلاق .
إن التساؤل الأساسي، وبغض النظر عن رأي العلماء في كتاب سليم، هو عن مصداقية مرويات الاعتداء في الكتاب، وهو ما لم يحاول الباحث بذل أي مجهود في المقارنة بينها وبين غيرها من المرويات التي نقلتها المدونات الأخرى .
لقد نسبت هذه المروية إلى سلمان الفارسي، وهي روايته لأحداث السقيفة، وبعض أحداثها صحيح أو على الأقل لم ينفرد كتاب سليم به وعلى سبيل المثال : " فلما أن كان الليل حمل علي(ع) فاطمة(ع) على حمار وأخذ بيدي ابنيه الحسن والحسين(ع)، فلم يدع أحداً من أصحاب رسول الله (ص) إلا أتاه في منزله، فناشدهم الله حقه ودعاهم إلى نصرته . فما استجاب له منهم رجل غيرنا الأربعة، فإنا حلقنا رؤوسنا وبذلنا له نصرتنا، وكان الزبير أشدنا بصيرة في نصرته "(153)، وقد روى ابن قتيبة الدينوري هذه الحادثة في الإمامة والسياسية مع بعض الاختلافات، وإن كان سليم بن قيس قد رواها كحادثة سابقة على الاعتداء على بيت الزهراء(ع)، في حين رواها ابن قتيبة بعد الاعتداء(154)، كما ذكرها معاوية بن أبي سفيان في رسالته للإمام علي(ع) : " وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلاً على حمار ويداك في يدي ابنيك الحسن والحسين يوم بويع أبو بكر الصديق، فلم تدع أحداً من أهل بدر والسوابق إلا دعوتهم إلى نفسك ومشيت إليهم بامرأتك، وأدللت إليهم بابنيك، واستنصرتهم على صحاب رسول الله، فلم يجبك منهم إلا أربعة أو خمسة "(155) .
وفي المقابل تبدو المروية غير متقنة في كثير من أحداثها والتي تعد مبالغة لحد كبير وغير مقبولة، مثل ما تضمنته من بيعة الإمام علي(ع) قبل مرور ستة أشهر وقبل وفاة الزهراء(ع)، وفضح الإمام (ع) للصحيفة الملعونة(156) ولا أعتقد أن أحداً من السلطة الجديدة كان سيسمح له بمثل هذا التصريح، بالإضافة إلى تكرار بعض الأحداث في عدة مواقع في المروية، الأمر الذي قد يوحي بكونها مكونة من مقاطع لعدة مرويات مختلفة، وبالتالي فمن الممكن الاتفاق مع الباحث حول وجود إشكاليات في مرويات السقيفة التي تتضمن الاعتداء بكتاب سليم رغم أنها تتفاوت في مصداقيتها، فمروية الكتاب لقضايا السقيفة على لسان البراء بن عازب تكتسب مصداقية خاصة في عدم تعارضها مع التطورات المتفق عليها للأحداث، كما رويت في مصادر أخرى غير هذا الكتاب ونقلها ابن أبي الحديد(157) في شرحه لنهج البلاغة، كما أن مروية الكتاب عن ابن عباس رغم تشابهها مع نظيرتها المنقولة على لسان سلمان الفارسي في كثير من التفاصيل إلا أنها أفضل من ناحية الصياغة وتبدو أكثر معقولية .
لقد سبق ومارس أحمد الكتاب الانتهازية في مؤلفه " تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه " في التعامل مع كتاب سليم بن قيس حيث استعان بإحدى مرويات الكتاب التي قد تبدو مؤيدة له، ثم شكك في مصداقيته بموضع آخر من كتابه(158)، وإذن لا تبدو هذه الانتهازية في التعامل مع المصادر الشيعية أو المصادر المعارضة لتوجهاته عموماً حالة طارئة لدى أحمد الكاتب، بل هي وسيلة للتجاوز والقفز على المآزق التي تعترض بحثه .
إن المرويتين السابقتين هما كل ما تمكن الباحث من انتقاده في مرويات الاعتداء على الزهراء(ع)، وعلى الرغم من وجود مرويات أخرى حول هذا الموضوع فإن الباحث فيما يبدو اعتبر أن المرويتين يمثلان نموذجاً باعتبار أنهما الأقدم في الصدور – من وجهة نظره – وبالتالي فباقي المرويات قد اعتمدت في الصياغة على المرويتين، وهذا التصور لم يسعى الباحث لإثباته عن طريق استعراض هذه المرويات ومقارنتها بمروية سليم بن قيس وإنما فرض نتائجه واستنتاجاته على الآخرين، ثم ينتقد افتراضات بعض الباحثين الشيعة والتي تحمل السلطة الجديدة وممارساتها العنيفة ضد الزهراء(ع) مسئولية سقوط المحسن بن الإمام علي(ع) جنيناً : " وهكذا، وبواسطة الافتراض والتخمين، يحاول الميلاني أن يكمل الصورة، وأن ينسب إلى أفضل الصحابة أبشع الاتهامات " .
والواقع أن ما يفترضه بعض الباحثين الشيعة من مرويات الاعتداء من مسئولية للسلطة الجديدة عن إسقاط جنين الزهراء(ع) كنتيجة لهذا الاعتداء هو موضع تساؤل حقيقي لم يجب عنه الباحث رغم أنه تعرض له واتهم طارحيه من الشيعة بالتجني على أفضل الصحابة – حسب تعبيره – بناء على افتراضات، ورغم ذلك لم يسعى هو لتوضيح حقيقة الحدث، فجنين الزهراء(ع) المسمى المحسن ليس اختلاقاً شيعياً بل اعترفت به المدونات السنية وأشارت إلى وفاته سقطاً(159) وهنا يطرح تساؤل نفسه بالفعل عن أسباب تعرض هذا الجنين للسقوط رغم صغر سن الزهراء(ع) ؟ خاصة أن حالتها عقب وفاة النبي (ص) كما يبدو ووفاتها المبكرة ربما تشير إلى تعرضها لقدر كبير من الضغوط النفسية، وهي بكل تأكيد ليست ناتجة فقط عن الحزن لوفاة النبي (ص) وبالتالي فسواء كان سقوط هذا الجنين ناتج عن عنف مباشر مورس ضدها أو عن الحزن بسبب الأحداث التي تلت وفاة النبي (ص) وكان للسلطة فيها دخل كبير بالتأكيد، فلا ريب أن السلطة الجديدة تتحمل قدر كبير من المسئولية عن هذا الحادث .
وأخيراً يقع أحمد الكاتب في تضارب آخر حيث يحمل الدولة الصفوية مسئولية انتشار سب الخلفاء في إيران، ونشرها لتشيع محرف ومشوه أطلق عليه اسم التشيع الصفوي، وهو هنا يستخدم مصطلحات الشهيد علي شريعتي وإن كان مدلولاتها مختلفة بكل تأكيد، فانتقادات الشهيد شريعتي لم تتضمن الرغبة في الدفاع عن أي من الصحابة الذين تورطوا في مواجهات ضد الإمام علي(ع)، بقدر ما كان ينتقد الاستغراق في الشكليات المظهرية والابتعاد عن الجوهر الاجتماعي والثوري والفلسفي للتشيع، الأمر الذي أنتج تشيع تغييبي في حين أن التشيع في الأساس يمثل ثورة دينية واجتماعية على الواقع الذي فرضه الإقطاع والذي تبنى بدوره المذهبين السنيين الأشعرية والسلفية .
إن ممارسة هذا الكم من الانتقاد على الدولة الصفوية بالنسبة للشهيد شريعتي هو مجرد استخدام للرمز أكثر منه تحقيقاً لواقع تاريخي، فعادة سب الخلفاء لم تبدأ مع الصفويين، بل مورست في البداية على يد الدولة البويهية الشيعية، يقول السيوطي في أحداث سنة 351 هـ : " كتبت الشيعة ببغداد على أبواب المساجد لعنة معاوية، ولعنة من غصب فاطمة حقها في فدك، ومن منع الحسن أن يدفن مع جده، ولعنة من نفى أبا ذر، ثم أن ذلك محي في الليل، فأراد معز الدولة أن يعيده فأشار عليه الوزير المهلبي أن يكتب مكان ما محي (لعن الله الظالمين لآل رسول الله(ص)) وصرحوا بلعنة معاوية فقط "(160)، كما مورست كذلك على يد الفاطميين سواء في المغرب أو مصر، بل يذكر السيوطي في سنة 393 هـ : " أمر نائب دمشق الأسود الحاكمي بمغربي؛ فطيف به على حمار، ونودي عليه : هذا جزاء من يحب أبا بكر وعمر، ثم ضرب عنقه "(161)، كما يذكر في أحداث سنة 395 هـ : " قتل الحاكم (الحاكم بأمر الله) بمصر جماعة من الأعيان صبراً، وأمر بكتابة سب الصحابة على أبواب المساجد والشوارع، وأمر العمال بالسب "(162)، وعندما تمكن الشاه إسماعيل الصفوي من بسط سيطرته على إيران قام بممارسة كانت منتشرة بالفعل في الأوساط الشيعية والتي كانت تعاني من القمع والاضطهاد، كما كانت كراهيتها للخليفتين متأصلة بالفعل .
وعلى الرغم من أنني قد اتفق مع أحمد الكاتب بالفعل في رفض استخدام أسلوب السب في التعامل مع الشخصيات التاريخية إلا أن الباحث يتطرف في محاولته استهجان هذا الأسلوب لدرجة تبريره للفتوى الهمجية التي أصدرها مفتي استانبول السُني بإباحة دم الشيعة في إيران بحجة سبهم للصحابة، وهذا التبرير المخجل لفتوى مغرقة في الهمجية هو محاولة لتجاوز ما تسببه مثل هذه الفتاوى من إحراج لبعض المتحولين للفكر السلفي، والذين يرغبون في التأكيد على تحمل الشيعة وحدهم مسئولية العداء الطائفي المتبادل بين الشيعة والسُنة، وإلا فإن سب الشيعة للصحابة ليس مبرراً للحكم بالردة أو للدعوة لتطهير البلاد منهم .
يستعرض الباحث تجربة مؤتمر النجف الأشرف في القضاء على هذه البدعة الصفوية، كما يحلو له تسميتها، وهو مؤتمر يرى السُنة أنه عقد برعاية نادر شاه بين علماء من الشيعة وآخرون من السُنة تم بعده الاتفاق بين الطرفين على نبذ سب الصحابة والاعتراف بفضائلهم، ويبالغ الشيخ عبد الله السويدي مفتي العراق السُني راوي هذه القصة حيث يقول : " أنه حين تم توقيع العلماء على المحضر صار لأهل السنة فرح وسرور لم يقع مثله في العصور ولا تشبهه الأعراس والأعياد، فكان يوما مشهودا من عجائب الدنيا، والحمد لله على ذلك.. وصار ذكر الصحابة ومناقبهم في كل خيمة من المعسكر وعلى لسان العجم كلهم بحيث كانوا يذكرون لأبي بكر وعمر وعثمان مناقب وفضائل يستنبطونها من الآيات والأحاديث مما يعجز عنه فحول أهل السنة، وأخذوا يسفهون رأي الشاه إسماعيل (الصفوي) في سبهم "(163) وبعيداً عن الجملة الأخيرة والتي تذكر أن أن الشاه الصفوي هو من ابتدع سب الخلفاء وهذا غير صحيح كما أسلفت، فربما لو لم يستخدم الشيخ السويدي هذا الأسلوب في المبالغة كان من الممكن لبعض الباحثين تلقي مثل هذه القصة بالقبول، إلا أن الشيخ السويدي – أو بالأحرى أحمد الكاتب – يطلب من الشيعة تصديق أن بعض علمائهم الذين نشئوا في أوساط معادية للخليفتين، وتثقفوا بثقافة دينية معادية لهما كذلك، تحولوا فجأة وبلا أي عناء إلى امتداحهم بل وتفوقوا على نظرائهم السُنة في هذا المجال، ولا شك في أن هذا التصور المضحك غير مقبول على الإطلاق ولا يمكن لعلماء أي مذهب نفي عقائد وعادات وتقاليد مذهب آخر في مؤتمر، وإلا فقد كان على الشيخ السُني مخترع هذا المؤتمر تذكر أن كلاً من العراق وإيران يتواجد بهما أبناء طوائف وديانات عدة لم يتمكن أحد حتى الآن من دفعها للتخلي عن عقيدتها رغم أن بعضها يتسم بالسذاجة والبدائية، بالإضافة إلى أنه لا أثر ترتب عليه مثل هذا المؤتمر المزعوم وما أطلقه من بيانات في الصراع الإيراني / العثماني الذي اكتسب مظهراً شيعيا / سنياً على العراق .
إن الجزء الأساسي الذي يكتسب مصداقية في هذه القصة الساذجة التي رواها السويدي هو سعي نادر شاه إلى اعتراف الدولة العثمانية بالمذهب الجعفري كمذهب خامس، ومنعه لسب الصحابة في إيران، وهذه حقيقة تاريخية بالفعل كمحاولة للقضاء على حالة سعي العثمانيين لمذهبة صراعهم الاستعماري مع الصفويين في إيران وما كان ينتج عنها من مذابح متبادلة من كلا الدولتين لأبناء المذهب المخالف، وهي محاولة لا مجال لإنكار قيمتها بالفعل، إلا إنها لم تجد صدى لدى الطرف الآخر ولم يقبل العثمانيون الاعتراف بالمذهب الجعفري كمذهب خامس وتواصلت المذابح والاضطهادات العثمانية للشيعة .
إن فترة قيام كل من الدولتين الصفوية والعثمانية كانت فترة السقوط النهائي للحضارة الإسلامية بفعل التخلف والرجعية التي عانت منهما الأقطار الإسلامية عموماً تحت سيطرة الإقطاع وعدم قدرة الطبقة التجارية في الشرق كما حدث في أوروبا الغربية، على مواجهته فضلاً عن انتهازيتها وتحالفها مع الإقطاع ضد الطبقات الكادحة في اللحظات الحاسمة للصراع .
إلا أن الملاحظ في هذا الشأن هو عدم قدرة الإقطاع على الثبات في المناطق الشيعية وكثرة الاضطرابات التي شهدتها إيران سواء في المرحلة الصفوية أو المرحلة القاجارية وقصر عمر الدولتين في مقابل بقاء الدولة العثمانية طوال هذه المدة (رغم هشاشتها) تدليل على مدى التناقض ما بين التشيع والإقطاع، في حين مثل المذهب السُني بشقيه الأشعري والسلفي الدعم الأساسي لبقاء الإقطاع غير المركزي الذي عبرت عنه الدولتان العباسية والعثمانية، وكلاهما استمرتا في البقاء بشكل ظاهري لفترات طويلة .
على أنني في المقابل أتفق تماماً مع الباحث في انتقاده لقيام بعض العلماء بتحميل الأحداث والقضايا التاريخية بعداً عقائدياً أو مذهبياً واستغلالها في الصدام مع الآخر بعيداً عن واقع الحقيقة التاريخية، بل واللجوء لتكفير أو نفي كل من يسعى لاستجلاء حقيقة هذه الأحداث، وهذه الممارسة موجودة لدى السُنة والشيعة وقد بدت بوضوح في قضية عبد الله بن سبأ التي أثارها كل من الدكتور الهلابي والدكتور حسن فرحان المالكي في السعودية، وقضية الاعتداء بالضرب على الزهراء(ع)، التي أثيرت بناء على آراء سماحة المرجع السيد فضل الله .
أخيراً يختتم الباحث دراسته بعنوان فرعي ( واقع الشيعة اليوم ) حيث بدأ بمحاولة غريبة وغير مفهومة للترويج بوجود تحول لدى الشيعة في موقفهم من الشيخين قائلاً : " بيد إن مما يسرّ المرء هو حدوث تطور إيجابي كبير لدى عامة الشيعة تجاه هذا الموضوع، وإعادة النظر إلى أسبابه، فان الشيعة اليوم في الحقيقة، يرفضون تلك الاتهامات الأسطورية الفظيعة، ويستنكرونها أشد استنكار، ويكنون احتراما كبيرا للشيخين، وذلك لأن الشيعة اليوم أقرب الى الشورى والديموقراطية منهم الى الفكر الإمامي التقليدي، وليس لهم من " الإمامية " إلا الاسم، ولا يتمسك منهم بتلك الأباطيل إلا فئات صغيرة تميل الى " الإخبارية الحشوية " التي ترفض العلم والاجتهاد وترفض تسليط أي ضوء على التاريخ " وهذه المقولة تدخل في نطاق ممارسة الدجل، ومن الواضح أنها ليست موجهة لقارئ شيعي سيدرك تماماً من واقعه أنها مقولة كاذبة وإنما يوجهها أحمد الكاتب إلى القارئ السُني الذي يجهل واقع المجتمعات الشيعية .
وليس من الصعب التأكيد على ممارسة أحمد الكاتب لهذا الدجل مع متابعة أسلوبه على الإيحاء بحقيقة ما يردده من أكاذيب، خاصة مع استدلاله بموقف سماحة السيد محمد حسين فضل الله(دام ظله) وسماحة السيد مرتضى العسكري(دام ظله) السلبي من زيارتي عاشوراء والجامعة دون توضيح دوافعهما لهذا الموقف، كي يوحي بأن العالمين الكبيرين في عالم التشيع يؤيدان طروحاته، والواقع أن مصداقية الزيارتين وحقيقة صدورها عن الأئمة (ع) من منطلق مهمتهما الأساسية في الحفاظ على تراث أهل البيت (ع) هو ما يشغل العالمين الكبيرين في نقدهما لزيارة عاشوراء وليس الموقف من الشيخين بأي حال حيث أجاب على تساؤل وجه له حول زيارة عاشوراء : " الزيارة المشهورة غير ثابتة سنداً مع الملاحظة على ما ورد فيها من اللعن حيث لم يعهد صدوره من الأئمة (ع) وقد جاء عن الإمام الصادق (ع) ما أيسر ما رضي الناس منكم كفوا ألسنتكم عنهم "(163)، وإلا فإن موقف السيد فضل الله(دام ظله) من الشيخين يعد الأكثر سلبية ورسوخاً من منطلق اعتماده على القراءة الواعية لتجربتهما مقارنة بتجربة الإمام علي(ع) والأئمة من بعده، يقول سماحة السيد تعليقاً على سعي عمر بن الخطاب لاقتحام منزل الزهراء(ع) لفض الاعتصام الذي قام به معارضو السلطة الجديدة : " إنّ هذه الكلمة تشير إلى روحية القوم وما كانوا يهيئون له، مع أنهم لو فتحوا باب الحوار الإسلامي من خلال الكلمات الطيبة، لرأوا أن علياً هو إنسان الحوار كما كان في كل حياته حتى بعد أن أصبح خليفة، ولوجدوا أن فاطمة هي إنسانة الحوار، لأن القرآن الذي كانت فاطمة أكثر الناس التزاماً به كان كتاب الحوار، لكن القوم كانوا قد تجاوزوا مرحلة الحوار عندما جمعوا الحطب لإحراق بيت الزهراء (ع)، وقال قائلهم تلك الكلمة جواباً لقولهم إن فيها فاطمة، فقال ((وإن))، والتي تعبر عن أبشع الظلم الذي تعرضت له الزهراء (ع) "(164) وبعيداً عن العداء غير الواعي لبعض علماء الدين للشيخين فإن دعوة سماحة السيد للوحدة الإسلامية وترفعه عن السب ليس نتاجاً عن تعاطف مع الشيخين أو اقتراب من الرؤية السُنية وإنما عن التزام بسلوكيات أهل البيت (ع) وعن الوعي الحقيقي بسلبيات تجربة الشيخين والتي تحتاج إلى النقد العلمي بعيداً عن العصبية المذهبية : " إننا لا نتصور أن شعار الوحدة الإسلامية يعني دعوة الشيعة إلى أن يتنازلوا عن التزاماتهم الثقافية العقيدية في ما يستنبطونه من التاريخ، أو أن يتنازل السنة عما اقتنعوا به من القضايا التاريخية، وهكذا الشأن في القضايا الفقهيّة والعقائدية، بل إن مسألة الوحدة الإسلامية تنطلق من المنهج الموضوعي الذي يدرس الواقع التاريخي الإسلامي بطريقة علميّة "(165)، أما سماحة السيد مرتضى العسكري فإن القراءة الأولية لمؤلفاته كمعالم المدرستين تشير إلى حقيقة موقفه من التجارب السياسية المخالفة لرؤية أهل البيت (ع) .
إن الموقف الشيعي من الشيخين ليس محدثاً أو ناتجاً عن عناد شخصي وإنما هو نتاج تراث ضخم راسخ في الوعي الشيعي سواء على المستوى الشعبي أو على المستوى العلمائي، ومن السذاجة محاولة الإيحاء بأنه قابل للتغير أو الانتهاء، لمجرد أن أحمد الكاتب أو غيره قد وجهوا له ولعقيدة الإمامة انتقادات مهما يكن مستواها خاصة أن الطرح البديل الذي يضعه الكاتب مشوش وغير واضح المعالم كما أنه يفتقد للمصداقية التاريخية وحتى التطبيقية .
إن وصف الكاتب لعقيدة الإمامة بألفاظ كـ " البائد واللامعقول " لا يعدو أن يكون سباباً من نفس النوع الذي انتقده على الإمامية، وقد كان عليه وهو يسعى بحماس لنقض عقيدة الإمامة أن يثبت مصداقية تصوراته أيضاً وقد قرر هو فيما يبدو تجاوز هذا المبحث ربما لأنه لا يملك تصوراً شاملاً لفكرة الشورى التي يدعو إليها بأسلوب تغلب عليه الشعاراتية الصارخة أكثر من المنهجية العلمية وينسبها بشكل تلفيقي للوسط السُني عن طريق استخدام لغة شتائمية وغير نزيهة .
أخيراُ لقد وقع أحمد الكاتب في إشكالية نتجت بالأساس من تحميله المتعسف والانفعالي للشيعة فقط حالة العداء بين أبناء المذهبين متخيلاً أن هذه الحالة من الممكن أن تنتهي تماماً في حال تراجع الشيعة عن موقفهم تجاه أبي بكر وعمر والتزموا بالتراث الذي يتخيله هو عن أئمة أهل البيت (ع)، إن أحمد الكاتب لم يطرح تساؤلاً عن أسباب الخلاف والتكفير المتبادل بين السلفية والأشعرية من السُنة في حال كانت كل المشكلة هي الموقف من الشيخين، لكن المشكلة الحقيقية هي في طبيعة الفكر السُني ذاته الذي نشأ تحت رعاية السلطة الإقطاعية الحاكمة وهو بالتالي غير قادر على تقبل الآخر في الأساس، ولئن كان الأشاعرة أكثر قدرة في الفترة الحالية على تطوير فكرهم وخطابهم الديني بما يتلائم مع طبيعة العصر فإن الفكر السلفي غير قادر أو حتى راغب في القيام بنفس المهمة، كما أن مشكلته مع الشيعة ليست قاصرة على الموقف من الخليفتين أو حتى الصحابة لكن الأمر يمتد كذلك للموقف من شخصيات لا يمكن للشيعة تقبلهم إطلاقاً كمعاوية بن أبي سفيان ويزيد بن معاوية، وثمة خلافات أخرى حول الموقف من بعض العقائد، فما هي رؤية أحمد الكاتب لتجاوز هذه الخلافات خاصة وهو يعترف أن الشيعة منذ أيام الإمام علي(ع) يتخذون من الخليفة الثالث عثمان بن عفان موقفاً سلبياً وبالتأكيد ينسحب هذا الموقف السلبي على شخصيات أخرى كالزبير وطلحة وعائشة ؟
إن المشكلة بين أتباع المذهبين لم تنتج عن طرف واحد بكل تأكيد، كما لا يمكن أن تتوقف أو تنتهي بالتنازل المفتعل عن ما يظهر لكل منهما من حقائق تاريخية أو تجاهلها، وإنما عن طريق الالتزام بالمنهج العلمي في التعامل مع القضايا الدينية وعدم اللجوء إلى نفي الآخر، أو إكساب القضايا التاريخية والصراعات السياسية لأبعاد عقائدية بحيث يبدو كل فريق حريصاً على إبقاء هذه القضايا في حالة سخونة دائمة لاستغلالها في مواجهة الآخر .



152 – النوبختي . م . س . ص 108 – 112 .
153 – سليم بن قيس . م . س . ص 148 .
154 – ابن قتيبة الدينوري . م . س . ج 1 ص 16 .
155 - مرتضى العسكري . م . س . المجلد الأول ص 137 .
156 - سليم بن قيس . م . س . ص 154، 158 .
157 – سليم بن قيس . م . س ص 138 – 142 / ابن أبي الحديد . م . س . ج 1 ص 219، 220، ج 2 ص 52 .
158 – أحمد الكاتب . م . س . ص 11، 92 .
159 – جمال الدين المزي . م . س . ج 20 ص 168 .
160 – السيوطي . م . س . ص 370 .
161 – م . س . ص 382 .
162 – م . س . ص 382 .
163 – مكتب سماحة السيد فضل الله . www.bayynat.org.lb . الاستفتاءات الكاملة . فئة دعاء – زيارات .
164 – السيد محمد حسين فضل الله . الزهراء القدوة . إعداد وتنسيق / الشيخ حسين أحمد الخشن . بيروت 2000 . دار الملاك . ص 109 .
165 – م . س . ص 41، 42 .