سُئل العلامة المرجع، السيّد محمد حسين فضل الله في ندوته الأسبوعية، حول مصادر الثروة في الأمة والموقف الشرعي الإسلامي من التعامل معها؟
فأجاب: يعتبر الإسلام أنّ كل طاقة في واقع الأمة، سواء أكانت مادية أو معنوية، هي ثروة في رصيدها، ويجب استثمار هذه الثروة والإفادة منها، ولا يجوز تبديدها أو هدرها بأي شكل من الأشكال، وثمّة مسؤولية شرعية قانونية في هذا المجال. فقد حرّم الإسلام الإسراف والتبذير ولو في الأمور اليسيرة والحقيرة، فكيف إذا كانت المسألة تمثّل تلاعباً وهدراً لثروات كبيرة ومصيرية.
إن الثروة في الإسلام على نحوين:
النحو الأول: وهي الثروات العامة التي لا يملكها أشخاصٌ بأعينهم، وإنما هي ملك للأمة بكل مكوناتها، ومن هذا القبيل منابع النفط والمعادن والماء والثروات الجوفية ومجاري الأنهار وما في البحار ورؤوس الجبال وغيرها مما تعارف على جعل إدارتها بيد الدول، لا بيد الأفراد، فهذه الثروات تمثّل مخزوناً استراتيجياً للأمة عبر أجيالها المتعاقبة. وقد وضع الإسلام برنامجاً تفصيلياً لإدارة هذه الثروات وتنظيم شؤونها، وذلك من خلال الحاكم الشرعي العادل ومن ينوب عنه، والذي يضع الأمور في مواضعها من دون حيف أو جور.
النحو الثاني: يتمثل في الثروات التي يتملكها الأفراد أو الجماعات من خلال أنشطتهم التجارية أو الصناعية أو الزراعية وغيرها، أو ما يكتسبونه ببعض أسباب التملك الأخرى كالميراث وسواه. وهذا النحو من الثروات هو الآخر محكومٌ لبرنامج تفصيلي وضعه الإسلام ومنع من تجاوزه، سواء لجهة تكوّن هذه الثروات أو لجهة تحريكها في الواقع، وكذلك بالنسبة إلى أداء حقها، لأن الإسلام وإن لم يقف موقفاً سلبياً من الملكية الفردية، ولكنه في برنامجه التشريعي حال دون تكدّس الثروات في أيدي جماعات أو أفراد قليلين من بني البشر. ومن هنا جاء نظام الضرائب الإسلامي، وكذلك نظام الميراث كعامل من عوامل تفتيت الثروة وتوزيعها على أكبر عدد ممكن من الناس، ليكون الانتفاع بهذه الثروات انتفاعاً عاماً، فقد قال الإمام علي(ع): "ما جاع فقير إلا بما مُتّع به غني"، و"ما رأيت نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حقٌ مضيّع".
وبالعودة إلى الثروات العامة التي تشكّل عصب الحياة بالنسبة إلى الأمة وعنصر قوتها، فإننا نعتقد أن هذه الثروات ليست ملكاً لإقليم دون آخر أو لعائلة معينة أو لعشيرةٍ ما لمجرد أن هذه الثروات تقع في منطقتها، بل إنّ هذه الثروات هي ملك الأمة بأجمعها، ومن حقّ الأمة أن تستفيد منها ليس في الإطار المادي فحسب، بل بما يرتبط بالأمور السياسية والاستراتيجية الكبرى لتتحول إلى مادة للدفاع عن قضايا الأمة في مواجهة أعدائها.إن هذه الثروات العظيمة لأمتنا تتعرض للنهب والهدر وسوء التوزيع، ويضع أفراد قليلون أيديهم عليها، كأنما هي ملكٌ خاص لهم، أو أن الله سبحانه وتعالى وهبها إليهم، وهذا التعاطي السيّى‏ء مع هذه الثروات يمثل ظلماً كبيراً وإن غفل عنه الكثيرون بعدما صار أمراً واقعاً، وبعدما تقسّمت الأمة وتوزّعت دويلات وأحزاب، كل حزب بما لديهم فرحون.
إننا نعتقد أن المخزون من الثروات الطبيعية في الأمة وفي بلاد المسلمين هو ملكٌ للأمة على امتداد أجيالها، فليس من حقّ الجيل الأول أن يستأثر بهذه الثروات ويبددها بما لا يمثل حاجة ملحّة للأمة فيمنع الأجيال الأخرى من أن تستفيد من هذه الطاقات والإمكانات. إن الثروة الحقيقية التي نمتلكها كمسلمين هي الأمة الإسلامية نفسها بما تمثّل من عناصر إنسانية وقيمية وعلمية، وهذا العنصر هو الأساس وهو الذي يحرّك ويدير سائر ثروات الأمة، فإذا صلحت الأمة من داخلها واستقامت وأحسّت بقوّتها واستفاقت من غفلتها وكبوتها فلن تبقى ثرواتها نهباً للآخرين. ولهذا عمل كلٌ من الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي على إدخال الأمة في حال من الغيبوبة الفكرية والسياسية وزجّها في أجواء الخرافة والتجهيل والتمزيق كي لا يصحو هذا المارد الكبير ويتمرّد على سارقيه وناهبي ثرواته من المستكبرين الكبار وأزلامهم الصغار في الداخل.
إن المشكلة الكبرى تكمن في أن ثروات الأمة تسرق مرتين، الأولى عندما يضع الاستعمار والاستكبار يده عليها بشكل مباشر، والثانية عندما يتحكّم هذا الاستعمار بطريقة تسويقها والإفادة من عائداتها والتدخّل حتى في مسألة الحجم الذي ينبغي أن يتمّ استخراجه من هذه الثروات تبعاً لأسواقه الخاصة ولمتطلباته ومصالحه الذاتية. إننا نلاحظ أن ثرواتنا التي تسرق باتت تمثل ورقة بأيدي الناهبين الدوليين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، التي لا تكتفي بنهب هذه الثروات على النحو الذي تقوم به شركاتها التي توظّف بعض المسؤولين الأمريكيين فيها كشركة هيلبرتون وغيرها، بل تعمد إلى التحكم بما هو في باطن الأرض من هذه الثروات ليكون الاحتياط النفطي ـ كما هو الحال في العراق ـ هو احتياط سياسي واقتصادي لمصلحة الإدارة الأمريكية بما يمكّنها من تكثيف ضغوطها على دول الاتحاد الأوروبي وعلى الصين واليابان وغيرها لتكون هذه الثروات بمثابة النقمة على أصحابها الحقيقيين والنعمة على المستكبرين، في ظل حال السقوط التي تعيشها الدول العربية والإسلامية. ولعل حال السقوط هذه ساهمت في وضع الاحتياط المالي العربي في البنوك الأمريكية أيضاً لتتحكم أمريكا باحتياطاتنا النفطية والمالية على السواء.
إن القرارات الدولية التي باتت تصدر بالجملة والتفصيل وتستهدف الدول التي تحمل في حركتها وتوحي في شعاراتها ممانعة للخط السياسي الأمريكي، هي الحلقة الأخيرة التي تستكمل ـ من خلالها ـ الإدارة الأمريكية محاولاتها المتصاعدة لمصادرة القرار السياسي بعد مصادرتها للاحتياطات الاقتصادية والثروات الطبيعية للأمة. ولذلك، فإننا نضع ما صدر ويصدر عن مجلس الأمن من قرارات، سواء تلك التي استهدفت لبنان وسوريا أو التي ستستهدفهما، وكذلك ما يُحضّر ضد إيران في نطاق الحلقة الأخيرة من حلقات الاستهداف المباشر، والتي من شأنها أن تقود إلى توسيع نطاق الفوضى في المنطقة، إلاّ أنه من شأنها أيضاً أن تتحول إلى مقبرة حقيقية للمشروع الأمريكي الذي بات يترنّح بين خياريّ التقهقر أو الدخول في مغامرة جديدة يعرف أصحابها أنها ستكون مكلفة على جميع المستويات.
ولذلك، فليس أمامنا في لبنان إلا الوحدة في مواجهة هذا الواقع الذي لن يجد سبيلاً سهلاً يسلكه لتغيير صورة البلد ولا يملك المعطيات العملية للتغيير من الداخل، وإن كان يضغط ويهوّل من بعيد بالقرارات التي يمكن أن تشكل حالاً تراكمية في الحسابات ولكنها أعجز من اختراق حال الصمود والثبات الداخلي... إننا في الوقت الذي لا نهوّن من إمكانيات أمريكا وأوراقها، إلا أننا نعرف ـ في المقابل ـ أن ثمة إمكانيات كبرى وطاقات ضخمة في الأمة إذا أحسنّا توظيفها وتحريكها نستطيع ـ من خلالها ـ أن نعيد الحسابات الأمريكية والإسرائيلية إلى نقطة الصفر، لتبدأ محاولات تغيير الواقع القائم من جديد وبآفاق وطموحات جديدة.